الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
وَيَأْبَى اللَّهُ
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
29/12/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
أبو الأنبياء سيِّدُنا إبراهيمُ عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة وأكمل التسليم، جاء بأمِّ إسماعيل وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ - كما يروي الإمام البخاري في صحيحه - وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ.. وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ (أي ذهب وتولى) مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يا إِبْرَاهِيمُ، أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا، وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لا يُضَيِّعُنَا، وفي رواية للبخاري أيضًا قالت: رضيت بالله، ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: ربِّ {إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، أي ذلك الماء القليل الذي حملته معها، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى (أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ)، أي يضرب الأرض بيديه ورجليه من شدة العطش، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا)، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقَالَتْ: صَهٍ (تُرِيدُ نَفْسَهَا)، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ، فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ (أَوْ قَالَ: بِجَنَاحِهِ)، حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ)، (أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا)، قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِيه هَذَا الْغُلامُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَهْلَهُ...
ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ، قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ، قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا، وَأَشَارَ إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ، فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ، فَقَامَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
هذه هي قصة البيت العتيق الذي أعاد بناءه سيِّدُنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن صنع الدهر به ما صنع، حتى تحول إلى أكمة.
قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26] وهو يدلّ على وجود البيت قبله، لكنه أعاد بناءه وجدَّده مؤديا ما أمره الله سبحانه وتعالى به.
لا نسرد هذه القصة لمجرَّد أننا نعيش في هذه الأيام مناسبةَ الحجّ، والحجُّ كلُّه – كما تعلمون – هو مقام إبراهيم، وفائدة إعادة الذكرى حياة الأمةُ مع المعاني الإبراهيمية، لأن المعاني التي كانت عليها حياةُ سيِّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي المعاني التي تُصلِح الناسَ جميعًا، وتعيد الإنسان إلى وظيفته، فتجتمع فيه صلته بربِّه وعطاؤه وبناؤه وكسبه وما يحتاج إليه هو وغيره..
ليست هذه القصة وما ورد في إطارها، الذي ظهرت من خلاله شعائر الحج، هي من أجل أن نتملَّحَ بها كقصةٍ تاريخية.
لا.. فسيِّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ينتسب أكثرُ الناس إليه، والحجُّ المنسوب إلى إبراهيم هو رسالةٌ عالمية، لأن الناس كلَّهم يدّعون النسبة إليه، فالمسيحية تدَّعي النسبة إليه، واليهودية تدَّعي النسبة إليه، وقرَّر الله سبحانه: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا} [آل عمران: 67].
سيِّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أشبهَ الناس بسيِّدنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في وصفه وخُلُقِه وسيرته ومفرداته.. ونحن، أمةَ الإسلام، نعيد في كلِّ صلاة: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ).
لو أن الحجَّ نُسب إلى سيِّدنا محمَّد عليه الصلاة والسلام لقال غيرُ المسلمين: نسبتنا هي إلى إبراهيم، وأنتم تكرِّسون ذكرى نبيِّكم محمَّد عليه الصلاة والسلام، فكانت رسالة سيِّدِنا محمَّد صلى الله عليه وسلم إحياءً عالميًّا للرسالة الإبراهيمية، وبمفردات تشريعية تبني الإنسان في آخر الزمان، وتَصلُحُ بمرونتها وواقعيتها لكل حالة متجددة.
وهكذا كرّس الله سبحانه وتعالى في كل سنة الحجَّ تذكيرًا عالميًّا لكل الناس بإبراهيمَ عليه الصلاة والسلام، الذي توجَّه إلى الله حنيفًا مسلمًا، ووقف مستسلمًا لأمر ربِّه بوضع ولده إسماعيل وأم إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، ولم تصرفه عاطفةُ الأبوَّة عن تلبيته لأمر ربِّه بذبح ولده، فكان رمزَ التوحيد، ورمزَ التوجُّه إلى الله والصدق والإخلاص..
وكانت أمُّ إسماعيل التي تأثَّرت بإبراهيم لا تقعد عند ولدها يائسة، لكنها كانت تسعى، وكانت إذا فشلتْ مرَّةً تعيد الكَرَّة، فقد أعادت سعيها سبعًا واثقةً بالله، آخذةً بالسبب، حتى أرسل الله سبحانه وتعالى إليها جبريل ليحفر لها بئرًا بعقب قدمه، أو بطرف جناحه كما في الرواية الأخرى.
انظروا إلى جنود الله كيف يحفرون الآبار بطرف جناح، أو بعقب القدم، فالله لا يضيِّع من توكّل عليه.
وانظروا إلى الحرص الإنساني، فالمَلَكُ يحفر زمزم وينبع الماء، ويظهر الحرص البشري المعتاد، فأمام أم إسماعيل ينبوعٌ لا ينفد إلى يوم القيامة، حفره مَلَكٌ من ملائكة الله، ومع هذا الوهب تخاف أن ينفد الماء، فتملأ السقاء الصغير الذي تحمله، وتبني على الماء حوضًا.
الإنسان هو الإنسان مهما رأى وهبًا أو تأييدًا.. فهو بحاجة دائمًا إلى تذكير وتدعيم الثقة..
في القصة بحثٌ وبناءٌ لأن إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام بحثَ عن مراد الله تلبيةً لأمره: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ}
وبنى مستعينا بمن معه، ولم يبنِ بفرديته، مع أنه أمَّة {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] ثم هو بعد ذلك لم يقف مع عمله، مع أنه خليل الرحمن، والمقرَّب إلى الله، وخاف أن لا يُتَقَبَّلَ عملُه.
ثم هو بعد ذلك أعلن العداوة للشيطان ورفض أن يكون في طريقه عائقٌ، فرمى الحجر في الجمرات على إبليس الذي توهَّمَ أنه يقدر بوسوسته أن يغيِّرَ مسارَ عباد الله السائرين على الصراط المستقيم.
وقال الله سبحانه بعد بناء البيت لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ}.
ما قال: وأذِّنْ في العَرَب، أو في العبرانيين، أو في الروم، أو في الحبشة، أو في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب..
إنها عالمية الرسالة..
والمسجد الأقصى اليوم تابعٌ للكعبة، ومكةُ هي أمُّ القرى، والذي ولد في أم القرى هو سيد العالمين محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم يبق بعد بعثته صلى الله عليه وسلم أيُّ شأنٍ أو اعتبارٍ لدينٍ يعترف الله به.
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلى القبلة الواحدة ومركز الأرض، قال تعالى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] فاعتبرها مركز الأرض حين قرَّر أن كلَّ مَنْ هم على وجه الأرض حولها، أي بمنطق الدائرة التي مركزها الكعبة، {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27].
وكانت الترجمةُ العمليةُ الكبرى التي ظهرت انفعالاً لهذا الأذان بعثةَ سيِّدِنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وأَمَرَهُ الله سبحانه أن يقول للناس: {قُلْ} أي: يا محمَّد، {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] من غير استثناء، فلا يستثنى من هذا الخطاب إنسيٌّ ولا جنِّيّ، ولا أمريكيٌّ ولا صينيٌّ ولا هنديٌّ ولا روسيّ، ولا عربيٌّ ولا عجميّ، ولا أسود ولا أبيض..
هناك قال لإبراهيم: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ} وهنا قال لسيدنا محمَّد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: {قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
ثم قال: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ليعرِّفَنا قدرَ سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو سفير الذي له ملك السماوات والأرض.
إنه ليس سفير دولة كبرى..
اليوم تأتي الدول كالخراف إلى السفارات الأمريكية لتتلقى أوراق الأمر والنهي.
وحُكّامُ العالم وأُجَرَاؤهم ينتظرون إملاءات سفراء أمريكا أو من ينوب عنها من بعض الدول الكبرى الحليفة لها، أما سيِّدُنا محمَّد صلى الله عليه وسلم فإنه سفيرٌ إلى الناس جميعًا مِنَ الذي له ملك السماوات والأرض.
ثم قال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} المنفرد في سلطانه، {يُحْيِي وَيُمِيتُ}.
يا من يخاف الموت، فيذلّ خوفًا منه، وإعراضًا عن سفير الذي له ملك السماوات والأرض، إن الذي يحيي ويميت هو من أرسل هذا السفير العالميّ إلى الناس جميعًا.

لا تخف..
إن حييت تحيا بكرامة، وإذا متَّ تموت بشهادة..
ارفع رأسك معتزًّا بالله..
يكفي خنوعًا..
يكفي ذلاً..
يكفي جبنًا..
نسبتُك إلى محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام هي نسبةٌ إلى سفير الذي له ملك السماوات والأرض.
وبعد أن بيَّنَ الوصف، وأَمَرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} خاطب الناس بنفسه سبحانه قائلاً:
{فَآَمِنُوا} فإذا كنتم تزعمون أن لكم صلةً بالله، ولا تريدون أن تسمعوا من سفيرنا محمَّد عليه الصلاة والسلام، فاسمعوا مِنَ الذي أرسله.
إذا كنتم تتهمونه تارةً بأنه ينشر دينه بالسيف، وتارةً بأنه السياسيُّ العنيف، وتارةً بأنه عاشق النساء.. فاسمعوا إلى ربِّه ماذا يقول لكم؟
إنه يقول: {فَآَمِنُوا} والخطاب للناس كافة.
{فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وما قال: برُسُلِه، لأن المقام يقتضي تأكيد قول سيدنا محمَّد: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.
{النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} وهو خطابٌ عامٌّ لكلِّ الناس في الشرق والغرب، مِنَ الذي أرسل محمَّدًا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فإذا حدتم عن اتِّباعه فأنتم في ضلال مهما كان وصفكم، سواء كنتم أهلَ كتاب، أو كنتم من أصحاب الشرائع القديمة أو الجديدة، أو من عبدة الأصنام.. فأيُّ اعتبار من هذا القبيل لا قيمة له عند الله، لأن الله يخاطب الناس جميعًا ويقول لهم: {وَاتَّبِعُوهُ}.
لذا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة إلى هرقل المسيحيّ قائلا له: (أَسْلِمْ)، وذهب إلى يهود خيبر ليقول لهم: (أَسْلِمُوا)..
إنها الترجمة العملية.. فكفانا تضليلاً للناس.. وكفانا تلاعبًا بالدين..
ليس هناك ما يسمى بالإخاء الديني بين الأديان..
هناك ما يسمى بالإخاء الإنساني بين أبناء الإنسانية.
والإخاء الديني في منظور الإسلام هو إخاء أبناء الإسلام فيما بينهم.
نحن نواصلُ أهلَ الكتاب ومن ينتمي إلى المسيحية من باب الإخاء الإنسانيّ، لأننا أصحابُ رسالةٍ إنسانية، ونؤاكلهم، ونعيش معهم على أرض الوطن الواحد، ونحسن إليهم، ونكرمهم، ونشاركهم في كل شيء.. لكننا لا نعتقد أنهم على حقّ، لأن الله قال للناس (وهم مخاطبون بذلك): {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
فينبغي أن لا نخلط الأوراق..
إن نحن تحدثنا عن السلوك، أو عن العيش المشترك، أو عن المواطنة... فنعم.
أما أن نتجاوز ذلك لنخلطَ أوراق العقيدة، ونحيِيَ ما نُسِخ، ونقول للمأمور بالاتِّباع: أنت متَّبَع... فهذا كذبٌ على الله.
بل لقد رأيت في الإنترنت من يدعو إلى اليزيدية في سورية قائلاً للناس: "إنه الدين الأصيل القديم، فلماذا تُعرِضون عن الأصل وتتَّبعون الطارئ؟".
ولو افترضنا أنها دينٌ قديم، فبعد سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم هو منسوخ، "إِذَا طَلَعَتْ لمْ يَبْدُ مِنْهُنَّ كَوْكَبُ".
لقد وصف الله الشمسَ بالسراج الوهاج، ووصف سيِّدنا محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالسراج المنير، فهل يبدو النجم إذا طلعت الشمس؟!
لكن لما رأى أبناء اليزيدية أننا، أمةَ الإسلام، نخلط الأوراق قالوا: ما الفارق بيننا وبين غيرنا؟
وقال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} أي الهداية والإخراج عن الضلال، {وَدِينِ الْحَقِّ} الذي تولى حفظه وهو الإسلام، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] والله تعالى سيظهر هذا الدين رغمًا عن أنوفهم، وهو وعده.
وكما وثقت أمُّنا أمُّ إسماعيل وقالت: "إذًا لن يضيِّعنا"، نثق ونقول: "إذًا لن يضيِّعنا، وسيظهر هذا الدين على الدين كله".
وفي سورة الفتح قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] أي إذا كنتم تشكُّون في هذه الحقيقة، فإن الذي يشهد على حتمية ظهورها هو الله، ويكفي لإثبات الصدق شاهدُ حقّ.
ثم جعل بعد هذه الشهادة ختمًا هو: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29].
إذًا، يا من يشككون في تلك الحقيقة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} ليهدي الناس، {وَدِينِ الْحَقِّ} وغيرُ هذا الإسلام هو على الباطل، {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، والشاهد على هذا الله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، والختم {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}.
وقال سبحانه: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 1-6].
أبَعْدَ هذا النص يُقال: الدين واحد؟
أما يفهمون أن التنكير في قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} يفيد التعدُّد؟
وقد أراد بعضهم صرف السورة إلى مشركي مكة وحدهم، وما درى أن الله تعالى قال يا أيها الكافرون فعمم، ولم يقل يا أيها المشركون، والمشركون هم الوثنيون الذين منهم مشركوا مكة.
فهناك إذًا: دينٌ حقّ، ودينٌ باطل.
إذًا: {لَكُمْ دِينُكُمْ} الذي هو عملة قديمة قد ألغي التداول بها، فقد كانت معتبرة، ولمّا ظهرت العملة الجديدة لم يعد يُسمح بتداول العملة القديمة، {وَلِيَ دِينِ} هو المقبول وحده عند الله.
وقال سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}.
هناك قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، وهنا قال: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}، فالبداية بدأت، لكن لا بد من التمام.
{وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] وما قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]
ولفظة المشرك -كما تقدم - تعني في القرآن الكريم الوثنيَّ، أما لفظة الكافرين فهي تستغرق كلَّ الذين لم يدخلوا في الإسلام، من وثنيين وأهل كتاب..
{وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8] وثنيين كانوا أو أهل كتاب.
بالأمس قالوا: ليست المشكلة في الإسلام، إنما هي في التطرُّف، وينبوع التطرُّف هو اللامذهبية التي وصلت إلى أفغانستان من نجد.
وقالوا: إذًا ينبغي أن تُشنَّ الحملات على التطرُّف الذي بؤرته أفغانستان، وتَوَجَّه الحلفاءُ إلى أفغانستان، وضُرِبت أفغانستان.
وبعد ذلك قالوا: إن الذي يدعم ذلك التطرُّف هو العراق، ذلك أن حاكم العراق في السنوات الثلاثة أو الأربعة الأخيرة بدأ يغيِّرُ الاستراتيجية المعلَنَة، وبدأ يُلزِمُ كلَّ عضوٍ فاعلٍ في مؤسسته الحاكمة بدراسة الدين الإسلاميّ، وبدأ يعتني ببناء المساجد، وأقفل بعض الخمارات وبنيت بدلاً عنها المساجد، وقد بدأ يظهر مثل هذا في المؤسسات الرسمية..
وظهرت على الساحة الشعارات الإسلامية، وهم يخافون حتى من الشعارات الإسلامية.
والعراقُ أبعدُ ما يكون بتركيبته الفكرية والثقافية عن الاتجاه الثقافي النجدي الذي دعم أفغانستان، فأكثرهم من المذهب الشافعيّ أو من الشيعة، ومع ذلك قالوا: العراق هو الذي يدعم التطرُّف، وضُرِبَ العراق.
وبعد ذلك رأوا أن السودان فيه سَمْتٌ إسلاميّ، فأثاروا الفتن داخل البيئة الإسلامية، وقلبوا الإسلاميين بعضَهم على بعض، ثم اخترعوا قصة الجنوب، وقصة الغرب، وقصة الشرق، وصدر الحُكم من الإدارة الأمريكية على ذلك التجمُّع: بأنه ينبغي أن ينتهي مهما كلَّف الأمر.
ووضعت قوَّات الأمم المتحدة قدمها في السودان، والحبل على الجرَّار..
هناك قالوا: إنه تطرُّفٌ يحمل العداء للغرب، وأحداث سبتمبر (أيلول) هي الدليل. وهنا هل يفكر السودانيّون في غزو أمريكا؟
وهل يفكر العراقيُّون في غزو أمريكا؟
وبعدها رأينا أبناء المذهب الشافعيِّ والحنفيِّ في فلسطين، الذين لا يفكرون إلا في الحدِّ الأدنى من حقوقهم، فلا فكَّروا في غزو أمريكا ولا في غزو لندن ولا في غزو باريس.. إنما يريدون عيشًا كريمًا.
وبديمقراطيتهم التي يتحدثون عنها عندما وصل إلى الصدارة مَنْ يقول: انتمائي هو إلى محمَّد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، قَطَعَ العالمُ كلُّه مساعداته، وحُوصِرَ الشعب.
لماذا؟
هل هم من اللامذهبية؟
هل هم من الذين يتحدثون عن الخلافة الإسلامية؟
هل هم ممن يفكِّر في غزو أمريكا..؟
وأخيرًا تعيشون الحملة الصليبية على الصومال، فالشعبُ كلُّه قال: (نحبُّ الإسلام)، لكن بدعوى أمريكا: أثيوبيا تحبُّ الصومال أكثر، وتحرص على مصلحة الصومال أكثر!!
فكفى كذبًا..
وعندما تأذّت مصالح الكويتيين قامت الدنيا ولم تقعد.
وها هي الصومال وعاصمتها (مقديشو) تُحتَلّ، فأين هم الحلفاء؟
أين مجلس الخوف الكاذب الداعم للصهيونية، الذي من العار أن نطلق عليه اسم مجلس الأمن؟
ماذا يصنع المسلمون الواقفون في هذه اللحظة على أرض عرفات؟
وماذا تصنع الدولة التي تحتضن المسلمين من كل أنحاء العالم على أرض عرفات..؟
إن قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} هو مفاصَلة، وستظهر معالمها يومًا بعد يوم.
أيها المسلمون مهما ظهرتم في صورة الخراف، أو في صورة الأرانب.. فأنتم بانتمائكم إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم بؤرةُ إرهابٍ في منظورهم، فاخرجوا عن صورة الخراف، لأن النتيجة واحدة، "حربٌ على الإسلام"، ونداهِنُ ونتملَّق، ولن يجدي شيءٌ من هذا، والأيام قادمة.
فمهما تملقنا، حتى لو سجدَتْ حكوماتُنا لهم ألفَ مرَّة، فالمخطط هو هو، ولن يغيِّرَه شيء.
نصيحتي في هذا اليوم، لكم يا أمة الإسلام، أن نرجع إلى ديننا..
وأن نتمسك بثوابتنا وعقيدتنا..
وأن نفهم معنى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}..
وأن نفهم الإسلام الذي هو رسالةُ إحسانٍ وهدايةٍ ونور..
لكن ينبغي علينا في نفس الوقت أن لا نُخدَع عندما تُخلط الأوراق، وأن لا ننسى الحقيقة: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}.
هم يخطِّطون، لكن الله قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ} [التوبة: 32].
في سورة الصف قال: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ}، وفي سورة التوبة قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ} وإذا كان الذي يأبى والذي يرفض هو الله فلن يكون إلا مراده!!..
إذا رفضت أمريكا شيئا فإنه لا يتم لأنها – كما يقولون - القوَّة العظمة، وتملك حقَّ الفيتو وتملك وتملك.. لكن أما علمتم بحسب هذه الآية مَن الذي يأبى؟ {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
فثقوا بهذه الحقيقة، وإذا وثقنا بها، فإن عِشنا نعيش كرامًا، وإن متنا نموت أعزَّة.
رضي عن خالد بن الوليد الذي قال وهو على فراش الموت: "فلا نَامَتْ أَعيُنُ الجُبَنَاء".
نحن نحتاج على أرض عرفات وفي يوم عرفة إلى المعرفة.
فعرفات هي تعريف، وعرفة هي معرفة.
ونفهم ذلك عندما لا نقف مع مجرَّد الشكليات.
ردَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة