الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
Islamic Culture in its Moral Presence الحضارة الإسلامية في حضورها المعنوي
Culture في الحضارة_محاضرة ألقيت في الدروس المحمدية
Wahran, Algeria الجزائر – وهران
2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
تمهيد:
مع الحديث المكرر في هذه الأزمنة عن الحضارات، وحوارها، وصراعها، تظهر الحاجة الملحة للتمحيص والتدقيق والتحقيق في كنه الحضارة ومعناها أولًا، وفي خصوصية الحضارة الإسلامية وسموها ورقيها ثانيا.
1- الإنسان هو موضوع الحضارة الأكبر:
لئن كان انتقالُ الإنسانِ من البداوةِ إلى الحضارة يعني الانتقالَ من العفوية والبساطة والارتجالية والفوضوية إلى التنظيمِ الهادف المعقَّدِ المنتجِ، فإنَّ الإنسانَ المنتقلَ هو موضوعُ الحضارة الرئيس.
ومهما ذكر دارسوا الحضارة عناصرَها الثلاثة الكبرى: (الزمان والمكان والإنسان) فإنَّ الإنسانَ يبقى محورَها جميعا.
لكنَّنا نظلم الإنسان أيَّ ظلم حين نقتصر في معنى حضارته على تطويره للعُمْران، وإبداعه للصنائع، وابتكاره لأسباب الترفه، وتعقيده لأنظمة المؤسسات ذاتِ الوظائفِ المتعددة.
إذًا فأين سِرُّهُ الإنسانيُّ الكبير، الذي يجعله سيِّدَ الكون بأسره، والأمينَ عليه، والمسئولَ عنه؟
أليسَ الحديثُ عن حضارةِ البشرِ في حضورها الماديِّ المجرَّدِ يعني الحديثَ عن الحيوانِ الأشرسِ بين كل الحيوانات، لأنه باستعمالِ مكائدهِ العجيبة، وحيلهِ الغريبة، واستعداداتِه النادرة الفريدة يتقنُ السيطرةَ على كُلِّ المخلوقات، ويسخِّرُها لأهوائِه ورغَباته غير المحدودة؟
أما الحديث عن الحضارة التي فيها (الإنسانُ) المخلوقُ الذي قال في حقه خالق الكون ومنشيه: {كَرَّمْنَا} [الإسراء: 70] وبيَّنَ فضله عليه بأنواعِ نعمائه الكثيرة بقوله: {وَحَمَلْنَاهُمْ} [الإسراء: 70]، {وَرَزَقْنَاهُم} [الإسراء: 70]،{وَفَضَّلْنَاهُمْ}[الإسراء: 70] فهو حديثٌ من نوعٍ آخر.
الحضارة الإنسانية فيها إنسانٌ، أشارَ إلى سرِّهِ نفخٌ رحمانيٌّ، لروحٍ مكرَّمَةٍ مشرَّفَةٍ في ناسوتٍ ترابيّ وهيكلٍ كثيفٍ ماديّ.
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71-72]
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر: 28-29]
فالسرُّ الذي تميز به الإنسان بعد النفخ لا يكمن في الطين المجرد، والصلصال الحمئي، بل يتجاوزه إلى الجزء الأكرم اللطيف منه.
وإذا قال قائلٌ: إنَّ تميُّزَ الإنسانِ وشرَفه هو بالعقل، و به تتميز الحضارةُ الإنسانية، سألناه: هل هو العقلُ الخادم للطين والصلصال، الذي يُصَيِّرُ المتبوع تابعًا، أم العقلُ المتفكرُ النافذُ من حجاب الطين والأحجار، إلى فضاء الفكرة والتدبر والاعتبار؟
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 190-191]
ثم نقول للضائع عن سرِّ إنسانيته: فما مصدر المحبة التي يجدها الإنسانُ في ذاته، أهي من الطين والصلصال أم من شيء آخر؟
وما مصدر السرور والسعادة اللذين يعيشهما الإنسان في بعض أوقاته، أهو الطين والصلصال؟
إن كلام الله تعالى دلَّ على السرِّ تصريحا، فهو تبارك وتعالى الذي نفخ في الهيكل البشري المادي (روحا) ونسبها إليه تعالى تشريفا، فبرقيِّ الروح الملكوتية فوق الطين سمَا هذا الإنسان، وبنسبة التشريف إلى رب محمد r ظهر سِرُّ الرقيِّ الإنساني، ولا يخفى على أهل المعرفة دلالة قوله تعالى وهو يخاطب حبيبه محمدا r : (إِذْ قَالَ رَبُّكَ) فسيدنا محمد r هو الإنسان الأكمل، والحديث في الآية هو عن تكميل الإنسان، فناسب أن يُضيف في اللفظ الربَّ إلى أكمل عبدٍ له، وكأنه يرسل بذلك إلينا رسالة مفادها: أن التكميل لا يحصل إلّا باجتماعِ شرف الروح الصفائية، مع انضباط البشرية الطينية بضوابط العبودية، وبهذا الاجتماع يظهرُ الإنسان الخليفة القادر مع أمثاله على صناعة الحضارة الإسلامية.
2- ما هي الحضارة الإسلامية:
الحضارة الإسلامية هي النتيجةُ والثمرة للخطابِ الإلهي الأزلي الذي أنزله مولانا إلى كرتنا الأرضية لتكون منطلقَ تطبيقاته، وجعلَ الإنسانَ مقصودَه في هذا الخطاب، فالذين يفهمون الخطاب، ويتدبرونه، ويعملون به، ويتخلقون بأخلاقه، ويتأدبون بآدابه، ويمتزجون بأنواره، ويرتفعون إلى أسراره، يُنشئون الحضارة الإسلامية المنشودة، وبمقدار ما يحصل في المجتمعات من هذه التفاعلات، يظهر فيها مقدارُ الحضارة التي يولِّدها ديننا الإسلامي، وبمقدار ما يحصلُ من النقص والانحطاط عن رُتَب هذه التفاعلات في المجتمعات، ينقصُ مقدار الحضارة المنشودة فيها.
ومن تأمل مضمونات الخطاب الرباني المحفِّزِ للحضارة يجده باعثا على تكوينِ حضورٍ مادّي، ممتزجٍ بحضورٍ معنويّ، في الأفراد والجماعات والمجتمعات.
2-1- الحضارة الإسلامية العُمرانية:
في بواعث الخطاب الرباني للحضارة العُمرانية نجده يدعو الناس دعوةً مجملة إلى إعمار الأرض بقوله:
هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا {61}هود
ويفصِّل في الحضور المعنوي الإنساني لتلك الحضارة العمرانية بقوله:
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ {18}التوبة
ويمنع تخريب تلك الحضارة العمرانية، ويحاربه، ويصف فاعله بقوله:
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ {205}البقرة
ويفصِّل في بعض أنواع التخريب المعنوي الممنوع، ويصفه بقوله:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ {12} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ {13} وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ {14} اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ {15} أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ {16} البقرة
لكنَّ الخطاب الربانيَّ لا يدعم الحضارة المادية العُمرانية إلا بشرط توظيفها الصالح النافع:
لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ {108} التوبة
وقال صلى الله عليه وسلم : "مَنْ بَنَىَ مَسْجِداً للّهِ بَنَىَ اللّهُ لَهُ فِي الْجَنّةِ مِثْلَه" [1] .
ومن التوظيف الإسكان في البيوت، قال تعالى:
وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا {80} النحل
وقال صلى الله عليه وسلم : ثلاثة من السعادة وثلاثة من الشقاء( وذكر من الثلاثة الأولى): الدار تكون واسعة كثيرة المرافق. ( وذكر من الثلاثة الثانية): الدار تكون ضيقة قليلة المرافق[2].
أما إذا كان عُمرانا موظفا للإضرار بالمجتمع فإن الخطاب الرباني يحاربه، ويدعو إلى تخريبه، قال تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ،لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا{107- 108}التوبة
وإذا كان عُمرانا لا توظيف له ولا نفع فهو ناقد له وعائب عليه:
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ {128}الشعراء
ويظهر من الأمثلة السابقة أن الخطاب الرباني يؤسس لحضارة عُمرانية مادية ومعنوية في الوقت نفسه.
2-2- الحضارة الإسلامية الاقتصادية:
في بواعث الخطاب الرباني للحضارة الاقتصادية المالية المادية نجد دعمًا وتحفيزًا.
ففي الزراعة مثلا، نقرأ قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام:
تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا {47}يوسف
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "‏ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أوبهيمة، إلا كان له به صدقة"[3]
وفي الصناعة نقرأ قوله سبحانه في حقِّ داود:
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ{80}الأنبياء
وقال‏ صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده"[4] .
ونقرأ قوله تبارك وتعالى على لسان ذي القرنين:
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا {96} فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا {97}‏الكهف
وسئل r أَيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ .. فقال: "تُعِينُ صَانِعا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ" [5]
وفي التجارة نقرأ قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ {282}‏ البقرة
لكنه يفصِّل في الحضور المعنوي الإنساني لتلك الحضارة الاقتصادية بقوله على لسان يوسف عليه السلام:
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ {55}يوسف
وعلى لسان ابنة شعيب عليه السلام نقرأ قوله تعالى:
إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ {26}القصص
ونقرأ قوله تعالى:
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا {58} النساء
وقوله تعالى:
وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا {2} النساء
وقال النبي r : " نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ " [6]
ويمنع وصول المال إلى من لا يحسن توظيفه، مع احترام كرامته الإنسانية والأمر برعاية ضرورياته:
وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا {5} النساء
ويحثُّ على التوازن بين المادة والمعنى في تلك الحضارة الاقتصادية بقوله:
رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} النور
( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَـنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا )القصص (77)
2-3- الحضارة الإسلامية السياسية:
في بواعث الخطاب الرباني للحضارة السياسية نجد أيضا دعمًا وتحفيزًا.
قال تعالى يصف الاستقرار السياسي القرشي في معرض نعمائه ومنته عليهم:
أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا {57}القصص
وقال سبحانه واصفا ما آلت إليه مكانة يوسف عليه السلام السياسية بعد محنته:
وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ {21}يوسف
وقال تبارك وتعالى حاكيا قصة النفوذ السياسي للعبد الصالح ذي القرنين، وامتلاكه لزمام الأسباب:
وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا {83}‏إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا {84} فَأَتْبَعَ سَبَبًا{85}الكهف
وكما يسلط الضوء على الحاكم القوي العادل، يسلط الضوء أيضا على الشورى اللازمة من حوله، وذلك بقوله تعالى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ {38}الشورى
فيؤسس لنظامٍ بعيد عند الاستبداد، محتكمٍ عند النـزاع لثوابت الفضيلة، وأسس العدالة الربانية.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ {59}‏ النساء
ويُتبع أحكامَ الجهاد لهذه الهيئة السياسية المنضبطة، الفاهمة المستقيمة، ليحفظ الحضارة بالمؤسسة العسكرية المطيعة التي ليس من طبائعها التمرد ولا استعمالُ القوة لإلغاء الشورى السياسية وأصحابها بالانقلابات وما يشبهها.
وهو مع كل هذا يفصِّل في الحضور المعنوي الإنساني لتلك الحضارة السياسية بقوله تعالى:
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ {41}الحج
وبقوله تبارك وتعالى وهو يخاطب قوم صالح عليه السلام، وقد صاروا خلفاء الأرض وسادتها :
وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ {74}الأعراف
وبقوله تبارك وتعالى وهو يصف عدالة ذي القرنين وموافقته في حكمه لأمر ربه :
قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا {86} قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا {87} وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا {88}الكهف
وبقوله تبارك وتعالى واصفًا من يُستَخلفُ على مقاليد الأرض بالصلاح وعبادة الله قبل الاستخلاف وبعده :
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِيشَيْئًا {55} النور
2-4- الحضارة الإسلامية الاجتماعية:
في بواعث الخطاب الرباني للحضارة الاجتماعية نجد صورة وحقيقة مجتمعتين في أبدع اجتماع.
فهُو يكوِّنُ المجتمع الإسلامي المتماسك الذي محوره حبل الله:
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا {103} آل عمران
ويحتضن داخل هذا المجتمع كل مخالفٍ له في العقيدة، مسالمٍ له، لا يحاربه في الدين أو الوطن:
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ {8}إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ {9}الممتحنة
فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ{7} التوبة
وينظم داخل هذا المجتمع العلاقاتِ الإنسانيةَ فيه:
ففي الأسرة يدعم روابطها:
يقول تعالى:
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا{15} الأحقاف
ويقول سبحانه:
يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ {11}‏ النساء
ويرعى الروابط الاجتماعية المتقاربة التي تضمن تحقق التكافل الاجتماعي، وتنقذ أصحاب الفاقة والعوز، واليتم، اللذين داهمتهم صروف الزمان، قال تعالى:
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ {36}النساء
وأمر النبي r بالإحسان إلى الجار، ومنع إيذاءه، كما أنه أمر بإكرام الضيف.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ "[7]
وقال: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" [8]
وبعد هذا تجد الخطاب الرباني يؤسس العلاقات بين الجنسين على أسس العفة، وغض البصر، والمعاملاتِ العامَّة على أسس الأمانة، والاستقامة، والعدالةِ مع الموافقِ والمخالف، والبعيد والقريب، ويرغِّبُ في إحسان المعاملة والعفوِ وأداء المعروف، ويدعو إلى صلة الرحم، واحترام وشائج القرابة البشرية.
ويضمن للمرأة في المجتمع مكانتها السامية.
يقول تعالى:
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ( بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ) (195)آل عمران
ويقول r :"إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ" [9] .
ويساوي القرآن الكريم في القيمة المعنوية بين الرجل والمرأة، فيقول تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(35)الأحزاب
وفي مبحث بيعة النساء استهل ابن سعد تراجم النساء في الجزء الثامن بذكر ما بايع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء، ثم قدم تراجمه لعدد من الصحابيات المبايعات يربو على الستمائة صحابية.
ولا يخفى مما تقدم أن الإسلام بذلك يعطي المرأة قدرها ويحفظ لها مكانتها أما وبنتا وأختا ومخلوقا بشريا مكرَّما.
ويدعو إلى المساواة الإنسانية من غير تفريق بين غني وفقير، وعربي وعجمي، وأبيض وأسود، ولا يفرق بين ما يسمى اليوم دول الشمال ودول الجنوب.
قال تعالى:
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )(الحجرات13)
وقال النبي r موجها إلى هذه المساواة الإنسانية:
"يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى"
أعلى الصفحة