الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
التربية القيادية للطفل والمراهق
في التربية
سوريا/حلب
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
تمهيد:

لئن كانت الطفولة منطلق بناء الإنسانية، فإنَّ اكتشافَ قادة المستقبل بين الأطفال ورعايتَهم يعود على المجتمع بالخير الكبير، فما تأثيرُ كُلِّ الناس في الناس سواء، تجدُ واحدًا منهم يعجِزُ عن التأثير في أيِّ أحد، وتجد من يؤثِّرُ في المئات والألوف.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين: بأبي جهل أوبعمر بن الخطاب) لأنَّ كُلًّا منهما كان صاحبَ استعدادٍ قيادي، وسيكونُ دخولُه في الإسلام مؤثِّرا تأثيرًا اجتماعيا واسعا.
فالاهتمام بأصحاب الطاقات المميَّزة، والمواهب الإبداعية يؤسس قاعدةً قوية لمجتمعٍ قوي.

البحث:

1- كيف تتشكل نواة الاستعداد القيادي؟
2- كيف يُكتشف الاستعداد القيادي؟
3- كيف يُتابَعُ وينَمّا الاستعداد القيادي؟

1- كيف تتشكل نواة الاستعداد القيادي؟
أ- الوراثة: مما لا شكَّ فيه أنَّ للوراثة أثرا في تكوين هذا الاستعداد، وهو أمرٌ منظورٌ بالاستقراء، وربما دلَّت عليه دلالة خفيَّةً بعضُ نصوصُ الكتاب المنير.
قال تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ {16} النمل
وقال تعالى: إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ {33} ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ {34} آل عمران
وقال r : " تخيروا لنطفكم، فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن"[1]
ب- التكوين الأول السليم للشخصية: ويعينُ عليه احتضانُ الأمِّ لطفلها وإرضاعُه.
قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ (7)القصص
وقال: وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى {6}الطلاق
ويعين على تكوين شخصيته معاملته بالرفق والعناية والحنان، واعتباره في طفولته الأولى سيدا مطاعا، فلا مجال للحديث في هذا التكوين الأول عن العقوبات.
ويستأنس بما أخرجه الطبراني في الأوسط/عن أبي جبيرة مرفوعا:
"الولد سيد سبعَ سنين، وعبدٌ سبعَ سنين، ووزيرٌ سبعَ سنين .. الحديث [2].
ويعين على تكوين شخصيته وجود الأمن والطمأنينة في المكان الذي ينمو فيه، وانعدام النـزاعاتِ القريبة منه بين الأبوين، لأنَّ ذلك ينتج اضطرابا نفسيا لديه.
قال r: لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ[3].
ولاختيار اسمه دورٌ في بناء شخصيته القيادية، فالأسماء الدالَّة على القوة والحريَّةِ من الأشياءِ تؤتي أُكُلَها التربوية كلما ناداه الناسُ بها.
قَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ"[4].
فعَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ : يُشعر بالحرية من الأشياء، والقوة المنبعثة من استعانة العبد بمولاه القوي السيد له.
وحَارِثٌ وَهَمَّامٌ : يُشعِرُ بالهمة والاستعداد للعمل الجاد .. أما حَرْبٌ وَمُرَّةُ: ففيه الإنذار بالشر والقبح، لذلك استقبحه r .
ومما يعينُ على تكوين شخصيته القيادية في مراحل طفولته الأولى تدريبه المبكِّرُ على النطق الفصيح الجريء، وإسماعُه الأنشودة الخفيفة المداعبة.
وقد كان r يرقِّص الحسن والحسين، ويقول لكلِّ منهما:
حُزُقَّةٌ حُزُقَّةٌ ترقَّ عينَ بَقَّة
يقول ذلك مداعبة وإيناسا، فكان الواحد منهما يترقّى حتى يضع قدمه على صدره الشريف.[5]
والحُزُقَّةٌ: الصغير الضعيف، أي يقول له يا من هو صغيرٌ كعين البقَّة ترقَّ على صدري.
ومما يعينُ على تكوين شخصيته القيادية في مراحل طفولته الأولى عدم التفريق بينه وبين إخوته، ذكرا كان أو أنثى، ويستأنس في هذا بحديثه r:
"إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم، حتى في القبل"[6]
وقَالَ r: "مَنْ كَانَتْ لَهُ أُنْثَى فَلَمْ يَئِدْهَا وَلَمْ يُهِنْهَا وَلَمْ يُؤْثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا قَالَ يَعْنِي الذُّكُورَ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ"[7].


2- كيف يُكتشف الاستعداد القيادي؟

للتكوين الأول سماتٌ كثيرة يستطيع الباحث والمربي من خلال ملاحظتها اكتشاف الموهبة الخاصة المتميزة، فملاحظة المربي لأصول الطفل المميزة ثقافيا واجتماعيا التي ولد هذا الطفل اليافعُ منها، ونوع البيئةُ التي نشأ فيها تُوَجِّهُ إلى احتمال موهبته المتميزة.
وقد يشير إلى ذلك خطابه r لزوجه عائشةَ الشابة بقوله: (يا ابنة أبي بكر) مذَكِّرا لها بأصولها المميزة، وذلك بعد دخوله معها في فراشها ولحافها قال لها:
"يا ابنة أبي بكر ذريني أتعبد لربي" فقالت: إني أحب قربك لكني أوثر هواك..[8]
و مما يُوَجِّهُ المربّي إلى معرفة موهبته المتميزة، ملاحظته لسلوكه الممَيَّز الدالِّ على تلك الموهبة الخاصَّة.
قال ابن مسعود:
كنتُ غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وقد فرا من المشركين فقالا: يا غلام هل عندك من لبن تسقينا قلت: إني مؤتمن ولست ساقيكما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل عندك من جِزْعَةٍ لم ينـزُ عليها الفحل قلت: نعم فأتيتهما بها فاعتقلها النبي صلى الله عليه وسلم ومسح الضرع ودعا فحفل الضرع ثم أتاه أبو بكر رضي الله عنه بصخرة منقعرة فاحتلب فيها فشرب وشرب أبو بكر ثم شربت ثم قال للضرع: اقلص فقلص فأتيته بعد ذلك فقلت: علمني من هذا القول قال: إنك غلام معلم قال: فأخذت من فيه سبعين سورة لا ينازعني فيها أحد.‏[9]
فقد لاحظ النبي r أمانته أولا، ثم لاحظ حرصه وهو ما يزال طفلا على تَعلُّم القرآن، وهو لا يدرك إلّا أنَّه قولٌ بليغ، فقال له عندها وهو يفصح عن اكتشاف الموهبة: إنك غلام معلم، وكان ما قاله r فيه حقا، فقد قاد ابن مسعودٍ فيما بعد مدرسة فقهٍ كان من ثمراتها الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان.
ومن ملاحظاته r التي رأى فيها الموهبة الخاصَّة، ما ورد من خبر ابن عبَّاسٍ رضي الله عنه، قال : "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من آخر الليل، فقمت وراءه، فأخذني، فأقامني حذاءه، فلما انصرف، قال: ما لك؟ أجعلك حذائي فتخنس؟ قلت: ما ينبغي لأحد أن يصلي حِذاءك وأنتَ رسولُ الله، فأعجبه، فدعا الله أن يزيدني فهمًا وعلمًا"[10].
فالطفل ابن عباس يلاحظ خصوصية النبي r ويستنتج منها وجوب تقدمه على من سواه، فلا يرضى أن يكون في صلاته محاذيا له r ، ويرى رسول الله r في ذلك نباهة وتميزا، فيزيده بالدعاء له.
وفي رواية: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: (اللهم علمه الحكمة)[11]. وفي رواية: (علمه الكتاب) وفي رواية: (اللهم فقهه في الدين[12]). وفي رواية أخرى زيادة: (وعلمه التأويل[13]).
فكان من بعدها ابن عباسٍ حبر الأمة في كل علم.
ويرى رسول الله r استعداداتِ الفتى الصغير زيدِ بنِ ثابت للتعلُّم والدراية، فيأمره بتعلُّم اللغات الأجنبية.
يقولُ زَيْدٌ: "ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْجِبَ بِي فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا غُلامٌ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ، فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي، قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ"[14].
وظهر ما كان يرجوه r منه فصار أقدر أصحاب النبي r في علم الفرائض وحسابها.قال r : "أفرضُ أمتي زيدُ بن ثابت"[15]
وقد يتعرض الموهوب للمربّي ليلفت انتباهه إليه، كما حصل في قصة سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ، حين ردَّه r في أحد وقبلَ رَافِعَ بنَ خَدِيجٍ، فشكا سمرة لزوج أمه، وقال: أَنَا أَصْرَعُ رَافِعَ بن خَدِيجٍ، ولما وصل الخبر للنبي r قال: تَصَارَعَا، فَصَرَعَ سَمُرَةُ رَافِعًا، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ[16].
فلا بد من ملاحظة الموهوبين في المراحل المبكرة، تمهيدا للعناية بهم ومتابعتهم متابعة خاصة، وذلك بوضعِ ملاحظاتِ المعلمين والمربين في المؤسسات التربوية والتعليمية على سجلات خاصة بذلك لكل طفل أو شابّ، ومن خلال المعايير التي توضع للسلوك، والذكاء، والنباهة، والمبادرة، والمحاكمة الذهنية للمسائل المختلفة، يتم فرز النجباء وقيادات المستقبل.
وقد أجريت إحصائية في اليابان تبين فيها أنَّ أربعين في المائة من مدراء الشركات الكبرى تخرجوا من جامعةٍ تختار الموهوبين منذ المرحلة المدرسية المتوسطة، وتقبلهم فيها. [17]

3- كيف يُتابَعُ وينَمّا الاستعداد القيادي؟

في الطفولة عوامل مهمة تجعل الاهتمام التربوي والمتابعة لها مفيدة جدا، منها:
المرونة.
والقابلية للتقليد والمحاكاة، وامتصاصِ الأوصاف القريبة.
والطاقات الأوليةُ الكبيرة المستعدة للظهور في وقتٍ ما وفي مستوياتها السلوكية الإبداعية والعاطفية والثقافية والاجتماعية.[18]
وإنَّ عدم المتابعة بعد اكتشاف الموهبة خسارة للأمة كبيرة.
وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ .[19]
وفي إحصائية لأحد الباحثين ذكر أن تسعة وتسعين بالمائة من المتسربين عن الدراسة لديهم قُدْرات قيادية. وربما أسهمت المدرسة بدون قصد في ظهور الانحراف لديهم. (انظر صناعة القائد ص؟؟؟؟)
والمتابعة تكون من خلال اعتباراتٍ عدة:
أ- اعتبار مبدأ الإكرام قاعدة أساسية في المتابعة:
قَالَ r :أَكْرِمُوا أَوْلادَكُمْ[20].
فالإكرام للموهوب بكُلِّ أنواعه الحسية والمعنويَّة يزيد استعداده القيادي نماء، ويفجر الكوامن فيه، وقد كان النبي r يكرم الصبيان، قَالَ أَنَسٌ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ [21]..
وأتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وهو يلعب مع الصبيان[22]، ولا يخفى كم في ذلك من الإكرام العظيم، وسيد مخلوقات الله تعالى يتصابى للصبيان إكراما لهم، وتشجيعا لمواهبهم.
وحين يلقى الأخ الصغير لأنس بن مالك يناديه بكنيته ملاطفة وإكراما ويقول له مؤانسا:(يا أبا عمير! ما فعل النغير؟)[23].
ويستأذنُ الغلامَ الفضل بن العباس وقد كان على يمينه في تقديم الشراب للأشياخ الذين كانوا عن يساره، فلا يأذن لرسول الله r .
وذلك حين أتي صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم بشراب , فشرب منه , وعن يمينه غلام (هو الفضل بن العباس) وعن يساره الأشياخ ، فقال للغلام: ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟) فقال الغلام: لا والله يا رَسُول اللَّهِ ! لا أوثر بنصيبي منك أحداً , فتلّّه ( أي : وضعه ) رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّم في يده[24].
هكذا يصنع قادة المستقبل، وهم بين يدي أعظم قائد، لكنَّه لا يتجاوز حقوقهم، ويلزم نفسه بأدائها إليهم.
وأعجب من ذلك أنه r يبينُ أن ترضي الطفلِ سببٌ لرضوان الله تعالى، قال r: "من ترضّى صبيًّا صغيرًا من نسله حتى يرضى، ترضّاه الله يوم القيامة حتى يرضى"[25].
ب- اعتبارُ مبدأ المحافظة على الروح المعنوية مرتفعةً كأساسٍ في المتابعة أيضًا:
فالنبي r صلى الله عليه وسلم لم يكن يستعمل التوبيخ والتأنيب للفتيان، وهذا أنس رضي الله عنه يخدم النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين متوالية، فيصف معاملة رسول الله r بقوله: (.. ما كان يقول لي لشيء فعلته: لمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لِـمَ لمْ تفعله؟).
وقال عمر بن الخطاب لابن عباس رضي الله عنهم مشجعا: (قل يا ابن أخي! ولا تحقر نفسك)[26].
وقال ابن عباس: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ .. فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم، وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني، فقال: ما تقولون: " إذا جاء نصر الله والفتح " النصر. حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله تعالى ونستغفره إذا جاء نصر الله وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئًا، فقال لي: يا ابن عباس، كذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله: "إذا جاء نصر الله والفتح"، فتح مكة، فذاك علامة أجلك، "فسبح بحمد ربك واستغفره أنه كان توابًا" النصر: 3. فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم./حلية الأولياء
ج- اعتبارُ تشجيع الغلمانِ على المبادرة أساسًا في المتابعة أيضًا:
ولن ينجح ذلك حتى يُدَرَّبَ على الشجاعةِ وتركِ التردد.
ومن ذلك فسحُ المجالِ له إذا كان قارئًا أن يؤمَّ من يَكبُره.
قال عمرو ابن سلمة "انطلقت مع أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسلام قومه فكان فيما أوصانا ليؤمكم أكثركم قرآناً فكنت أكثرهم قرآناً فقدموني فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع أو ثمان سنين"[27] يقول عمرو: "فما شهدت مشهداً في جَرْمٍ ( أي في مجمع قوم )إلا كنت إمامهم وكنت أصلي على جنائزهم إلى يومي هذا "[28]
فالتشجيع على الجرأة والمبادرةِ أساسٌ في متابعةِ الاستعداد القيادي.
وهذا الشاب اليافع أسامة بن زيد الذي لم يتجاوز الثامنة عشر يوليه النبي صلى الله عليه وسلم على أئمة الصحابة ومشايخهم.
وفي سير سلفنا عجائب في مبادرات الفتيان.
روى ابن ظفر المكي قال: بلغني أن السري السقطي قرأ على مؤدبه: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 86] فقال: يا أستاذ، ما الوِرد؟ فقال: لا أدري فقرأ: {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87] فقال: يا أستاذ، ما العهد؟ قال: لا أدري. فقطع السري القراءة، وقال: إذا كنت لا تدري، فلم غررت الناس؟ فضربه المؤدب، فقال السري: يا أستاذ! ألم يكفك الجهل والغرور حتى أضفت إليهما الظلم والأذى، فاستحله المؤدب، وتاب إلى الله تعالى، وأقبل على طلب العلم، وكان يقول: إنما أعتقتني الغلام السري من رق الجهل.
ولما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز ، وبدأت الوفود تزوره لتهنئه، تقدم في أحد الوفود غلام صغير ليتكلم باسم الوفد، فقال عمر: أما وجد القوم من هو أسن منك ليتكلم؟! فقال الغلام: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر في كبر السن لكان من هو أكبر منك في مقامك هذا..
يا أمير المؤمنين! أما علمت أن المرء بأصغريه: لسانه وقلبه؟! فقال له عمر: عظني يا غلام! فوعظه حتى أبكاه.
ورأى الإمام أبو حنيفة طفلا يلعب بالطين، فقال للطفل: إياك والسقوط في الطين، فقال الغلام للإمام: إياك أنت من السقوط، لأن سقوطَ العالِم سقوطُ العالَم. فاهتزّ أبو حنيفة رحمه الله لهذه المقولة، فكان لا يُخرج فتوى – بعد سماعه هذه المقالة إلا بعد مدارستها شهرًا كاملاً مع تلامذته.
وقال مسعر: كنت أمشي مع أبي حنيفة، فوطئ على رجْل صبي لم يره، فقال الصبي لأبي حنيفة: يا شيخ! ألا تخاف القصاص يوم القيامة؟ قال: فغشي على أبي حنيفة..
د- اعتبارُ تأصل المحاكاة في الأطفال والفتيان بابا في التوجيه والمتابعة:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان في بعض الليل، قام رسول الله فتوضأ من شنٍّ معلق وضوءًا خفيفًا، ثم قام يصلي، فقمت، فتوضأت نحوًا مما توضأ، ثم جئت فقمت عن يساره"...الحديث[29].
ويلاحظ في القصة ما ظهر من التقليد والمحاكاة في أمرٍ يعسرُ على الكبار، فضلا عن الأطفال والصغار، وكان ذلك بباعث التقليد والمحاكاة.
هـ- اعتبارُ توضيح الهدفِ الإصلاحيِّ أوالنهضويِّ في عقل الغلام ضروريا في المتابعة لاستعداده القيادي:
إنّ المؤسسات التي تحصر نشاطها بين أعضائها تفقد دورها في المجتمع، وتصبح خادمة لنفسها فقط، فتفقد مبرر وجودها، فلا بد من التوجيه نحو خدمة الأمة، والمؤسسة التربوية التي تُنشأ من أجل المؤسسة نفسها أشبه بيت للإقامة فقط. انظر صناعة القائد ؟؟؟
وذلك كله مستمد من قوله تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِوَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {104}آل عمران
هـ- اعتبارُ التدريب على مراجعة الذات باستمرار، للرجوع عن الخطأ، ضروريا في المتابعة:
وذلك من خلال إشاعة روح قول الله تعالى على لسان آدم وزوجه:
{قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} نه الخاصأنه الخاص [الأعراف: 23]
ويمكن من خلال هذا المبدأ تخفيف العنفوان الفتي عند المراهقين استدراكا لما يمكن استدراكه من القصور، وكفا عن الدخول في التيه وإلا حصل التدهور الأليم.
و- اعتبارُ التوجيه المباشر الحكيم في الوقت والكيفية ضروريا في المتابعة:
ومن أمثلة التوجيه المباشر الموجه للعقيدة والسلوك والخلق الحميد قوله تعالى:
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ {13} وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ {14} وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {15} يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ {16} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {17} وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ {18} وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ {19}‏ لقمان
ومن التوجيه المباشر قوله r لابن عباس رضي الله عنهما:
" احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن، فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكرهه خيرا كثيرا، واعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر اليسر"[30].
ولا بد عند استعمال التوجيه المباشر من تخصيص وقت للحوار القائم على الوضوح والمصارحة، يكون فيه الاستماع العميق لما يقوله الموجَّهون.
ولا بد من توجيهه إلى أنَّ الفشل: هو الشرارة التي تولد دروس القيادة المبكرة، وأنه درسٌ إيجابي يتعلم منه الكثير.
ز- اعتبارُ التوجيه غير المباشر من خلال القصة والشعر والحكاية لسير العظماء ضروريا في المتابعة:
وما أكثر القصص القرآني الذي ينفع في هذا الاعتبار، وكذلك القصص النبوي، ويؤدي الغرض أيضا ما يروى من الحكايا الهادفة، وما يصاغ من الشعر النافع.
ح- اعتبارُ التوجيه إلى استثمار الوقت وإدراك قيمته ضروريا في المتابعة:
وذلك انطلاقا من قوله تعالى:
وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ {18}الحشر
وحين يفوته واجب الوقت يبحث أدائه في الوقت الذي يليه انطلاقا من قوله تعالى:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا {62}الفرقان
ط- اعتبارُ التثقيف الواسع في كل المستويات ضروريا في المتابعة للاستعداد القيادي:
وذلك في العلوم الشرعية وفي اللغات والآداب ومبادئ السياسة العالمية، والإقليمية، ومبادئ الاقتصاد، والتقانة الحاسوبية المعاصرة.
ي- اعتبارُ التدريب على فنِّ التعامل مع الآخرين ضروريا في المتابعة للاستعداد القيادي:
فيُدربُ على التحلي بروح الدعابة المرحة والتجمل بالابتسامة المؤنسة، التي تجعله محببا في القلوب، ولا بد من التدريب الطويل على أسلوب التكامل مع الآخرين في فريق العمل، وإلا فسيبقى أسير عزلته ولو كانت مواهبه لا تحصى، أو يتحول إلى قيادي مستبد وتكون نتيجته كراهية الآخرين له .

الخلاصة:

ما تقدم فيه كثيرٌ من القواعد المهمة في التربية القيادية للطفل والمراهق، ولا بد من تعاضد الجهود في المؤسسة التربوية، والأسرة والمجتمع، لاكتشاف الاستعدادات المميزة، وصونها، والارتقاء بها، وعندها سنجد في المستقبل القريب تحولا على مستوى المجتمع والإقليم.
إن أصبت في البحث فبتوفيق الله وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان.
وأستغفره تعالى وأتوب إليه.




أعلى الصفحة