الحمد لله رب العالمين، اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحديث الرابع في باب تحريم الظلم والأمر برد المظالم، من كتاب رياض الصالحين الذي جمعه الإمام النووي رحمة الله عليه ونفعنا الله به آمين، جمعه من كلام الله وهدي حبيبنا ومولانا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال بسنده:
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: (مَنْ ظَلَم قَيدَ شِبْرٍ مِنَ الأرْضِ طُوِّقَهُ منْ سَبْعِ أَرَضِينَ) متفقٌ عليه.
تقدم أن الظلم قد يكون بالأقوال, وقد يكون بالاعتقاد, وقد يكون بالأفعال, وها هنا حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى نوع من أنواع الظلم, وهو الظلم في المعاملات التي تختص بالأرض، قد يكون الظلم من أنواع أخرى: قد يظلم الإنسان بلسانه, وقد يظلم بقلبه, وقد يظلم بمنع حقوق الفقراء, وقد يظلم بالغش, وقد يظلم بالاحتكار, وقد يظلم بالسرقة، لكن ها هنا ينبهنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا الظلم أو هذا النوع من الظلم الذي هو الظلم في الأرض.
والمصطفى عليه الصلاة والسلام نبه في المعاملات أن الجزاء يكون من جنس العمل, فإذا كان رجل يملك جمالاً, أو يملك أبقارًا, أو يملك أغنامًا, ويمنع حق الفقير, ولا يؤدي زكاتها يأتي يوم القيامة وهو يحملها على عنقه، يحمل ناقة, يحمل بقرة.... يحمل ما منعه، وما ظلم فيه من زكاة الأنعام.
وأنواع الظلم في الأرض كثيرة جدًا: فمن ذلك حينما يكون للإنسان تجارات من نوع التجارة بالأرض وهذا من البلاء الكبير الموجود في مدينتـنا، الناس يتاجرون بالأرض, ولا يُخرجون زكاة هذه الأرض, ويأتي بعض الذين يخدعونهم, ويقولون للتاجر: يجوز لك أن تتاجر بالأرض خمس سنوات أو ست سنوات, وبعد ذلك تخرج زكاتها عن سنة واحدة، وهذا الحكم -الذي اقتـنصه بعضهم من بعض ما ورد في مذهب الإمام مالك رحمة الله عليه- كان يشير إلى الأرض في ذلك الزمان، الإمام مالك ما كان يفتي بالمسألة إلا بعد حصولها، والأحكام تتغير بتغير الأزمان، اليوم الأرض فيها من النماء ما ليس في غيرها، وأكثر التجار الذين كثرت أموالهم في هذه البلاد وفي غيرها من تضاعف أثمان الأرض، حتى إن أثمان الأرض تضاعفت ربما في بعض الأحوال إلى ما يزيد على ألف ضعف.
إذًا النماء في هذا النوع من عروض التجارة صار أكبر بكثير من أي نماء آخر، ولذلك على الإنسان أن يؤدي حق الله فيها, وهذا حق الفقير، وقلت مرارًا لو أن زكاة الأراضي في مدينة حلب فقط أخرجت لما بقي فقير في سوريا كلها، أراضي أهل حلب لو أخرجت زكاتها لما بقي فقير في كل بلاد الشام، فكيف لو أخرج أهل بلاد الشام كل الزكاة من الأرض، إذًا منع هذه الزكاة ظلم كبير.
ثم ربما يحصل ظلم من نوع آخر: حينما يغتصب الإنسان أرضًا، أو حينما يتعدى على حقوق أي شخص من البشر مسلم أو غير مسلم، ليس الدين بأن يحمل الإنسان مسبحة طويلة ويذكر مئة ألف مرة من الأذكار وعندما نأتي إلى المعاملات نجد أنه مكّار غشاش لص، أبو العلاء المعري رحمه الله قال:
جهل الديانة من إذا عَرَضَت له أطماعُه لم يُلف بالمتماسك
لذلك اغتصاب الأرض أو السرقة منها، أو العدوان على أرض غيره, والتصرف في ملك غيره بغير إذنه كل ذلك من الظلم، ومن ذلك أن يكون متذرعًا بحجج كأن يستأجر مكانًا ويرفض الخروج منه، ويذهب إلى بعض الذين يحتالون ليجد له تخريجًا قانونيًا مخالفًا للشريعة، هذا كله من الظلم الكبير، هناك الظلم في الوقف، والوقف من أعظم العبادات التي يتقرب بها إلى الله حينما يحبس عينًا ويجري منافعها للناس، هذه عبادة، سيدنا عمر رضي الله عنه ملك أرضًا لم يملك أنفس منها، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما أفعل بها يا رسول الله، فأمره المصطفى أن يحبس عينها حتى تبقى هذه العين باقية إلى يوم القيامة, وتبقى منافعها إلى يوم القيامة ينتفع بها المسلمون.
إذًا عندما يأتي إنسان إلى مثل هذا الوقف لله ويظلم فيه، ويمنع المنافع التي فيها شرط الواقف، وقس على ذلك، ماذا سيكون جزاؤه؟
هذا الذي يحكيه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذي سينتظر هذا الظالم في الأرض؟ ما الذي سيكون؟
إذا أخذنا شبرًا من الأرض في الكتلة الصخرية, وأخذنا امتداده إلى باطن الأرض, كم سيكون حجمه؟
اليوم حتى يستخرجوا البترول يحفرون آلاف الأمتار في الأرض, فكيف إذا أردنا أن نصل إلى مركز الأرض؟
لقد قدر نصف قطر الأرض بنحو /6371/ كيلو مترا, فإذا أخذنا امتداد شبر من الكتلة الأرضية على كل هذه المسافة فكم سيكون حجمه؟
حجم الكتلة سيكون أكبر من مدينة حلب تقريبًا, لو وُجِد جبل يغطي مدينة حلب, جبل من أقصى شرق حلب إلى أقصى غرب حلب, يكون هذا أقل بكثير بكثير بكثير من الكتلة التي سيحملها الظالم على عنقه يوم القيامة، وهو لا يشعر في الدنيا بهذا, بل تجده يفرح بأنه حصَّل قرشين أو ثلاثة بالظلم, ولا يعلم أنه حصل جبلين أو ثلاثة فوق رأسه يوم القيامة.
إذًا الذي يحمل بقرة أهون من الذي يحمل جبلاً كبيرًا أكبر من محافظة حلب.
هذا الذي يظلم في شبر فكيف إذا ظلم في مئة متر مربع؟! عندما يظلم في مئة متر يمكن أن لا تكفيه سوريا كلها جبالاً، هذا كله من تصوير الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، هذا على افتراض أن السبع أراضين كما قال بعضهم هي سبع طبقات من الكرة الأرضية، وأنا لا أميل إلى هذا، أميل إلى أن السبع أراضين هي الكواكب في المجموعة الشمسية، إذًا الشبر على الأرض كم يعادله من الشبر على المشتري؟ وكم يعادله من الشبر على زحل؟ هذا كله إلى باطن مركز الكرة، وبعد ذلك يجب أن نحسب الكتلة الحاصلة من كل هذه الامتدادات, ونتأمل حينما تجتمع كلها ليحملها الظالم على عنقه يوم القيامة، هذا الظلم في شبر من الأرض، شيء مخيف جدًا,كنا عندما نقرأ أحاديث الظلم في الزكاة في الأبقار والجمال نتساءل كيف سيحمل الظالم جملاً يوم القيامة؟ كيف سيحمل ناقة؟ كيف سيحمل بقرة؟ كيف سيحمل كل هذا في موقف يوم القيامة الذي هو أصعب المواقف على الإنسان.
لكن لماذا كان للظلم في الأرض كل هذه العقوبة المضاعفة؟
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (طوقه من سبع أراضين) ما سرُّ ذلك؟
السر في ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الأرض لله)، والله سبحانه وتعالى يقول {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} [النساء:97] فالظالم بهذا يعتدي -حينما يعتدي في حقوق الأرض- على الله، وهذه جريمة كبيرة, وقد ورد في الحديث القدسي: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)، لو أن الأمة الإسلامية أخذت بهذا الحديث, ولم يظلم الناس بعضهم بعضًا، وانتفت المظالم، فسنرى البركات تظهر من على أيمانـنا وشمائلنا, كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] كلمتان {آَمَنُوا وَاتَّقَوْا} {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا} البركات لا تـنـزل علينا إلا بهذين الشرطين {آَمَنُوا وَاتَّقَوْا} الإيمان يقتضي استغراق القلب في تصديق خبر الله، كل ما قاله الله سبحانه وتعالى يقين لا يمكن أن يلتفت القلب إلى غيره {وَاتَّقَوْا} التقوى ليست بكثرة الطاعات، التقوى: بالابتعاد عن المحرمات، أما كثرة الطاعات فاسمها: البر، يجب أن لا يخلط الإنسان، التقوى: ترك، والبر: فعل، فالجامع لترك ما نهى الله عنه اسمه: التقوى، ونوره ينبعث من القلب، لذلك قال صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (التقوى ها هنا)، لأن الإنسان حينما يشرق قلبه بتعظيم الله تبارك وتعالى ينتج ذلك تركًا لما نهى الله عنه، والأصل عندنا الإباحة، قال تعالى { بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} [هود:86].
ما هو مثال المحظورات بالنسبة لما تركه الله لنا من المباحات الذي اسمه بقية الله؟
بقية الله كل المباحات هذا اسمه بقية الله، وبعد ذلك الذي هو من المحرمات ما مثاله إلا مثال شجرة واحدة في الجنة, مثَّلها الله لنا حينما أشار إليها بقوله: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة:35] ما قال لا تأكلوا , قال: {وَلَا تَقْرَبَا} كما قال: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32].
إذن ابتعد عن هذه الحدود وبعد ذلك أنت مرضي من الله، القضية ليست قضية أذكار، بأن تقول عندي في النهار خمسة آلاف مرة من الذكر الفلاني والذكر الفلاني والذكر الفلاني،وأنت تقع في المحرمات, ما الذي ينفع إذا جئنا إلى مكان قاذورات وأردنا أن نجمله؟ الطاعات تجميل لكن المحظورات قاذورات, فعندما لا ينظف الإنسان جوارحه وقلبه من هذه القاذورات، لا يستفيد من الطاعات.
سر التقوى الابتعاد عن الحدود. (اجتـنب المحارم تكن أعبد الناس) المسألة بسيطة، المولى تبارك وتعالى أباح لك كل شيء،{ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29] خذ ما تشاء ودع ما تشاء من المأكل والمشرب والملبس, هذا شغلك، ولكن إياك ثم إياك ثم إياك أن تقترب من الحدود البسيطة, التي مثالها شجرة واحدة في جنة عرضها السموات والأرض، {آَمَنُوا وَاتَّقَوْا} فإذا تحققت في الأمة هاتان الصفتان: الإيمان والتقوى تكثر البركات, ولكن المظالم هي المانع الذي يمنع الإنسان من دخول الجنة، لو أن الإنسان أدى كل الواجبات, فإن آخر شيء يسأل عنه بعد أن يكون قد سئل عن حجه وزكاته وصلاته و... هو المظالم, تبقى نقطة تفتيش لا يستطيع أن يتجاوزها وهي نقطة المظالم.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يقينا إياها, وأن يجنبنا إياها, ونسأله سبحانه أن يتولانا بولايته بسر الفاتحة.
|