الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
4-6-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بين قوله تبارك وتعالى وهو يخاطب هذه الأمة :
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ) التوبة (128).
وقوله :
(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) الأحزاب (21).
يتعرف الإنسان إلى مسافة الطريق إلى الله؛ فالمساحة في الخطاب هي ما بين النفس والأسوة.
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ)..... (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ ُأسْوَةٌ).
والمسافة التي ينبغي على الإنسان أن يقطعها مسافة تبدأ من سماع نفسه خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنتهي بالتأسي به الذي يعني تمام الامتثال والاستسلام والاستغراق والاستهلاك في حضرة جناب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإذا انتقلنا إلى خطاب آخر في كتاب الله تبارك وتعالى من الخطابات التي يلخص بها مقصود الإنسان في سيره ذاك نجده مجملاً في قوله جل من قائل:
(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون) الذاريات (56).
وكأن تلك المسافة ( من النفس إلى التأسي ) تختصر ويعبر عنها في لغة الخطاب الأخرى بـ ( العبودية ) .
فإذا تنزهت في رياض القرآن، وسبِحت في بحار أسراره ومعانيه رأيت كل رسول من الرسل يخاطب قومه فيقول لهم : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) .
( العبودية ) تقرأها مراراً وتكراراً وتتحرك بها ألسنتنا ونحن نتلوا القرآن، لكنك ترى سطحية في فهمها ، ومروراً عابراً عليها .
فهل علمت ماذا يعني أن تكون عبداً ؟
هل أدركت أغوار الكلمة ؟ هل استطعت أن تنفذ في أقطارها..؟
قلت لواحد من إخواننا الذين يشتغلون في تعليم الفقه، علِّم الناس ما ورد في الشريعة من أحكام الرق والعبيد ، علمهم حكم العبد وعتق الرقبة...
ولمّا تعجب ذلك الأخ وهي من الأحكام التي لا صدى لها اليوم على المستوى العملي، قلت إنني لا أعني أن يتعلمها الناس للتطبيق ، لكنني أريد للناس أن يتذكروا مفهوم العبد، وواجبات العبد، وأن يفهموا معنى العبد الآبق الذي لا تقبل صلاته.
( العبودية ) التي حوَّلها الإنسان بسطحيته إلى مجرد حركة ميكانيكية، وما ذاك إلا لأن العالم يعيش سيطرة الآلة ، وتحكم الآلة في سلوكه، حتى لقد قال لي واحد من الغربيين : إن تعداد الآلات في العالم أصبح أكبر بكثير من تعداد البشر.
وقال لي : أدخل إلى بيتك وأحص ما في بيتك من الآلات وما في بيتك من البشر فستجد أن الآلة قد أخذت مساحة البشر ثم نفذت بعد ذلك إلى الإنسان نفسِه لتحوله إلى آلة، وما كانت العبودية تعني مجرد حركة، فالحركة انفعال، وإذا وجدت العبودية كانت الحركة انفعالاً لتلك العبودية.
وهكذا ونحن نتحدث في الدعوة والدعاة، قد رأينا أن المجتمع يحتاج إلى هذا الحديث، بل نحن بأمس الحاجة إلى الحديث عن الدعوة والدعاة، نُسمعه قلوبنا وعقولنا وأنفسنا قبل أن نسمعه الآخرين ، لا سيما في سياق الحديث عن دعوة الله التي تتوجه إلى الفرعنة والتي تحدثنا فيها مراراً من خلال الخطاب القرآني الذي نقل لنا مضمون خطاب موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون.
وقلت لكم إن الخطاب في الدعوة سواء كان لسان موسى عليه الصلاة والسلام أو على لسان عيسى أو نوح أو إبراهيم أو محمد عليهم الصلاة والسلام؛ فمضمون الدعوة واحد حتى وإن تنوعت وتعددت الشرائع .
بل إن الله سبحانه وتعالى ربط في سورة الدخان ربطاً صريحاً بين دعوتي سيدنا محمد و موسى عليهم الصلاة والسلام، ورسالة موسى هي الرسالة الأخيرة قبل رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لأن رسالة عيسى جاءت مصدقة لرسالة موسى.
واقرؤوا هذا النص في كتاب الله :
(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى)
الخطاب يتوجه إلى أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ) الدخان (13).
هو سيدنا محمد.
(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ، إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ) الدخان(14-15)
فأنتم لا تتعلمون من المحن، ولا تتعلمون من الشدائد، وكلما مرت المحن والشدائد رجعتم إلى ما كنتم عليه من اللهو والغفلة.
(إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) الدخان(15-17)
انظروا إلى هذا الانتقال بين الرسالتين وبين المدعوين.
وقد قلنا إن زمن الفرعنة وإن مضمونها مستمر، كما أن الذي يقابله من الدعوة مستمر أيضاً.
(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ) الدخان (17) .
هو موسى عليه الصلاة والسلام .
( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ) الدخان (18) .
أي أطيعوني فيما أدعوكم إليه من الإيمان بالله .
لا تطيعوني لو رأيتم أنني أطلب مادة منكم، أو سيادة أو ملكاً، وقد عُرض الملك على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وعرض المال عليه، وعرضت النساء عليه، وعرض عليه كل ما في أيديهم لكنه قال :
(لا أريدهم إلاَّ على كلمة لو قالوها تخضع لهم العرب وتدين لهم العجم فانتفض أبو جهل وقال كلمة؟ وأبيك نعطيك عشرا قال : لا إله إلا الله، فأعرض وقال أجَعل الآلهة إلهاً واحداً ).
هذه هي نقطة الانطلاق إلى العبودية ( لا إله إلا الله ) ، حين يستقر نورها في القلب قبل أن يفرز السلوك.
( أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) الدخان (18).
انظروا إلى قوله تعالى على لسان موسى ( إني لكم رسول ) أحمل رسالة، لا دخل لي في وضع مضمونها، أحمل رسالة بأمانة ولا أُحرِّف فيها.
إذاً فأنتم أمام خطاب صانعكم، ومولاكم، أنتم أمام خطاب ربكم، والمقابلة ليس بيني وبينكم.
هذا شأن الدعاة، إنهم حملة رسالة، ولا يشترط فيهم إلا أن يحملوا تلك الرسالة بأمانة، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) الدخان (18)، والدعاة يحملون رسالة الرسل عن الرسل.
الرسل يحملون الرسالة من الله إلى البشر، والدعاة يحملون الرسالة من الرسل إلى البشر، فإذا حُملت الرسالة من غير تحريف واستمدت من مضمون الرسالة ما تتبناه من التعريف، عند ذلك يتوضح التكليف، وعند ذلك يحسن التوظيف، وعند ذلك نؤيد بالتشريف.
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ) الدخان (18).
فما مضمون هذه الرسالة ؟
جاءت الواو بعدها مفسرة :
(وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ) الدخان (19).
هذا مضمون الرسالة، (وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ) إنه مفهوم العبودية، (وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ) فالواو هنا تفسر ما قبلها وتحمل مضمون الرسالة التي نقلها بأمانة ، فمضمون تلك الرسالة إذاً :
(وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ).
هذه الكلمة التي ينبغي أن يقف الإنسان عندها طويلاً، وأن يفهم أسرارها، وأن يستمد من أنوارها وأن يتحقق بحقائقها، فإذا أردتم دلالة على أنني أحمل الرسالة بأمانة: ( إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ).
فما معنى (وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ) ؟.
يا أيها الإخوة الأحبة .. يا أيها الشباب .. يا أيها المثقفون .. يا أيها العقلاء .. يا أيها الأقوياء .. يا أيها المسؤولون. . يا أيها الملوك .. يا أيها الحكام .. يا أيها المدراء .. يا أيها العلماء .. يا أيها المبدعون .. يا أيها المخترعون .. يا أيها الناشطون .. يا أيها الدعاة : (مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) النحل (53).
أعلمُ مَن خَلقَهُ الله محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى له :
( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) النساء (113).
كنت في الصباح الباكر أتوجه بقلبي إلى حضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحببت أن أخاطبه صلوات الله وسلامه عليه بخطاب ينبعث من باطني، فماذا أقول له ؟
هل أقول له الصلاة والسلام عليك يا أعلم خلق الله ؟
هل أقول له الصلاة والسلام عليك يا أفضل خلق الله ؟
هل أقول له الصلاة والسلام عليك يا سيد الكائنات ؟
هل أقول له الصلاة والسلام عليك يا أيها السبب الأعظم ؟
لكن الذي ورد على قلبي ووجدت أنه يتناسب مع المعنى الذي كان باطني يتأمل فيه أنني قلت له (الصلاة والسلام عليك يا عبد الله ويا رسوله ) .
وليس أحدٌ من البشر تحقق بحقيقة العبودية كما تحقق بها محمد صلى الله عليه وسلم .
ها هو يدخل فاتحاً مكة أُمَّ القرى.. العاصمةَ المقدسة .. مركزَ الأرض .. وأي فتح أعظم من هذا الفتح؟
وأي قيادة أعظم من هذه القيادة ؟ وهو مدجج بالسلاح ، لا تقابله قوة تذكر ، والرايات من حوله، والألوية حوله مرتفعة، والتكبير والهتاف معه ، وجيش مدجج يفديه بالروح، وخطة عسكرية محكمة فيها الحرب النفسية، فقد أشعل النيران في الليل من حول مكة حتى يتوهم الناس أنه قد قدم بمئات الألوف، وصف الجند صفاً يُذهل من نظر وتأمل فيه ، وجعل كتيبته التي هو قائدها وقلبها مدججة بالسلاح ، وهو يدخل البلد الذي فيه الكعبة، البلد الذي فيه أول بيت وضع للناس، لكنه يدخل إليه ساجداً .
أما رأى أحدكم خطاباً للنازيّ هتلر؟
أما رأى أحدكم كلمة من الكلمات التي كانت الأمة العربية وغير العربية تسمعها من فراعنة الزمان وهم يتطاولون، ويتبجحون ويكذبون...
أما محمد صلى الله عليه وسلم فإنه دخل على ناقته ساجداً.
وماذا قال يوسف حين اعتلى عرش الملك؟. هل طغى؟ هل تجبر ؟. قال :(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْك) يوسف (101).
آتيتني ... فما أتيت أنا بنفسي بملك ولا سيادة .
وامرأة العزيز التي راودته في يوم من الأيام، يوم أن كان عبداً لها نظرت إليه في موكب الملك ولم يبق لها من الدنيا شيء وقد أصبحت عجوزاً لا يؤبه لها، فبكت وقالت : سبحان من أذل الملوك بمعصيته، وأعز العبيد بطاعته !
(وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) يوسف (101).
فما قال أنا صاحب المكاشفات ولا قال أنا صاحب المعجزات ولا قال أنا صاحب الآيات ولا قال أنا صاحب الخوارق.
ذلك هو المضمون الذي يحتاج الشباب إلى ذوقه، ويحتاج الناجحون إلى استشعاره، لأن الناس، وأعني بالناس هنا من يقدِّم للإسلام خيراً.
ورحم الله من قال :
ما الناس سوى قوم عرفوك
ربما رأى أحدنا مزية له فأقام الدنيا خيلاء وفخراً .
(وَأَنْ لاَّ تَعْلُوا عَلَى اللهِ)
فهو الذي أعطاكم.
وأن لا تعلوا على الله فهو الذي علمكم.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ فهو الذي أمدكم.
وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ فأنتم في موقف العبودية بين يديه.
متى سنفهم يا إخوتي بقلوبنا وأرواحنا معنى قوله :
(وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) العلق (19).
أنتَ أيها الإنسانُ في بعد طالما أن قلبك بعيد عن حقيقة السجود، وأنت في قرب طالما أن قلبك قد ذاق معنى السجود.
السجود الذي تفيض فيه العبرات، وتخاطب فيه مولاك وتستشعر في الخطاب ذُلَّك، وحاجتك، واضطرارك...
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فاطر (16).
اللهم ردَّنا إلى استشعار عبوديتنا واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة