الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
عقيدة الآخرة في رسائل النور
المحور السادس:الأبعاد المعرفية والتربوية للإيمان بالآخرة في رسائل النور في التربية_ حلقة دراسية حول الإيمان بالآخرة في رسائل النور
تركية- استانبول
5 /8/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
أولا- تمهيد:
وجد الإنسان ذاته على أرض شاسعة ممتدة، و من حوله كونٌ كبير وفضاءٌ رحبٌ لا يعلم غايته ومداه، ووجد في ذاته تلك نفسًا فوضوية تشتهي كلَّ لذيذ، وتطلب كل متعةٍ عاجلةٍ، وأحسَّ إلى جانبِ هذه النفسِ المجنونة الجشعةِ بروحٍ قلقةٍ حائرةٍ غريبةٍ عن كلِّ ما تراه حولها من المتع المحسوسة والكثائف المتبرجة، فهي الكائنُ اللطيفُ المشتاقُ إلى جنسِه، المريدُ لأسبابِ أنسِه، وبين تلك النفسِ وهذه الروحِ رأى فيه قلبًا متقلبا، يوافقُ النفسَ تارةً ويوافقُ الروحَ تارةً أخرى، مرةً يضطربُ باضطرابِ النفسِ ويثورُ بثورتها، ومرةً يسكُنُ بسكونِ الروحِ ويطمئنُّ.
ورأى في ذلك القلب عَقلا متسائِلا، يطرحُ بين السؤالِ والسؤال ألفَ سؤال، لماذا وُجدتُ؟ ولماذا وُجِدَ غيري على غير ما وجدتُ عليه؟ وكيف أنفعُ ذاتي؟ وما هي نتيجةُ اختياري نفعَ ذاتي ونفعَ غيري؟ وما هو مآلُ من اختارَ ضرري وضررَ غيري؟ وهل ينتهي أمرُ الجميعِ بدخولهمْ حُفرةَ التراب؟
ويبقى طِلَّسْمُ الكون ولُغزُه بابًا مغلقًا أمامَ الروحِ والعقلِ والقلبِ، حتى يتسلَّمَ هذا الإنسانُ المسكينُ المبتلى بعجزِه وفقرِه مِفتاحَ البابِ من رُسُلِ الله وأنبيائهم، ومن سَيِّدِهِمْ وإمامهمْ محمَّدٍ r، ويدرك أن هذا المفتاح اسمه ( الإيمان بالله واليوم الآخر).
فتكون معرفتُه هذه منطلقَ تربيتِه، وتصبحُ تربيته هذه ناظِمَ حياتِه، وموجِّهَ سلوكِه الإنسانيّ.
ومن عُظماءِ من تنبه إلى المضمون المتقدم ذكره ونبه عليه الأستاذُ البديعُ السعيدُ: (بديع الزمان سعيد النورسي) الذي بيَّنَ مقدماتِ تلك المعرفة، ونتائجَها، وآثارها التربوية والاجتماعية في الإنسان.[1]

ثانيا- البحث:
مصادر المعرفة عند العقلاء استدلالاتُ العقول، وخبرُ الرسولِ المؤيدِ بالمعجزة، ويُنتج هذا الاستدلالُ معرفةً شعورية ملازمةً للإنسان، وحالا يتناسبُ مع تلك المعرفة، فتتولدُ لديه عن كل ذلك نتيجةٌ تربويةٌ على المستوى النفسيِّ، وعلى مستوى السلوكِ العمليِّ.
يفصِّلُ الأستاذ النورسي ذلك في رسائل النور ويبيِّنُ أبعادَه المعرفية والتربوية.

1ً- البعد المعرفي للإيمان بالآخرة في رسائل النور :
"منلايخلقُكُلَّشيءلايقدرعلىخلقشيء،ومنيخلقُشيئًاواحدًايقدرعلىأنيخلقكلشيء"[2]، "والذي يخلق اليومَ هو قادر على خلقِ يومِ القيامة ... والذي أظهرَ عوالم الماضي يقدرُ على أن يُظهرَ عوالمَ أخرى في المستقبل"[3] .
من هذا المنطلق يقرأ الأستاذ قدرة الله تعالى على خلق الآخرة، ثم يرى أن "عظمةَ سلطانِ هذا الخالق الأزلي، وسرمديةَ حاكميتهِ لا تَحصرُهما هذه الدنيا القصيرة، ولا يكفيهِما عمرُ الإنسانِ القصير جدًا، ولا عمرُ هذه الأرض المؤقتة الفانية"[4]، ويوصِلُ القارئَ والمتأملَ في رسائل النور إلى حقيقة الاعتقادِ بالآخرة، ويشرحُ له ماهيَّتها في المنظور الإيماني، وصلةَ حصولها بفقد الإنسان المستقيم، وغياب أنوار الرسالة.
1ً- A- الأدلة على الآخرة:
يطوف الأستاذ بالباحثين عن الحقيقة في أفلاك الأدلة المتنوعة على وجود الآخرة، فيذكر منها:
1ً- A-1ً: الأدلة من خلال تبدل الطبيعة المحسوس:
يرى الأستاذ أنواعًا كثيرة منظورة بالحسِّ من القيامة في الطبيعةِ وبدنِ الإنسان، ويستدلُّ بها على القيامةِ الكبرى والحشرِ الأعظم.
فالبشر يشاهدون بأعينهم" أنَّ يدًا غيبية تنشئ وتديرُ في كل ربيع جيشًا مهيبًا مركَّبًا من أربعمائة ألفٍ من مختلف الأنواع من الأحياء، ثم في موسم الخريف - الذي هو نموذج القيامة تُعفي ثلاثمائة ألفٍ من مجموع الأربعمائة ألف نوعٍ من وظائفها، بصور الوفاة وباسم الموت"[5] ثم يبيِّنُ الأستاذ أن هذا الذي يحصل هو نموذجٌ للحشر الأعظم المنتظَر في الآخرة.
ويقرِّبُ المتأملَ من مشهدِ حشرِ الأجسادِ يوم القيامة مع كونِ أجزاءِ تلك الأجسادِ المتنوعةِ قد اختلطَ بعضُها ببعضٍ في ترابِ الدنيا، حين يحكي مصيرَ "غَرْفَة يأخذُها إنسانٌ بقبضتِه مِن أشتاتِ بذورِ الأزهارِ والأشجارِ المختلفة في الأجناس والأنواع، ثم يدفُنُها معًا في ظُلُماتِ تُرابٍ محدود، ثم يسقيها بالماء الذي لا يُفَرّق بين الأشياءِ المروية"[6] ويقولُ بعد ذلك للمتأمل فيها:
"انظر إليها عند الحشر السنوي وقد حُشر بنفخِ الرعد في الصُور في الربيع، حتى ترى تلك البذور كيف تمايزت فصارَ بعضُها شجرةَ تينٍ تَنشُر وتنثر نِعمَ ربها، وبعضُها أزاهيرَ تضحَكُ في وجهِ الإنسان وتتودّدُ له، وبعضُها فواكِهَ تدعو البشر إلى تناولها"[7] فقد امتثلت كلُّها أوامرَ فاطرها التكوينية بلا خطأ، فما ترى فيها غَلَطًا ولا قُصورًا.
فيصلُ بالمتأملِ إلى النتيجةِ التي مَفادُها أن "هذا الفعلَ لا يفعلُه إلا من يقتدرُ على إقامةِ القيامة"[8].
ويتحدث عن الأشجارِ العاريةِ في الشتاءِ كالجثثِ المنتصبةِ والهياكلِ العظمية، وعن نُشورها وامتثالها لأمرِ البعث بعدَ الموت.
وكيف يحصلُ مع هذا إحياءُ أفرادٍ من أنواعِ الحيواناتِ الدقيقةِ التي لا حصر لها، وحشرُ أممِ الحشراتِ ولا سيَّما الذباب (الذي يُذَكِّرُ بالوضوءِ والنظافةِ لقيامه بتنظيف يديه وعيونه وجناحيه باستمرار) ويرى أن حشرَ هذه الحشرات في كل ربيعٍ وفي بضعة أيام، يعطي آلاف الأمثلةِ على إنشاءِ الأجسادِ البشريةِ يومَ القيامة[9].
ويتحدثُ عن تبدُّل ذراتِ الجسد البشري خلال حياته في بضع سنين، ويرى فيه نموذجَ قيامةٍ وحشرٍ تدريجيين[10] .
ويرى أن تبديل الصيف إلى شتاءٍ، والشتاء إلى صيفٍ خلال سَاعة، هو من شُؤونِ القُدرة المتجلّية التي تشِير إلى تبديل الدنيا إلى آخرة[11].
ويتحدثُ عن السحابِ" المنفوشِ كالعِهْنِ، الذي يظهر باديًا في السماء ويختفي ، فيخط في السماءِ لوحةَ المحو والإثبات، ويُظْهِرُ صورةً مصغرة للحشر والقيامة[12].
ويقارنُ بين الساعة الزمنية الأسبوعية بدواليبها المعدنية، والساعةِ الكبرى التي دَواليبُها الأفلاكُ فيراها وهي تعدُّ السنينَ وعمرَ البشرِ وزمنَ الدنيا، ثم يبينُ أن حركة تلك الساعة تشير إلى قُربِ تولُّدِ صُبح الحشر[13].
ويرى في كل حركة منها قيامةً نوعيةً مكررةً في الأزمنة كاليوم والسنة.[14]
1ً- A-2ً: الأدلة من خلال مفهوم الحكمة الإلهية:
يستمدُّ الأستاذ هذا النوع من الأدلة من خلال استقراءٍ في عالم حكمة الحق تعالى الذي لا يجد فيه إلا الانتظامَ والتناسق والجمال، ويبين بعد ذلك أن "الرب سبحانه ما دامَ يُجري الأمور وَفقَ حكمته، وقد أبدع نظام الكون المنسّقِ الموزون، فإن هذا لا يتناسب مع عدم بعث الظالمين العتاة يوم القيامة مع المظلومين البائسين"[15] فحكمته تعالى تقتضي أن يقف الطرفانِ أمام المحكمة الإلهية التي لا تدع مظلوما من غير أن تأخذ له مظلمته من ظالمه.
"ولو لم تكن القيامة حاصلةً لظلَّ الإنسانُ المرتكبُ للظلم في الدنيا دون جزاءٍ مع إنكاره وكفره وعصيانه، ولقضى الظالم القاسي حياته براحةٍ، والمظلومُ البائسُ بشظفٍ من العيش"[16]دون أن يحصل في الخاتمة بينهما قصاص.
فيُثبِتُ الأستاذُ مما تقدم أن القيامة لا بد ستقوم.
1ً- A-3ً: الأدلة من خلال مفهوم خلافة الإنسان في الكون:
وينطلقُ الأستاذ بهذه الأدلة من استقراءٍ نظري وخبرٍ قرآني، يفيدانِ خصوصيةَ الإنسان في هذا الكون الكبير بين كل المخلوقات، وانفرادَه بمقام المحبة والمحبوبية لمولاه " فالربُّ سبحانه يحبّ الإنسان، ويحبّب نفسه إليه" [17] وقد" وهب الإنسان مقامًا ساميًا وسخر له الكون الكبير وجعله مسكنًا ومهدًا له، ثم نصبه خليفة في الأرض، وحمّله الأمانة الكبرى التي أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها، وفضّله على سائر المخلوقات، وشرّفه بكلامه الرباني وبخطابه السُبحاني، ووعده في جميع كتبه المنـزلة - انه سيخلّده بالسعادة الأبدية والبقاء الأخروي"[18] ومع ذلك "أولاه الأهمية القصوى، بجعله أجمعَ ثمرةٍ في شجرة الكائنات، وألطفَها وأشدَّها رقةً ودلالًا، وأكثرَها مستجابًا للدعاء"[19]
أفمن الممكن لمثل هذا القدير الرحيم والعليم الحكيم الذي أعطى هذه الأهمية للإنسان أن لا يأتي بالقيامة؟[20] وأن لا "يفتحَ لهذا الإنسان أبوابَ السعادة الدائمة، بإحداثِ الحشر والقيامة"[21]، حتى يرى ثوابَ عمله، ونتائج خدماته الجليلة التي جعلتِ الكائنات في امتنان ورضا دائمين[22].
1ً- A-4ً: الأدلة من خلال المشاهدة الحسية النبوية للآخرة:
وذلك أن الرسولَ الصادقَ المؤيدَ بالمعجزات، الذي لا يستطيعُ العقلُ إنكارَ نبوته ورسالته، وأمامه ما لا يحصى من الأدلة على ذلك، قد " شاهد ببصره بعين اليقين أعظم حقائق الإيمان، وهو الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، ودخل الجنة وشاهد السعادة الأبدية حين عرج بجسمه وحواسه ولطائفه يوم الإسراء والمعراج"[23] ثم أخبر عما شاهده مفصَّلا، فكيف لا تكون مشاهدتُه الحسية دليلًا على الآخرة؟
1ً- A-5ً: الأدلة من خلال الخبر القرآني:
وما أكثر ذلك في رسائل النور، وصاحبُها هو في الأصل تلميذُ القرآن، فهو يستمدُّ أكثر الأدلة من ذلك المعين العذب.
ولو تأملنا على سبيل المثال ما كتبه من الدليل على الآخرة في شرحه لسورة النبأ لكفى.
يقولُ الأستاذ: "تقول السورة في مستهلِّها إثباتًا ليوم القيامة : لقد جعلنا الأرض لكم مهدًا قد بسط بَسْطًا جميلًا زاهيًا.. والجبالَ أعمدةً وأوتادًا مليئةً بالخزائنِ لمساكنكم وحياتكم.. وخلقناكمْ أزواجا تتحابّونَ فيما بينكم ويأنسُ بعضُكم ببعض.. وجعلنا الليل ساترًا لكم لتخلدوا إلى الراحة .. والنهارَ ميدانًا لمعيشتكم.. والشمسَ مصباحًا مُضيئًا ومُدَفِّئًا لكم .. وأنزلنا من السُحُبِ لكم ماءً باعثًا على الحياة يجري مجرى العيون .. وننشئُ بسهولةٍ من ماء بسيط أشياءَ شتى من مُزهرٍ ومُثمرٍ يحمل أرزاقكم .. فإذًا يومُ الفصل - وهو يوم القيامة - ينتظركم".[24]
ويظهر من هذا اعتماده في بعض أدلته على النص القرآني صِرْفًا من غير مزج.
1ً- B - ماهية الآخرة في المنظور المعرفي:
وهو في هذا المقام لا يسلكُ سبيل الأدلة، لكنَّه يعبرُ عن الشعورِ الإيمانيِّ المجرد، ويصوِّرُ ما في البواطنِ المؤمنةِ من التصورات عن ماهية الآخرة، ومن ذلك:
1ً- B-1ً: تصوير ماهية الموت:
الموتُ في نظر الأستاذِ حبلٌ هو مِشنقةُ إعدامٍ للمجرم تخلص العالم من شروره، وهو أرجوحةُ مُتعةٍ للمحسنِ يركبها فيرى كُلَّ البدائعِ الجميلةِ وهو راكبٌ فيها، ويأنس بالصور الأنيقة الجاذبة[25].
والموتُ في تصورٍ آخَرٍ أسَدٌ مُتَوحِّشٌ مفترسٌ ينتظرُ المجرم ليلتهمه، لكنه للمؤمن المحسنِ أسدٌ أعدَّهُ سيده ليكون مطيةَََ كرامةٍ توصله إلى محلِّ كرامته ومنـزلِ سروره، فلا يليق بهذا المؤمن أن يركب حصانًا، لكن يليقُ الأسدُ حصانًا له أو بُراقًا[26].
وهذا الموتُ هو لأهلِ الـضلالِ فِراقٌ للأحبةِ أليم ، وخروجٌ من الجنّةِ الدنيوية إلى السجنِ الانفراديِّ في القبر، وهو لأهل الهداية والقرآن رحلةٌ إلى ملاقاةِ الأحبة ومنازل السعادة الأبدية.
إنه" ليس كما يتراءى للغافلين ظلماتِ أوهام، ولا هو العالَم المظلم، بل هو مجمعُ الأحباب، وعالمُ اللقاء مع الأحبة والأخلاء، وفي طليعتهم حبيبُ رب العالمين وشفيعنا عنده يوم القيامة عليه أفضل الصلاة والسلام"[27].
والقبر الذي يوضع الميت فيه هو ثعبانٌ يبتلع الظالم ويضغطه ويهضمه، لكنَّ هذا الثعبان يفتحُ فمه للمؤمن الذي يدخل في جوفه، فيصير فمه بابًا يرى من خلاله كُلَّ عوالم الجمال الأخروية والبساتين الفاخرة، فيقضي أجمل وقته فيه مستمتعًا بما يراه، وملتذا بما يجده[28].
ثم إن" الموتَ في نظرِ الأستاذ هو للمؤمنِ إعفاءٌ وإنهاءٌ من كُلفةِ وظيفةِ الحياة ومشقَّتِها.. وهو تسريحٌ من العبودية التي هي تعليمٌ وتدريبٌ في ميدان ابتلاء الدنيا، وهو الفرصةُ لتسلُّمِ الأجرة إزاءَ الخدمة المؤداة، تلك الأجرة التي تُغْدَقُ سخيةً من خزينة فضل الخالق الرحيم".[29]
1ً- B-2ً: تصوير ماهية القيامة:
صحيحٌ أن القيامة هي في ظاهرها خرابٌ للنظام المعمور، وارتطامٌ للكواكب بعضِها ببعضٍ بعد فسادِ أفلاكها وقوانينِ دورانها، لكنَّ سرَّ حصول ذلك كما يراه الأستاذ يكمنُ في خرابِ البواطنِ المعنويةِ لسكان هذه الكواكب، وحصولِ الفسادِ المعنويِّ لأخلاقِ أهلِ الأرض، فغيابُ القرآنِ الموجِّهِ لهم عنهم، ونسيانهم لتذكير الرسول البشير النذير، يجعلهم أسرى نفوسهم وأهوائهم وأوزارهم، وتنتفي بذلك حكمةُ بقاء دار التكليف الدنيوية.
يقول الأستاذ: " فإذا فارق نور الرسالة المحمدية الكون وغادره، مات الكون وتوفيت الكائنات، وإذا غاب القرآنُ وفارق الكون، جنّ جنونُه وفقدت الكرة الأرضية صوابها، وزلزل عقلها، وظلت بلا شعور، واصطدمت بإحدى سيارات الفضاء، وقامت القيامة"[30].
وهكذا تقوم القيامة على رؤوس الكفار وحدهم[31].
لأن القيامة لا تنفعل ولا تستجيب إلا لأمر سيد واحد يقول لها: "قومي يا أيتها القيامة[32]"..
ولا تقوم إلا لتحصيل سعادةِ نوع البشر، وفي هذا يقول الأستاذ:
"كما يسمع أدقَّ هواجس سري ويُصلح لي أرقَّ آمال قلبي وميوله.. كذلك يقتدر مع ذلك على ما يتمنّاهُ عقلي وخيالي من تحصيل السعادة الأبدية لنوع البشر بإقامة القيامة"[33]...
1ً- B-3ً: تصوير ماهية العالم الآخر:
يعاني الإنسان في أحواله من التذبذب بين الأضداد، فتارةً يكون في الحزن وتارةً في السرور، ومرةً في الفقر وأخرى في الغنى، وحينًا في المرض وحينًا في الصحَّة، ولا نهاية في الدنيا لتقلبات الأضداد، ويرى الأستاذ النورسي أن الآخرة هي المحطة الأخيرة التي تنجو فيها الكائنات من تلك التقلبات، ويقول:
"ويوم تتوجه إرادته لإظهار تلك الحقائق المذكورة لتنجّي الكائنات من تقلّبات التغيّر والتحول والفناء وتهب لها الخلود، ولتميّز بين تلك الأضداد.... وأسباب التغيّر ومواد الاختلاف، سيقيم سبحانه القيامةَ حتمًا مقضيًا، وسيُصفّي الأمور لإظهار تلك النتائج"[34].
ثم إن الآخرة بنظر الأستاذ تلبي للإنسان احتياجاته الروحية التي لا تتناهى، وتُشبع نهمَه لِلَذَّةٍ لا تتناهى، وتلبي آماله التي لا تتناهى، كما أنها أيضًا تظهر استعداده وقابليته للآلام التي لا تتناهى[35].
وكما أنَّ الإنسان بعد موته سيُبعث في العالم الآخر، فإن الدنيا كلَّها – كما يرى الأستاذ- بعد دمارها وموتها ستُبعث (آخرةً) وإن الخالق القدير الذي بناها أول مرةسيعمّرهابعدهدمها تعميرًا أجمل من عمارتها الأولى[36].
والآخرةُ في نظر الأستاذ هي انفعال للأسماء الإلهية، وفي هذا يقول:
"الأسماء الإلهية الحسنى: الحكيم، الرحيم، الحفيظ، العادل، واغلب الأسماء الحسنى تقتضي يوم القيامة والسعادة الخالدة"[37].
بل إن "حقيقة الحشر والقيامة مظاهرُ لتجلي الاسم الأعظم و بعض الأسماء.... والذي لا يرقى إلى مرتبة الوراثة النبوية ناظرا إلى اسمي "القدير" و "المحيي" وأمثالهما من الأسماء سيضطر إلى التقليد في عقيدة الآخرة.
والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم حظيَ بأنوار الاسم الأعظم فأرشد إلى الآخرة[38].
والليلُ يذكّر الأستاذ بالأفعال الجلالية وتجليات الأسماء الجمالية في الآخرة، لأن الآخرة في نظره إما فعلٌ إلهي جلالي أو تجلٍّ أسمائيٌّ جمالي[39].

2ً- البعد التربوي للإيمان بالآخرة في رسائل النور:

الإيمان بالآخرة عنصرُ أملٍ في حياة الإنسان، ومن غيره سيقع في اليأس والكآبة والإحباط، والتربيةُ المادية التي تفقد هذا العنصر الإيماني لا تقدر على أداء مهمتها الاجتماعية، بل ستفشل في تحقيق الحد الأدنى من التواصل الأسري والاجتماعي والإنساني.
2ً- A - صلة عقيدة الآخرة بالحياة الاجتماعية والممارسات التربوية:
يُفَصِّل الأستاذ النورسي رحمه الله في الدور التربوي للإيمان بالآخرة تفصيلا كبيرًا، ومن ذلك:
2ً- A -1ً: أثر الإيمان بالآخرة في تربية الأطفال:
اعتنى الأستاذ بديع الزمان النورسي بتربية الأطفال في رسائله عناية فائقة، وليس هذا بغريبٍ لأن الأطفالَ هم أملُ الأمة وغدُها المنشود الواعد، وحين يدخل في تربيتهم عنصرُ الإيمان بالآخرة، تتكون شخصياتهم تكوينا متوازنا بين الروح والمادة، وحين يهمش ذلك العنصر الإيماني، يتكون البدن وتزول المعاني والأخلاق، ويتحول الكائن البشري إلى حيوان ينحطُّ في سلوكياته عن رتبة البهائم والأنعام.
يقول الأستاذ بديع الزمان: "تدريسُ الأطفال مجرَّدَ العلومِ المادية، وربطُهم بالمعاني العرقية والقومية بعيدا عن معاني الإيمان بالله واليوم الآخر، يكونُ كمن يخرج قَلبَ طفلٍ ودماغَه ويقدمهما له طعامًا مفيدا لنموِّ جسده، فلو كان الإنسان جسدا حيوانيا وحسب، لا يملك العقل والقلبَ والروح، فلربما يُلهيه في طفولته البريئة ما يوردونه عليه من عناصر التربية الحديثة المادية الأجنبية عن ثقافة الإسلام وحضارته مزينةً باسم التربية القومية"[40].
ويبين الأستاذُ سببَ حاجة الأطفال إلى الإيمان، فهم بتكوينهم يشبهون الكبار في الافتقار الذاتي إلى الله تعالى، والعجزِ الذاتي المختبئ خلف المِنَحِ والمواهبِ الربانية، فماذا يصنعون حينما تنكشفُ حقيقة الأمر في لحظة اضطرارٍ إن لم يكن لديهم الإيمان بالله والآخرة؟
وإذا لم يكن لديهم ملكة الاستعانة بِمَصدر القوة في لحظات الاضطرار، فسيكونون أسرى اليأس وضحايا الغم والهمود.
وهكذا يبين الأستاذ "أنَّ الأطفال طالما أنهم مثل كل الكبار من البشر يحملون عجزًا وفقرًا بشريين لا منتهى لهما، فالواجب في تربيتهم ومن مقتضى الشفقة عليهم وضعُ نقطة استناد قوية لهم في قلوبهم يستندون إليها لإلغاء ذلك العجز والفقر، وتوجيهُهم إلى الاستمداد من مورد لا ينضب، فإذا استندوا إلى معنى قدرة الله تعالى على كلِّ شيء واستمدوا منه، واستندوا إلى معنى ثوابه تعالى في الآخرة للمؤمن المحسن عندها سيثبتون على الحق ويتمثلون حال الصبر والشكر ويعيشون حال التوكل الإيماني في الضراء والسراء وفي كل ما يجابههم من أحوال وأهوال"[41].
إن تعليمَ دروس التقدم المادي وحدها، وتدريسَ الفلسفة المادية التي لا نورَ فيها، ستُضعفُ قواهم المعنوية وتطفئ أنوارَ أرواحهم.
كيف سيتحملُ الأطفال الذين يمثلون نصف البشرية، الحالاتِ المؤلمةَ والمفجعة التي تحصل أمامهم ويكون فيها الموت والوفاة لأحبائهم؟
إن ما يُغرس في قلوبهم من " الإيمان بالجنة يفتحُ لهم بابَ الأمل المشرق ويعين طبائعهم الرقيقة التي لا تتمكن من المقاومة والصمود وتبكي لأدنى سبب، فيحاورُ الطفل المؤمن بالجنة نفسه قائلا: إن أخي الصغير أو صديقي الحبيب الذي توفي أصبح الآن طيرًا من طيور الجنة، فهو إذن يسرح من الجنة حيث يشاء، ويعيش أفضل وأهنأ منّا.[42]"
ولولا هذا الإيمان بالجنة لهدَم الموتُ الذي يصيب أطفالا أمثالهم - و كبارًا - القوةَ المعنوية لهم ولحطَّمَ نفوسهم، ودمّرَ حياتهم ونغَّصها.
وهنا يبرزُ مع المؤسسات التربوية المتعددة دورُ الأمِّ في الأسرة، وشتانَ بين أمٍّ تربي أطفالها على التوازن بين المادة والروح، وأمٍّ علمانية ماديَّةٍ تربي طفلها على مجرد القوانينِ المادية والقومية فهي "تسعى لتنقذه من سجنٍ دنيوي، ولا تهتم بوقوعه في سجن جهنم الأبدي، وتتصرفُ تصرُّفًا مخالفًا لفطرتها مخالَفَةً كلية، و بدلا من أن تجعل ولدها البريء شفيعًا لها يومَ القيامة تجعله مدعِيًا عليها، يشكوها هناك قائلا : "لِمَ لمْ تقوّي إيماني حتى سَبَّبْتِ هلاكي هذا؟![43]".
ويوصي الأستاذ الآباء والأمهات بتحويل المنـزل إلى مدرسةٍ تربويةٍ فيقولُ: "اجعلوا بيوتكم مدرسةً نوريةً مصغرة، وموضعَ تلقي العلم والعرفان، كي يتربى الأولاد ...على الإيمانِ، فيكونونَ لكم شفعاءَ يوم القيامة، وأبناءَ بررةً في هذه الدنيا"[44]
وينبه الأستاذ إلى أن "التربية الأوروبية التي حلت محل التربية الإسلامية في الوقت الحاضر، تجعل واحدًا أو اثنين من كل عشرة أبناء ، ابنًا بارًا بوالدته.... بينما الثمانية الباقون من العشرة يهملون البر"[45].
بل إن فكرة الزواج أصلا التي هي المقدمة لوجود الطفل لن يدفعها إلى التحقق إلا الإيمان بالآخرة، وكم يهرب الماديون اليوم من الزواج وتبعاته، ويكتفون بتحقيق رغبات نفوسهم وإشباع نزواتها بعيدا عن دائرة المسئولية.
يقول الأستاذ: "ان في فطرة المرأة حب الأولاد وملاطفتهم، والذي يقوّي هذا الميل الفطري ويسوق إلى الزواج هو خدمة الولد لها في الدنيا، وشفاعته لها يوم القيامة، وإرساله الحسنات إليها بعد وفاتها".[46]
2ً- A -2ً: أثر الإيمان بالآخرة في الاستقرار والثبات لدى الكبار:
يصور الأستاذ النورسي الفارق بين كل من الرؤيتين المادية والإيمانية لما يحصل في الدنيا من الشدائد والمحن، فالرؤيةُ الإيمانية التي تعتبر الآخرة وترجوها ترى شدائد الدنيا ومصائبها صغيرةً يستطيع الإنسان أن يتجاوزها وهو ينظر إلى الآخرة.
يقول الأستاذ: "نعم، إن الأضرار الطفيفة المؤقتة للحياة الدنيوية الفانية القصيرة بالنسبة للحياة الأخروية الخالدة إنما هي كلسع الذباب، بينما أضرار الحياة الأخروية هي كلدغ الثعابين"[47].
ويبين سِرَّ تحمل المعمَّرين من الشيوخ لآلام الشيخوخة، وضعفِ بنيتها، وقربِ رحيلها عن الدنيا، فيقول: "إن الشيوخ الذين هم نصف البشرية، إنما يتحملون ويصبرون وهم على شفير القبر بالإيمان بالآخرة، ولا يجدون الصبر والسلوان من قرب انطفاء شعلة حياتهم العزيزة عليهم، ولا من انغلاق باب دنياهم الحلوة الجميلة في وجوههم إلا في ذلك الإيمان. فهؤلاء الشيوخ الذين عادوا كالأطفال وأصبحوا مرهفي الحس في أرواحهم وطبائعهم، إنما يقابلون ذلك اليأس القاتل الأليم الناشئ من الموت والزوال، ويصبرون عليه بالأمل في الحياة الآخرة"[48].
ونقرأ أروع المواقف المبدئية النموذجية التي يظهر فيها الثبات متألقًا في سلوك الأستاذ النورسي نفسِه وهو يفسر ثباتَه بالإيمان بالآخرة فيقول:
"أيمكن لمن يعتقد بأنه لا يوجد شيء فوق القرآن وفوق الحقائق القرآنية أن يرمي بنفسه إلى الهلاك الأبدي خوفًا من عقوبات فانية؟ وهل يمكن أن يهتم ببعض القيم الفانية؟ وهل يتخلى عن وظيفته في إيفاء الخدمة لله ولرسوله ولدينه؟"[49].
ويبين أنه يملك حياتين: حياةً دنيوية وحياة أخروية، أما أعداؤه فلا يملكون إلا حياة واحدة، ولن يستطيع مقابلته في الميدان من يملكُ حياةً واحدة.
ثم يقول:
"فالتهديد إذن باستلاب هذه الحياة لا قيمة له وليس بشيء عندي.... فلن أُحجمَ عن مقصدي، ولا أرضى بالبقاء تحت وطء منّتها وثقلها"[50]....
وهكذا لا يكون الإيمان الذي هو المفتاح النوراني والقدسي للحياة الأبدية وشمس الحياة الأخروية آلةً بيد الساسة الماديين الذين يسلكون سبيل التلاعب من أجل المصالح العاجلة، ولا يمكن أن يتبعهم في اعوجاجهم أصحابُ هذا الإيمان، مثلما لا يمكن أن يتبع الشمسُ آثارَ القمر[51].
ويتعجب الأستاذ من اللاهثين خلف الفتات المادي، المفرِّطين بحياتهم الأخروية، وحالُهم حالُ من قال:
نرقِّعُ دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقعُ
يقول الأستاذ مخاطبا لهذا الصنف:
"وتُقبلون على كل مالٍ دون أن تعبئوا أهوَ حلال أم حرام؟ وتضحون في سبيل ذلك بأمور جليلة وأشياء قيّمةٍ تستوجبها الحياة الأخروية[52]
أعلى الصفحة