وبعد أن وقفنا في رحاب الصديق رضي الله تعالى عنه, وفي حضرة الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه أيضاً, نقف اليوم أمام رجل حاز المكارم, وظفر بما لم يظفر به غيره, إذ لم يُزوِّج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنتين من بناته غير عثمان, عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه الخليفة الثالث, الذي قال أهل العِلم فيه: ما تزوّج أحد من بني آدم ابنتي نبيّ إلا هو, الذي انفرد من كل البشر بأنه ذو النورين, فبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بِضعة منه أي جزء منه, فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جزئين كريمين منه.
مكارمه أكثر من أن تُحصى, عثمان رضي الله عنه كان رجلاً ناعماً مُنعَّماً, ميسوراً مُيسَّراً له كل شيء, حيياً, جميلاً, لطيفاً, إذا نظرت إليه أحببته, وفوق سماته البشرية هذه رأينا في سيرته العجب العُجاب.
يروي الترمذي رحمة الله عليه, عن عبد الرحمن بن خباب, قال: (شَهِدْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحُثُّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ..) عندما كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلّم في حالة عُسرة مالية, والمطلوب على المستوى التكتيكي أن يُجهّز الجيش, لأن الدولة معرضة للخطر, ويجب تجهيز جيش للدفاع عنها, والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر في أصحابه ويحثّهم على البذل, يحثّهم على أن يدعم كل منهم هذا الجيش بما استطاع (..فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ مِئَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
ومئة بعير مُجهَّزة بكل ما يلزمها تعني بالمنطق الحديث ربّما مئة طائرة, ربما مئة دبابة, هو لا يُنفق مئة بعير, إنما يُنفق مئة بعير مُجهَّزة للحرب, ثم حضّ النبي صلى الله عليه وسلم على الجيش, فقام عثمان بن عفان فقال: (يا رسول الله عليّ مئتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله).
ثُمَّ حَضَّ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الْجَيْشِ فَقَامَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ فَقَالَ (يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيَّ ثَلَاثُ مِئَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) يقول عبد الرحمن بن خباب راوي الحديث, يقول: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل على المنبر وهو يقول: (مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ, مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ)
أما رواية أبي نُعيم في الحلية ففيها زيادة, قال صلى الله عليه وسلم فيها: (اللهم اغفر لعثمان ما أقبل وما أدبر, وما أخفى وما أعلن, وما أسرّ وما أجهر).
وفي رواية للترمذي أنه جاء مع ما جاء به من الإبل المُجهَّزة جاء بألف دينار من الذهب, يقول عبد الرحمن بن سَمُرة الذي يروي هذا الحديث قال: فرأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم يُقلِّبها في حجره..
ألف دينار ذهب.. هذه بالمنطق الاقتصادي قيمة مالية كبيرة جداً في زمن عُسرة, جعل صلى الله عليه وسلم يُقلِّبها في حجره ويقول: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ, مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ) قالها مرتين..
وهو ممن هاجر الهجرتين, فحين اشتدت المحنة في مكة هاجر إلى الحبشة, ولما عاد هاجر الهجرة الثانية إلى المدينة المنورة, وهكذا تُجمع له المكارم.
فهو ذو النورين, وذو الهجرتين.
وبعد ذلك حينما جاء المسلمون إلى المدينة المنورة, كان الماء المُستعذَب في المدينة المنورة
-بلغة عصرنا ماء الصحة التي هي أعذب المياه- يؤخذ من بئر اسمه بئر رومة, بئر رومة ماؤها عذب, ولذلك لما انفرد هذا الماء بعذوبته, كان يُباع بيعاً, فكان المسلمون إذا أرادوا أن يشربوا الماء العذب, اشتروا الماء من بئر رومة, والنبي عليه الصلاة والسلام دعا الأصحاب فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَهَا لِلْمُسْلِمِينَ؟)
هذا يعني أن يشتري أكبر مورد مائي في المدينة, مدينة تريد أن تشرب.. يعني على سبيل المثال في دمشق كانوا يشربون من "الفيجة", تصوروا أن يشتري شخص نبع "الفيجة" .. الآن يوجد نبع "بقين" على هذا المستوى.. تصوروا أن يشتري شخص نبع "بقين" إذاً ثمن هذا سيكون ثمناً كبيراً.
فيتقدّم عثمان رضي الله تعالى عنه, ويشتري هذه البئر ويجعلها لله ورسوله وللمسلمين, ويشرب الجميع, ويكون هذا الفعل الجليل العظيم في صحيفة عثمان رضي الله عنه.
لقد ورد أن من جملة أحداث يوم القيامة, أنه يأتي رجل ممن أُمِر به إلى النار, ويقول: يا رب إني سقيت يوماً من الأيام ذلك المسلم المؤمن التقي الذي تدخله الجنة, سقيته كأس ماء, فيدخله الله سبحانه وتعالى الجنة بكأس الماء, فماذا نقول في مقام من سقى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسقى أصحابه رضي الله عنهم؟!
وبعد ذلك نظر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كثُر الذين دخلوا في الإسلام, فقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَان؟) يوجد حاجة لتوسعة المسجد, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد شراء قطعة الأرض التي بجوار المسجد, ومن المعلوم أن الأرض التي تكون إلى جانب مكان مهم يرتفع ثمنها, فما بالك بأرض ملاصقة لمسجد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, سيكون ثمنها ثمناً باهظاً مُرهِقاً, لا يقدر عليه أحد, والنبي صلى الله عليه وسلم يريد بطلًا من الأبطال, يريد رجلًا عظيمًا من العظماء, يوفّر لهذه الأمة الإسلامية توسعة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسجده. قال: (مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدُهَا فِي الْمَسْجِدِ) ما هو المقابل؟ قال: المولى سبحانه وتعالى سيعطيه خيراً منها في الجنة.. فاشتراها سيدنا عثمان رضي الله عنه, لم يكن أحد يقدر على شرائها, فاشتراها من صُلب ماله.
وهو الذي كان مع النبي صلى الله عليه وسلم على ثبير مكة -جبل في مكة- ومعه أبو بكر وعمر وعثمان, فتحرّك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض, فركضه النبي صلى الله عليه وسلم برجله وقال: (اسْكُنْ ثَبِيرُ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ)
وهكذا تأتي الشهادة التي لا ترقى إليها شهادة, من أشرف شفة خلقها الله تبارك وتعالى, من شفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان سيدنا عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى, لم يكن سلوكه رضي الله عنه مجرد سلوك مالي مثل أي رجل غني عنده مال كثير ويُنفق, إنما كان سلوكه مُنبعِثاً عن حال, يمر على القبر فيبكي, فهو في روحانيته يملك من الشفافية الكبيرة التي تجعله حينما يمر بالقبر يتأثر تأثراً كبيراً, كم نمر بالقبور دون أن نتأثر, بل أصبحت حياتنا عجيبة غريبة, إذا مر الإنسان بقصر أو بقبر... عنده سواء, لا يوجد تأثر.
ربما أصبحت المقابر بالنسبة لنا عادة في أيام العيد, فتجد الإنسان يذهب وكأنه يذهب إلى زيارة صديق له, ولا يتذكر الآخرة, ولا يعلم أن هؤلاء أصبحوا في برزخ أخروي, ولا يعيش حال البرزخ, ولا يتواصل مع معاني الآخرة, إنما المهم أن يشتري شيئاً من الزهور, ويضع هذه الزهور على القبر.. والقبر الذي لا يأتي أهله لزيارته, ولا توجد عليه الزهور, ينظر إليه أهل المقبرة على أنه قبر مهمل, هذه هي المقاييس اليوم.
وبعد ذلك هناك حادثة, لو لم يكن لعثمان غيرها لكفت, وكل حادثة من الحوادث لو لم يكن له غيرها لكفت, لما بايع المسلمون رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر, وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بدلاً عن يد عثمان, لأنه كان قد أرسل عثمان في حاجة وكان يُمرّض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت بيعة الرضوان التي حكاها القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] كان عثمان السفير والمُرسَل إلى مكة, من أجل أن يحاور المشركين, ومن أجل أن يعقد معهم حلفاً أو اتفاقاً أو صلحاً, أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً واحداً, مكث المسلمون عند الحديبية, الحديبية تبعد حوالي عشرة كيلو متر, الذي ذهب إلى مكة يعرف الحاجز الذي اسمه الشميسي, في الطريق ما بين جدة ومكة, هذه منطقة موازية للحديبية, هكذا وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الحديبية وأرسل عثمان بن عفان إلى مكة وهو مُحرِم, والمسلمون يتوقعون أن عثمان ظفر بالوصول إلى مكة, ولابد أنه سيطوف بالبيت على الأقل, أو يقوم بعُمرة.. ولكن هاهو عثمان قد وصل إلى الكعبة وهو مُحرِم, والقيمة التعبدية حاضرة أمامه, وهو يرى الكعبة بعدما مُنع المسلمون من رؤيتها, لكن عثمان رضي الله تعالى عنه لم يطف بالبيت, فهو لا يطوف بالبيت إلا إذا طاف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ولا يعتمر إلا إذا اعتمر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, ويُشاع أن عثمان قُتل, ويتهيأ المسلمون ويُبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يُظهر إعجازه, المسلمون يبايعون رسول الله بيعة الرضوان, والناس يقولون: عثمان مات.. عثمان قُتل, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم
-والمسلمون يبايعون- يضرب بيده ويقول: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ) فيحوز عثمان رضي الله عنه خبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه حيّ, لأن المبايع يجب أن يكون حيّاً, ويحوز شرفاً كبيراً لا يحوزه غيره, إذ تكون يد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نائبة عن يد عثمان.
كنت أفكّر ما سِر جود يد عثمان, ما سِر كرمه؟ وبعد ذلك حين وقفت على حديث (هَذِهِ لِعُثْمَانَ) قلت: لا أستغرب بعد ذلك أن يكون عثمان أكرم الخَلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى يده له, وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو ينبوع المكارم كلها, هو ينبوع كل كرم, وحين يقول صل الله عليه وسلم وهو يمد يده الشريفة: (هَذِهِ لِعُثْمَانَ) إذاً تصوروا كيف ستكون يد عثمان؟
وفي خلافته رضي الله عنه لم تكن قبله الخصلتان اللتان كانتا له, لا في زمن أبو بكر, ولا في زمن عمر, خصلتان انفرد بهما سيدنا عثمان في خلافته عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهم جميعاً, فهو الذي جمع الناس على المصحف, ولولا عثمان لبقيت إلى هذه اللحظة نُسخ مختلفة في ترتيبها, من المعلوم أن قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] أول ما نزل, والآيات الأخيرة التي نزلت: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] وهذه كلها بترتيب نزول الوحي, لكن المصحف نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرتباً كما هو بين أيدينا, من سورة الفاتحة إلى سورة الناس, ودارس جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم المصحف عدة مرات, وسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بترتيبه من الأصحاب, لكن النسخ الموجودة المكتوبة فيها بعض النسخ المغايرة, المصحف كامل لكن مغايرة في الترتيب للنزول الأخير الذي نزل على قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى, وهناك نسخ مكتوب عليها هوامش, يعني شروح, وهذه النسخ كانت سبب ظهور ما يُعرف بالقراءة الشاذة, لأن النبي عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ القرآن, شرح كلمة, فتوهم الصحابي أن هذا الشرح إنما هو مندرج في التنزيل القرآني, فأدرجه.. وهذه القراءة الشاذة عند أهل العِلم هي في الاستدلال برتبة الحديث الصحيح, لكنها ليست قرآناً.
إذاً سيدنا عثمان أتى بالنسخ كلها, واحتضن الروايات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القراءات, القراءات الثابتة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, والتي نزلت على قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم منها: {يَعْلَمُونَ} ومنها {تَعْلَمُونَ}, منها مع الإمالة ومنها بدون إمالة, منها مع التفخيم منها بدون تفخيم, رواية حفص غير رواية ورش, أسلوب القراءة في ورش غير أسلوب القراءة في حفص, منها {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} ومنها {فَيُقْتَلُونَ وَيَقْتُلُونَ} فأراد سيدنا عثمان رضي الله عنه أن يجمع المسلمين على نسخة واحدة, يمكن لكل المسلمين أن يقرؤوها, فيكون مصحف واحد أما القراءات فمتناقلة عبر الصدور, فجمع الناس على نسخة واحدة نسخها, ونسخ منها عدة نسخ أرسلها في الأمصار, وأمر أن تُحرق كل النسخ, ولم يعد على وجه الأرض إلا هذه النسخة التي هي مطابقة وموافقة لما نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتتضمن كل القراءات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا إنجاز عجيب, حينما يكون سيدنا عثمان إلى يوم القيامة سبب توحيد المصحف, الذي هو دستور المسلمين إلى يوم القيامة, هذه واحدة لم تكن لسيدنا أبو بكر ولا لسيدنا عمر.
والثانية أن سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه عندما حصل ما حصل من الفتنة, وثار عليه من ثار, نظر فوجد أمرين اثنين, وضررين اثنين, الضرر الأول: أن يقتتل المسلمون, فريق يريد أن يدافع عن عثمان رضي الله عنه, وفريق يريد أن يُقاتل عثمان ومن معه, وستكون عند ذلك مقتلة عظيمة, والضرر الثاني: أن يضحي بنفسه ويحقن دماء المسلمين.
سيدنا علي رضي الله عنه أرسل الحسن والحسين وشباب الأصحاب كلهم حُرّاس حول دار عثمان, واجتمع مئات من شيوخ الأصحاب وشبابهم مُدرَّعين, مُجهّزِين, ستكون مجزرة دموية, وجاء الذين يريدون قتل عثمان, وإذا عثمان رضي الله تعالى عنه خليفة المسلمين يقول لكل حُرّاسه: اذهبوا إلى بيوتكم. عثمان رضي الله تعالى عنه لا يريد أن يُقتل أحد من أجله, فضحى بنفسه, فدى المسلمين كلهم بنفسه, قدّم نفسه فداءً حتى لا تسيل الدماء, وحمى بذلك المسلمين من مجزرة كبيرة ستكون في زمن خلافته, أي أنه آثر أن يُقتل صبراً, أرسل الحُرّاس كلهم إلى بيوتهم, فتسور القتلة على سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه وهو يقرأ القرآن, وهو يتوجّه إلى الله, وقُتل سيدنا عثمان وهو يقرأ القرآن, وسال الدم على مصحفه, ووقف عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137]
اكتفى بالله, هذا الاكتفاء بالله لا يكون إلا لمن وَثِق بالله, ورأى أن الدنيا إنما هي ممر, وأن المولى سبحانه وتعالى بيده مقاليد كل شيء, ورأى أنه راحل إلى صاحبيه, ورأى أنه مُلتحِق بحبيبه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان قبل ذلك رضي الله عنه إذا وقف عند المقام في مكة, يختم القرآن بركعة واحدة, وهذا خارق عادة, هذا لا يمكن أن يكون ضمن المعتاد, أقل ما يمكن في المعتاد أن يختم القرآن ترتيلاً, أن يُختم بيومين أو ثلاثة, لكن عثمان رضي الله عنه كان يختم القرآن عند المقام بركعة واحدة.
يروي عبد الرحمن التيمي كما في الحلية التي رواها بسنده أبو نعيم, قال: لأغلبنّ اليوم على المقام -يعني سأسبق الناس حتى أصلّي عند المقام- قال: فلما صليت العتمة -يعني صلاة العشاء- تخلّصت إلى المقام حتى قمت فيه, قال: فبينما أنا قائم إذا رجل وضع يده بين كتفيّ, فإذا هو عثمان بن عفان, قال: فبدأ بأم القرآن, أي بالفاتحة, فقرأ حتى ختم القرآن, فركع وسجد, ثم أخذ نعليه, فلا أدري أصلّى قبل ذلك أم لا.
قال هذا أنا شهدته, لكن قبل أن يُصلّي ويختم القرآن بركعة, هل صلى قبل ذلك وختم القرآن بركعة أيضاً قبلها.. أم أنها ركعة واحدة فقط ختم فيها القرآن؟
وتروي امرأة عثمان رضي الله تعالى عنه وعنها, عندما بلغها مقتل سيدنا عثمان, قالت: لقد قتلتموه وإنه ليُحيي الليلة بالقرآن في ركعة. إذاً هذه لم تكن فقط عند المقام, إنما كانت مما يتكرر.
أما حياء سيدنا عثمان فإنه عجيب, ولو لم يكن في حياء عثمان إلا خبر الحبيب صلى الله عليه وسلم: (أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ) وهذا حديث في صحيح مسلم.
سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحي من عثمان, والملائكة تستحي من عثمان.
كنت في أحد المؤتمرات العالمية وسئلت: كيف يستحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الكائنات, وهو أفضل خلق الله, من عثمان وهو أحد أتباعه وأصحابه؟
قلت لهم: الحياء من أخلاق الله, وعثمان رضي الله عنه كان مرآة انطبعت فيها أخلاق الله, أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم كان مرآة, وكل منهم انطبع فيه خُلُق من أخلاق الله, المرآة الجامعة لكل أخلاقه تعالى هي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, فالخُلُق الذي انطبع في مرآة سيدنا عثمان كان الحياء, فكلما نظر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه المرآة, رأى فيها خُلق من أخلاق الله, فاستحى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله وهو ينظر إلى خلقه في مرآة عثمان.
وربما كان وهو خليفة المسلمين ينام في المسجد في ملحفة على الحصى, وليس حوله أحد, كان المسجد كما تعلمون في بداية الأمر رملي, ولما كثر نزول الأمطار, أحضر المسلمون الحصى من الوادي العتيق, وفُرش المسجد النبوي بالحصى, عند ذلك لم يعد المسلمون يُؤثر فيهم الطين, كان قبل ذلك يسجد المسلمون في الطين عند نزول الأمطار, لأن سقف المسجد كان من جريد النخل, فلم يكن يمنع نزول المطر, وبعد ذلك لما فرش الأصحاب في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحصى شكّل طبقة عازلة بعيدة عن الرمل, أصبح المسجد مفروشاً بالحصى, فكان سيدنا عثمان رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين يدخل إلى المسجد, فيعتكف فيه بعض الساعات, وينام في هذا المسجد ويغطي نفسه بملحفة, يلتحف بشيء من الثياب أو شيء من الأغطية, فيقوم وقد أَثّر الحصى في جنبه, من نظر إليه بعد أن يقوم, وجد على وجهه وجسده أثر الحصى.
وكان يطعم الناس طعام الإمارة, إذ في زمن عثمان رضي الله عنه كَثُر المال, فكان سيدنا عثمان رضي الله تعالى عنه يُكرم الناس ويطعمهم.
قال علماء الدراية الذين قرؤوا السيرة, قالوا: إن الناس قد حصلت لهم في زمن أبو بكر رضي الله تعالى عنه الكفاية, أي لم يعد أحد محتاجاً, أو على الأقل كانوا في الكفاف, لكن في زمن عمر رضي الله تعالى عنه انتقلوا من الكفاف إلى الكفاية والاكتفاء, أي أنهم أصبحوا لا يحتاجون إلى شيء, أما عثمان فإنه أغناهم, لكن بعد أن يُطعم الناس طعام الإمارة, كان يدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت, ناس يُطعمهم أطايب الطعام, ويدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت, وهو ينظر إلى هذه الدنيا نظرة استخفاف.
من أقواله رضي الله عنه, قوله: (لو أني بين الجنة والنار, ولا أدري إلى أيتهما يُؤمر بي, لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير..)
سيدنا عثمان خائف.. ونحن لسنا خائفين.. ونأكل الطعام دون أن نتحرى في حلاله وحرامه, فيه شبهة أو ليس فيه شبهة..ويقول قائلهم في المثل الشعبي: هات صوف وخذ خروف..
عثمان يخرج عن ماله, عثمان يزهد في الدنيا, عثمان يشهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو يلتزم مقام الخوف والخشية.
وعاد مريضاً -أي زار مريضًا- فقال له: قل (لا إله إلا الله). فقالها, فقال: (والذي نفسي بيده لقد رمى بها خطاياه فحطمها حطماً). قيل له: أشيء تقول؟ أي هذا من عندك, أو شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: (بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقلنا: يا رسول الله هذه هي للمريض, فكيف هي للصحيح؟) يعني هل هذا الأجر للمريض فقط عندما يقول وهو في مرضه: (لا إله إلا الله) تتحطم ذنوبه, أم أن الذي يكون سليماً صحيحاً في بدنه إذا قالها تتحطم ذنوبه أيضاً؟ فقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (هي للصحيح أحطم) يعني الذنوب تتحطم عند قولك (لا إله إلا الله) وانفعالك في معناها, واستغراقك وتعظيمك لما تدل عليه, تخرج من الخطايا, لأنك تخرج من الشِرك الخفيّ إلى حقيقة التوحيد, ومن استغرق في حقيقة التوحيد وصار مُعظِّماً لله تبارك وتعالى تُغفر ذنوبه, وتُستر عيوبه, ويكون من المقبولين عند الله تبارك وتعالى.
هذا مختصر في معاملات سيدنا عثمان وأفعاله, وأخلاقه وأحواله, نسردها في مجلس الإيمان هذا للاعتبار, لا من أجل أن نأخذها قصة تاريخية تتسع بها ثقافاتنا, لكن من أجل نُحضِر في قلوبنا وعقولنا هذه النماذج, كما ننظر إلى الأسوة المعصوم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم, ننظر إلى الأقمار الذين اهتدوا بهداه, وساروا على منهاجه, وتأثروا بأحواله صلى الله عليه وسلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُؤدّبنا بآداب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم, وأن يُخلّقنا بأخلاقه.
|