الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
عاملوا الله في خلقه
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في الجامع الأموي الكبير بحلب
22/10/2010
 
مشاهدة /video/
ملف نصي   استماع ² عرض تقديمي
إن الذي يرصد واقع المعاملات في أمّتنا، ويرصد حركة الإنسان إلى الإنسان، لابد أن يلاحظ أننا - مع كوننا أمّة إيمانية إسلامية قرآنية - بدأنا نتحرك ببواعث المصلحة بالدرجة الأولى.
وإسلامنا لا يلغي المصالح بل يعتبرها، لكن المصالح لا تحكم سلوك الإنسان المؤمن، وسِرُّ ذلك أن المؤمن في معاملاته مع الخَلق يعامل ربّه.
وهذا هو المفتاح الذي يدلّنا على تفسير سلوكيات السلف الصالح من الجيل الأول وتابعيهم وتابعي تابعيهم.
فالإسلام لا يَلغي مصالحك، ولكنه لا يجعل مصلحتك حاكمة على أولويّاتك، لأنك بإيمانك تدرك أنك تريد الله وتعامله.
واليوم إذا أطعمنا فإننا في الغالب نُطعِم من أجل مصلحةٍ تكمن وراء هذا الإطعام..
وإذا أخرجنا أموالنا حرّكناها باتجاهٍ يخدم مصالحنا..
وإذا دققنا بألسنتنا وجّهنا كلماتنا توجيهًا يُحصّل لنا في النتيجة مصالحنا...
حتى ولو كانت هذه المصالح مُندرِجة في البغي والعدوان، حتى ولو كانت متجاوزةً لحقوق الناس، حتى ولو كانت تعطي لنا أفضليةً أو فوقيةً على الناس..
وعندما تتوجّه السهام لنا فإننا سرعان ما نَردُّها دون أن نتروّى، ودون أن نعلم أن دفاع المؤمن عن نفسه هو أيضًا محكوم بمعاملته لربّه.
إذًا: الفيصل بين الإيمان الذي يملأ القلوب والحالة الشكلية الإسلامية الفارغة من الإيمان هو: معاملة الخَلق للخَلق، أو معاملة الخَلق للحقّ.
وبعبارة أخرى: معاملة المخلوق من أجل المخلوق، أو معاملة المخلوق من أجل الله.
أو تقول: معاملة الخَلق عند الخَلق في الحالة الشكلية الفارغة من الإيمان، ومعاملة الله عند الخَلق في الحالة التي تتعمّر فيها القلوب بالإيمان.
ولو أنكم قرأتم كتاب الله تبارك وتعالى فإنكم ستجدون أن القرآن كلَّه يوجّه في مختلف الحالات التي يعالجها معالجة تربوية إلى تغيير الوجهة، ليكون في معاملاته ممن يعامل الله عند خَلقه.
وسوف آتِ لكم ببعض الأمثلة القرآنية على سبيل المثال لا الحصر:
1- ففي الإطعام:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9]

- {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا} والمسكين: ذو المتربة، أي: الذي لم يَعُد في يده إلا التراب.
وأين الباحثون اليوم عن المساكين..؟!
اليوم يُبحث عن الأثرياء والأغنياء وأصحاب الجاه، أما الباحثون عن المساكين فإنهم لا يبحثون عنهم من أجل مصلحة دنيوية، ولكنهم يبحثون عنهم لأنهم يريدون من خلالهم أن يتقرّبوا إلى الله، فماذا يُقدّم المسكين لك وهو لا يملك إلا التراب؟!
- {وَيَتِيمًا} والطفل اليتيم هو الذي لا سند له، ولا مؤازر له، ولا رعاية له، وقد غابت اليد الحنون التي كانت تحميه وتوجّهه في سُبُل الخيرات، فبحثتَ عنه لتكون أنت صاحب اليد التي تحنو عليه.
ولقد غاب من ثقافتنا الإسلامية شيء اسمه "كفالة اليتيم"، والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كان يتحدّث عن كافل اليتيم فيقول: (أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ كَهَاتَيْنِ فيْ الجَنَّةِ)،
ويضع أصبعه إلى جانب أصبعه.
ولكننا حينما غِبنا عن هذه الثقافة أوجدنا دُورًا مُنقطِعة عن المجتمع أسميناها دُور الأيتام، وقلّدنا بهذا الغرب، وهذا لا علاقة له بثقافة الإسلام.
فثقافة الإسلام أن تؤويَ في بيتك وضمن أسرتك يتيمًا، وأنت تنظر إليه وترعاه وتعامله على أنه واحد من أولادك، وأنت تريد بهذا أن تعامل الله، وأن تتقرّب إلى الله، فماذا سوف يجلب لك ذلك اليتيم حينما تدخله إلى أسرتك؟
فأين الباحثون عن المساكين؟ أين الباحثون عن اليتامى..؟
- {وَأَسِيرًا} والأسير: عدوٌّ كان يقاتل من أجل أن يُدمّر أرضك، ومن أجل أن يَهتِك عِرضك، ولكنه لما صار أسيرًا في يدك أكرمتَه حتى تُعبّر عن معاملة الله سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه يُطعم العدوّ والقريب.
فكنتَ في إطعامك لهذا الأسير أنموذجَ المُتخلِّق بأخلاق الرحمن.
يُروى في الآثار القديمة أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام نـزل به ضيف على غير دينه، وقال له: تؤويني وتطعمني هذه الليلة؟
فقال له: نعم، إن دخلت في الإسلام.
فقال له: أُغيّر ديني من أجل طعامك وإيوائك! لا حاجة بي إلى طعامك ولا إلى إيوائك، وخرج من بيته.
فنـزل الوحي على إبراهيم: يا إبراهيم، منذ سبعين سنة وأنا أطعمه وهو على دينه، أما رضيت أن تطعمه ليلة واحدة؟! تلك هي أخلاق الله..
فسعى إليه الخليل ورجاه أن يعود إليه، فقال: ما الذي غيّرك؟
قال: عاتبني فيك ربّي.
فقال: إن ربًّا هذه أخلاقُه يستحقُّ أن يُعبد.
وهذا نموذج من خلال الإطعام.
2- ما حصل بعد حديث الإفك:
يوم لاك الناس بألسنتهم عِرض أمّ المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وكان سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه يُنفق على أحد أقربائه، ويعطيه في كل شهر ما يكفيه، فكان هذا الرجل واحدًا ممن وقع في حديث الإفك، وتحدّث في عِرض السيدة عائشة أم المؤمنين بنت الصدّيق أبي بكر، فقطع سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه ما كان يعطيه من الرزق والمال، ولكن القرآن عاتَب أبا بكر.
يا سبحان الله! لماذا يُعاتب القرآن الصدّيق أبا بكر وهو مُحقٌّ في الدفاع عن ابنته؟
إنه يريد أن يقول لنا: يا أمة الحبيب المصطفى، عندما توجّهون أموالكم فإنكم توجّهونها من أجل الله، لا من أجل الأغراض، ولا من أجل البواعث النفسانية..
ونـزل قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
فلا توقفوا إنفاقكم، {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22].

وهكذا وجّه القرآن الصّدّيق أبا بكر رضي الله تعالى عنه من أجل أن يعود إلى إنفاقه، دون أن ينظر إلى ما في نفسه، وقد وقع هذا الرجل في ابنته.
أرني اليوم مؤمنًا يقع عدوٌّ فيه ثم هو بعد ذلك يُكرمه..!!
المشكلة أننا نعامل الخَلق، لكنهم عامَلوا الله.. وهذا هو الفارق.
فلمّا عاملوا الله في خَلقه غابوا عن أفعال الخَلق في أفعال الحقّ.
3- العدالة في الخصومة:
وكيف يمكن للإنسان أن يكون في خصومته عادلاً؟
فالنفس تُحرّك الإنسان في الخصومة من أجل أن يكون مُفرِطًا في العداوة وفي الإيذاء.
وانظر إلى اثنين في الخصومة، كيف يُبالِغ كل واحد منهما في إيذاء الآخر، وكيف يُبالغ في وصفه بما لا يستحقّه، فإذا ارتكب في حقّه خطأً صغيرًا بالغ في الوصف حتى جعله مجرمًا، وجعله شريرًا، وجعله فاقدًا للمروءة...
وهذا هو الخروج عن العدالة في الخصومة..
وسرّ هذا أنه غاب عن الله عند خَلقه، فلو كان حاضر القلب مع الله عند خَلقه لكان عادلاً في الخصومة.
وقبل أن نقرأ النصّ القرآنيّ أذكر يوم أن جاء أعرابيٌّ إلى سيدنا عمر رضي الله عنه، فقال له عمر: لا أحبّك، حيث كان في هذا الأعرابيّ من الفظاظة الشديدة والشدّة ما يكرهه عمر.
فقال الأعرابيّ: أتمنعك كراهيتك لي من أن تعدل في حقّي؟
أيدفعك بغضك لي إلى حالة لا تنصفني فيها، ولا أنال فيها حقّي؟
فقال عمر: لا.
فقال الأعرابيّ: إنما يبكي على الحبّ النساء.
فلم يكن عمر رضي الله تعالى عنه في مواقفه مُنجرًّا وراء عواطفه.
فالعواطف عند الرجال لا تصنع المواقف، إنما تصنعها المبادئ.
وهكذا قرّر القرآن في سورة المائدة هذه الحقيقة في قوله:
{وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]

فإيّاكم أن يحملنّكم بُغضكم لقوم على أن تنحرفوا عن العدالة في هذه البغضاء وفي هذه الخصومة.
وهكذا يستطيع الإنسان من خلال مراقبته لله، وحضور قلبه مع الله، وملاحظة أفعال الله تبارك وتعالى في خَلقه... أن يُعامل الله في الحبّ وفي البغض، ويستطيع أن يجعل مصالحه منطوية في أحكام الله، وأن يضع نفسه جانبًا من أجل الله.
أما قرأتم في كتاب الله تبارك وتعالى قولَ أحد ابنَي آدم عندما قال لأخيه:
{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} [المائدة: 28]؟

أين البغضاء؟ وأخوه يحمل السلاح ويريد أن يقتله.
أين النَفس المتحركة؟ أين البواعث النفسانية..؟
لا...
إنما قال: {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ} إني حاضرٌ في قلبي مع الله.. إني في هذا الفعل أعامل الله..
وهكذا يفترق الإيمان مع الشكليات الإسلامية، ويظهر التباين بين الشكلية الإسلامية المُفرَّغة من الإيمان، والشكلية الإسلامية المُعمَّرة بالإيمان، والمُعمَّرة بالمحبّة، والمُعمَّرة بالخَشية، والمُعمَّرة بمراقبة الله، والمُعمَّرة بالتوجّه إلى الله... وعندها نستطيع ونحن نُعامل الخَلق أن نُعامل الله.
رُدّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.

أعلى الصفحة