الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
باب الأمر بأداء الأمانة الحديث الثالث
رياض الصالحين
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع العادلية بحلب
9/12/2009
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الحديث الثالث من باب الأمر برد الأمانة
درس الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع العادلية بتاريخ 9/12/2009
وعن حُذَيْفَةَ، وَأَبي هريرة، رضي اللَّه عنهما، قالا: قال رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: (يَجْمعُ اللَّه، تَباركَ وَتَعَالَى، النَّاسَ فَيُقُومُ الْمُؤمِنُونَ حَتَّى تَزْلفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ صلواتُ اللَّه عَلَيْهِ، فَيَقُولُون: يَا أَبَانَا اسْتفْتحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيقُولُ: وهَلْ أَخْرجكُمْ مِنْ الْجنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ، لَسْتُ بصاحبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيل اللَّه، قَالَ: فَيأتُونَ إبْرَاهِيمَ، فيقُولُ إبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بصَاحِبِ ذَلِك إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وراءَ، اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الذي كَلَّمهُ اللَّه تَكْلِيمًا، فَيَأْتُونَ مُوسَى، فيقُولُ: لسْتُ بِصَاحِب ذلكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسى كَلِمَةِ اللَّه ورُوحِهِ فَيقُولُ عيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذلكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الأَمانَةُ والرَّحِمُ فَيَقُومَان جنْبَتَي الصراطِ يَمِينًا وشِمالاً، فيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ» قُلْتُ: بأَبِي وَأُمِّي، أَيُّ شَيءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قال: « أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ يمُرُّ ويَرْجعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ ؟ ثُمَّ كَمَرِّ الريحِ، ثُمَّ كَمرِّ الطَّيْرِ ؟ وَأَشَدُّ الرِّجالِ تَجْرِي بهمْ أَعْمَالُهُمْ، ونَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصرِّاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعَبَادِ، حَتَّى يَجيء الرَّجُلُ لا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلاَّ زَحْفًا، وفِي حافَّتَي الصرِّاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمُكَرْدَسٌ في النَّارِ) وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهنَّم لَسبْعُونَ خَريفًا . رواه مسلم .
قوله: «ورَاءَ وَرَاءَ» هُو بالْفَتْحِ فِيهمَا. وَقيل: بِالضَّمِّ بِلا تَنْوينٍ، وَمَعْنَاهُ: لسْتُ بتلْكَ الدَّرَجَةِ الرَّفيعَةِ، وهِي كَلِمةٌ تُذْكَرُ عَلَى سبِيل التَّواضُعِ. وَقَدْ بسطْتُّ مَعْنَاهَا في شَرْحِ صحيح مسلم، واللَّه أعلم.
أورده الإمام النووي في باب الأمر بأداء الأمانة لأن فيه: (وَتُرْسَلُ الأَمانَةُ والرَّحِمُ فَيَقُومَان جنْبَتَي الصراطِ يَمِينًا وشِمالاً).
لهذه المناسبة حيث كانت الأمانة على جنب والرحم على جنب آخر، والناس يمرون بينهما أورد النووي رحمه الله هذا الحديث في باب الأمر بأداء الأمانة.
هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم فيه خصوصية المؤمنين، لأنه لا يتحدث عن رواية الشفاعة الكبرى حينما يذهب كل الناس، إنما هذا الحديث يتحدث عن خصوصية المؤمنين وهم يجولون بين الرسل عليهم الصلاة والسلام، حيث يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في هذا الرواية من الحديث: (يَجْمعُ اللَّه تَباركَ وَتَعَالَى النَّاسَ) أي كل الناس.
( فَيُقُومُ الْمُؤمِنُونَ) الذين آمنوا بالله تبارك وتعالى وصدقوا برسله، وكانت لهم خصوصية القبول عند الله تبارك وتعالى فيقوم المؤمنون {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال:37] لماذا سمي يوم القيامة يوم الفصل؟ لأن هذه الدار يختلط فيها المؤمن بالمنافق، يختلط فيها الظلماني بالنوراني، يختلط فيها الخائن بالأمين، فلا يمكن الفصل بين النوراني والظلماني، وقد رأينا كيف عُمِّي خبر المنافقين حتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأُعلمه رسول الله وأعلم به واحدًا من الصحابة، ليكون شاهدًا، هو حذيفة الذي يروي هذا الحديث.
إذًا كان الأمر مختلطًا لا يعرفه الأصحاب في أول ما ظهر النور المتنزل على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فما بالك بالاختلاط بعد ذلك، فسمى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يوم الفصل {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}[النبأ:17] وقد مرّ معنا فيما نقرأ في سير القوم عندما كان يقال لبعض الكمّل من الكبار: أنت ذو كذا وذو كذا ...كان يقول: وما علمك، وما يدريك.
وكان الجنيد وهو إمام الطائفتين يسيء الظن بنفسه ويقول: لولا أنه روي أنه يكون في آخر الزمن زعيم القوم أرذلهم لما تكلّمت بينكم، هكذا كانوا ينظرون إلى أنفسهم.
إذًا سمى الله سبحانه وتعالى يوم القيامة يوم الفصل، لأنه في هذه الدنيا لا يعلم من أنت على وجه الدقة في كل تفصيلاتك ودقائقك إلا مولاك، لذلك في المباحث الأصلية يقول صاحبها السرقسطي رحمه الله:
فإن أتى القوم أخو فتون وقال يا قـــــــــــــــــــــــوم أتقبلــــــــــــوني
تقبــّــــلوه صادقًا أو كاذبــًا إذ كان محتومًا عليهم واجبًا
يأتي قائل فيقول: ألم يرد هم القوم لا يشقى بهم جليسهم؟
نقول: ارتقي إلى وصف جليسهم والأمر هيّن بعد ذلك.
ألم يجلس أبو جهل إلى رسول الله؟
ألم يجلس عتبة إلى رسول الله؟
ألم يكن الـمُطعم مجيرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما اشتدت الأهوال في مرحلة من مراحل الحياة المكية؟
ومع ذلك من يقول: إن المطعم هو جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بل أبو طالب الذي قضى عمره في الرعاية الحسيّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى قلبه الإيمان به كما في الروايات الصحيحة، هذا ما عليه جمهور أهل السنة.
ولا نرجح الضعيف في بعض الطرق الواردة عن سيدنا ومولانا العباس، لأننا نلتزم بأحكام وضوابط الشريعة ، ومع ذلك لا يقال إنه جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك الفصل لا يكون إلا يوم القيامة.
قال تعالى: { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:105].
وقال: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ}[يس:59] أي تميزوا، انفصلوا، ما عاد في اختلاط.
وقال: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]
فلذلك الاختلاط في الدنيا مسموح، المؤاكلة، المشاربة، المشاركة، المتاجرة..... كله ممكن، لكن أقول لكم بصراحة: "أوثق عرى الإيمان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحب في الله".
إذا أردت أن تكون في حالة من الطمأنينة أنظر إلى قلبك من يهوى.
الحب في الله، لأن هذا الحب في الله غير المجالسة الظاهرة، الحب في الله هو مجانسة روحانية.
إذًا الحب في الله أوثق عرى الإيمان لأنه علامة.
قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم لعلي: (يا علي لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق) فهذه علامات يمكن للإنسان من خلالها أن يتعرف إلى وصفه، فإذا رأيت أنك تأنس بأهل الظلمات والمعصية والفسوق والمخالفة والعداء لله ورسوله ودينه, فاعلم أنك على خطر، وإذا رأيت أن قلبك مجانس لقلوب من توجه إلى الله فاطمئن, رحم الله من قال:
"لَعَلِّي أراكم أو أرى من يراكم"
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: (فَيُقُومُ الْمُؤمِنُونَ حَتَّى تَزْلفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ) وشتان بين من يسعى إلى الجنة، وبين من تسعى الجنة إليه.
فالذين يسعون إلى الجنة غير الذين تسعى الجنة إليهم، وهذا على مبدأ كنّا ذكرناه لبعض من يسمع, وقلنا المخلوقات كلها صنفان: مسخر ومسخر له، فالمسخر الكون كلّه، والمسخر له الإنسان الذي توجه إلى الله، فإذا توجه إلى الله كان الكون مسخرًا له، ولكنه إذا انحدر ونزل عن رتبته ومنزلته, إذا تردى وهبط إلى أسفل السافلين, عند ذلك يقال فيه: {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] فالجنة من المخلوقات، إذًا هي من المسخر، فنحن لسنا مسخرين للجنة إنما الجنّة مسخرة لأهل الإيمان.
من هنا فهم أهل الله أن قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم لا يصح أن تتوجه إلا إلى حضرة الواحد، فليختلط جسدك بالكون وفق الشريعة، لكن الباطن هو لرب الكون ولذلك لما كان المشهد على هذا الوصف دلّ على ما كان عليه المؤمنون قبل ذلك.
(فَيُقُومُ الْمُؤمِنُونَ حَتَّى تَزْلفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ).
وأصعب ما يكون الشوق يومًا إذا دنت الخيام من الخيام
إذا كان المحبوب بعيد فالبعد شيء من السُلوان، ربما يعلل نفسه ببعد المكان، لكن عندما يكون المحبوب قاب قوسين أو أدنى فالصبر عنه صعيب.
الصبر في القرب عن الحبيب صعيب.
وهذه الجنّة قد أزلفت وتبرجت وتزينت بقصورها وحورها وولدانها وملائكتها وما أعدّ الله لأحبابه من الكرامة فيها لكن هناك انتظار.
ولذلك قال أهل السنة للمعتزلة ما أشد سخف ما قلتم في تأويل:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة/22، 23] قلتم إنها تنتظر والانتظار عذاب، والعذاب ممنوع في الجنة.
إذًا الجنة أزلفت، تبرجت لكن لابد من الانتظار حتى يأتي من يفتح أبوابها، ولا تفتح أبواب الجنة إلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأن خازن الجنة أُمر أن لا يفتح أول ما يفتح إلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، نحن نقول للناس بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم: قبل بعثة رسول الله عندما كنتم تدخلون في دين عيسى أو في دين موسى الأمور ماشية، لكن بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء الأصل، كانوا نواب عن رسول الله، فكان النائب عن رسول الله ينوب عنه في الدعوة، ولذلك من صدق به وآمن به نجا، لأن المصدق بالنائب كالمصدق بمن ناب عنه، لكن لما جاء الأصل لم يعد يقبل، إذا وُجِد الماء هل يصح أن نتيمم بالتراب؟
تيممتكم لما فقدت أولي النهى ومن لم يجد ماءً تيمم بالترب
هناك مناسبة لطيفة جدًا في هذا الحديث عندما رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن الأمانة والرحم على جنبتي الصراط، ثم نرى بعد ذلك أن المؤمنين يتنقلون بين من حمل الأمانة وبين من تربطهم به وشائج الرحم.
حيث أول ما تحركوا ذهبوا إلى أبيهم آدم عليه السلام، وهذا فيه تنبيه للعقلاء، أن الإنسان بفطرته أول ما يفكر أين سيذهب؟ يذهب إلى أبيه، فهذه مناسبة لطيفة في الحديث أنّ أهل الإيمان أول ما فكروا، بل كل البشر في حديث الشفاعة العظمى كل البشر عندما يفكرون بداهة أول شيء يتوجهون إلى أبيهم، وعندما تحدث القرآن عن أحكام الحج قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ}[البقرة:200]. لأن أول ما يتبادر إلى فطرة الإنسان رابطة الرحم، رابطة الرحم هذه لا تحتاج إلى تدعيم، الإنسان سليم الفطرة لا يستطيع أن يخون إلا إذا انحرف مزاجه وطبعه وتردّى وانحدر إلى مستوى الأنعام أو أضل، يعني مثل الخنازير، الخنازير أضل من الأنعام، لأن الخنزير ما هو من الأنعام هو أضل، لذلك نرى أن الخنزير له سلوكيات شاذة.
إذًا الفطرة تجعل الإنسان بين هذين الأمرين، بعفوية، ما في حاجة تقول للإنسان أَحِبَّ أمك وأبوك لأنه إذا كان فطريًا بعيدًا عن الغش الباطن سيرى أنه يحب أباه، ويحب أمه ويحب ولده، ويحب أخاه، هذا فطري، وستجد أنه لا يستطيع أن يخون لأن الخيانة تدل على انحراف، لأن الله سبحانه وتعالى لما خلق الإنسان عرض عليه الأمانة فقبلها، فدل ذلك على أن الأمانة هي في أصل التكوين الإنساني، لأن الله تبارك وتعالى حين خلق الإنسان ألزمه الأمانة، وقبل الإنسان الأمانة فكانت الأمانة مع الإنسان منذ بدء الخلق.
ولهذا وقفت الأمانة والرحم على حنبتي الصراط، وهذا أقرب عندي للحماية والحراسة، أي هذا الوقوف على جنبتي الصراط حماية وحراسة، يمكن أن يكون مقصرًا في بعض الأعمال، يمكن أن يكون مقصرًا في بعض الواجبات، فتأتي الأمانة والرحم تساندانه حتى لا يقع على يمين الصراط وشماله، فإذا كان أمينًا تقف الأمانة تحرسه، وإذا كان واصلاً لرحمه غير قاطع فتقف صلة الرحم وتحميه حتى لا يقع في نار جهنم.
إذًا يذهب الناس إلى آدم يقولون: (يَا أَبَانَا اسْتفْتحْ لَنَا الْجَنَّةَ فَيقُولُ:) وهذا من باب التواضع لأنه يعلم هو نبي رسول، يعلم أن الجنة لا تفتح إلا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لكن إذا كنت تريد أن تصعد إلى السطح لابد من الدرج، ولما كانت المناسبة الرحم فناسب أن يُعتبر التسلسل الزمني لا تسلسل المقامات، لأن إبراهيم أفضل من موسى، وموسى أفضل من عيسى، لكن هذا فيه اعتبار للأكبر والأقدم (و ليس منّا من لم يوقر كبيرنا)
وهكذا لما كان المتحدث سيدنا آدم عليه السلام ويقول لهم: اذهبوا إلى ابني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء فيقول: (اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيل اللَّه) نلاحظ في هذا تعليمًا لنا أن نظهر الفضائل في أهل الفضل، إذا رأينا أصحاب الفضل نظهر للناس فضلهم، هذا مستفاد من الحديث، إذا رأينا فقيهًا إذا أينا عالما، إذا رأينا رجلاً أكرمه الله بكرامة وميّزه بميزة نوجه من يستفيد منه إليه.
(اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إبْراهِيمَ خَلِيل اللَّه) ليت المشايخ يتعلمون هذا، نقول له هذا الشيخ جيد بالبلاغة اذهب إليه واستفد منه البلاغة, هذا الشيخ جيد بالنحو، هذا الشيخ جيد بالصرف، هذا جيد بالفقه الحنفي، هذا جيد في التوحيد، هذا جيد في ترقية الأحوال، ليت أهل الاختصاص يتكامل بعضهم مع بعض ويثني بعضهم على بعض حتى نكون جميعًا عبيدًا لله، خدمًا لله، خدمًا لرسول الله، خدمًا لدين الله، خدمًا للقرآن العظيم...
(قَالَ: فَيأتُونَ إبْرَاهِيمَ، فيقُولُ إبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بصَاحِبِ ذَلِك) إبراهيم عليه الصلاة والسلام صاحب أمانة، فلذلك قال: لست أنا الذي يفتح باب الجنة، أنا أعلم أنه لست أنا الذي يفتح باب الجنة.
(إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وراءَ) وهذا بيان عجيب، الله سبحانه وتعالى في كل زمان اتخذ خليلاً، وفي كل زمان هناك أحباء، وهناك أصفياء، وهنك أبدال، في كل زمان، فلما كان إبراهيم عليه الصلاة والسلام إمام الخلّة، لما كان في الزمن الأخير لأنه بالنسبة لعمر الأرض بالنسبة لعمر البشر سيدنا إبراهيم يعتبر من أواخر الأنبياء، لكن { مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ}[غافر:78] لو أن القرآن سيحدثنا عن الرسل والأنبياء فسنحتاج إلى خمسة أضعاف من النسخة الموجودة عندنا، لكن ربي يسّر وحكا لنا قصة خمسة وعشرين واحدًا فقط.
سيدنا إبراهيم من المتأخرين لكن خُبِّأت الأنباء التي لم تُقص علينا.
الآن علماء الجيولوجيا يقولون: عمر الأرض أربع ونصف مليار سنة، هذا كلام يستند إلى دراسات مستحاثية استكشافية، غدًا يكتشفون اكتشافًا ثانيًا فيقولون: الزمن أكثر من هذا.
إذًا بالنسبة لهذا العمر سيدنا إبراهيم يكون في ما قبل قيام الساعة، هذا بالاعتبار النسبي، اكتب الرقم تعرف كم المسافة كبيرة.
فإذًا معنى: (مِنْ وَرَاءَ وراءَ) هنا -والله أعلم- يعني قد تقدم قبلي من هو خليل الله، وإن كان إبراهيم اختاره الله سبحانه ليكون إمام أهل هذا المقام، لكن قبله في الزمان كثيرًا ما جاء من هو في مقام خليل الرحمن، فلذلك قال: (إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وراءَ) يعني قد سبقني كذا وكذا من الخلّان.
(اعْمَدُوا إِلَى مُوسَى الذي كَلَّمهُ اللَّه تَكْلِيمًا) وكلّ هذا من أجل توصيلهم إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا كل واحد يدفعهم إلى الذي بعده حتى يصلوا بالنتيجة إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, وهذا يعلمنا الدلالة على الخير لأن (الدال على الخير كفاعله).
(فَيَأْتُونَ مُوسَى، فيقُولُ: لسْتُ بِصَاحِب ذلكَ، اذْهَبُوا إِلَى عِيسى كَلِمَةِ اللَّه) كلمة الله لأن الله خلقه بكن فكان بدون أب، وروح: هو روح لأنه كان روحانيًا، لأن حكمه الروحاني كان غالب على حكمه الجسدي الجسماني.
(فَيقُولُ عيسَى: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذلكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الأَمانَةُ والرَّحِمُ فَيَقُومَان جنْبَتَي الصراطِ يَمِينًا وشِمالاً، فيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ، قُلْتُ: بأَبِي وَأُمِّي، أَيُّ شَيءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قال: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ يمُرُّ ويَرْجعُ في طَرْفَةِ عَيْنٍ؟)
ولعل هذا الصنف هو الصنف النوراني الذي ارتقى من الطين الجسدي إلى حكم السر، لأن السر نوراني، لأن الرتب: (جسدك، نفسك، عقلك، قلبك، روحك، سرك) فجسدك طيني ترابي، نفسك مختلطة في رغباتها بالطين، عقلك مستدل بالطين على من جبل الطين، قلبك مستـأنس قد انقلب إلى المعاني فاستأنس بها، روحك مستغنية عن المحسوس، أما سرك فإنه نور، فمن كان من أهل الأسرار -والله أعلم- فإنه يظهر حكمه هناك فيكون كالبرق.
(ثُمَّ كَمَرِّ الريحِ) وكأن هذا يشير إلى رتب أهل الأرواح، الروحانيون الذين كانوا أدنى من أهل الأسرار، يعني ليسوا أصحاب معرفة لكن صفت أرواحهم وزكت وتنورت، فمن كان روحانيًا يمر كالريح، ومن كان نورانيًا يمر كالنور.
(ثُمَّ كَمرِّ الطَّيْرِ) وفي عبارة (أفئدة كأفئدة الطير) التي في الحديث إشارة إلى ذلك، المناسبة بين الطير والأفئدة قد وردت في الحديث، فلذلك فيها إشارة إلى أهل القلوب الذين كمُل تصديقهم وكانوا على درجة عالية من الإيمان.
(ثُمَّ كَمرِّ الطَّيْرِ وَأَشَدُّ الرِّجالِ) يعني كالذي يركض مسرعًا، والذي يركض هو أقرب ما يكون إلى العقلاني، لأن أهل العقول هم في حالة تعب، فالعقل مضني.
عقال عقلك بالأوهام معقول قد قلب القلب منك القال والقيل
نحت بالفكر معبودًا وقلت به وذاك عقــــــــــــــــــــد بكف الحق محلــــــول.
ألا ترى الذين يؤلفون في الأدلة، عنده ألف دليل كما في القصة مشهورة لما مر المتكلم الكبير قالوا: هذا الذي كتب ألف دليل على وجود الله، فقالت العجوز لو لم يكن عنده ألف شك لما كتب ألف دليل، فسمع مقالتها فقال: اللهم إيمانًا كإيمان العجائز.
فلذلك العقل متعب، والذي حكمه حكم العقل مسكين يركض طول عمره.
حمّل العقل عجزه وأرحــــــــــه من عناء استدلاله بالوجود
وأفد نفسك النفسية علمًا وادعها للسجود للمعــــــــبود
والوسواس هو أكثر شيء يلعب بالعقل، ويشوش عليك ويجعلك تركض ليلًا نهارًا.
(تَجْرِي بهمْ أَعْمَالُهُمْ، ونَبيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصرِّاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ) وهو يرى الذين يقعون في النار نسأل الله العافية.
(حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعَبَادِ، حَتَّى يَجئَ الرَّجُلُ لا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إلاَّ زَحْفًا) هذا من أهل النفوس والأجساد.
(وفِي حافَتَي الصرِّاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ) يعني تأتيه خدشة من الكلاليب، الذي يمر مثل البرق من أين ستخدشه؟ أو كالريح لا تخدشه، لكن الذي يمشي إلى جانبها وهي تشتغل، سوف يُخدش نسال الله العافية.
(فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمُكَرْدَسٌ في النَّارِ) والعياذ بالله، مقذوف في النار.
ثم أقسم أبو هريرة وهذا إدراج منه فقال: (وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهنَّم لَسبْعُونَ خَريفًا) يعني سبعون سنة، لا ندري سبعون سنة ضوئية.... في أي المقاييس الله أعلم.
نسأل الله أن يربط قلوبنا بلا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن يؤلف بين قلوبنا حتى نكون من المتحابين في الله.
كل شيء ينقطع إلا ما كان لله، ما كان لله فهو المتصل وما كان لغيره فهو المنفصل، ما في أقوى من الرباط الذي هو رباط الأرواح، رباط الأجساد ينقطع ورباط الأرواح لا ينقطع.

أعلى الصفحة