الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
عن أي شيء تحدَّثت أمثالُ القرآن؟
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
10/11/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
يرى قارئ القرآن الكريم وهو يقرأ فيه
تكرار ضرب الله تعالى للأمثلة، وهذه الأمثال في كتاب الله تبارك وتعالى تُشكِّل
نوعًا من أنواع التعبير، التي من خلالها يُوصَّل المعنى، وتُبلَّغ الدعوة، ويُفهَّم
المقصود.

والقرآن الكريم تارة يعبّر بعبارة
صريحة موجهة توجيهًا مباشرًا، وتارة أخرى يذكر قَصص التاريخ لتكون للإنسان عبرةً
يستفيد منها، لأن التاريخ سُنّة متكررة ودورة متعاقبة، أما الأمثال فهي نوع ثالث،
ونلاحظ أن القرآن الكريم قدَّمها إلينا بصور متعددة.

يمكننا أن نتعرف إلى قيمة الأمثال من
خلال القرآن نفسه، فقد بيّن الله تبارك وتعالى في هذا الكتاب المنير أن المقصود من
ضرب هذه الأمثال التذكُّر.

وهل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى إلا
إخراجُ الناس من الغفلة إلى التذكر؟

وهل الدعوة إلى الله تبارك وتعالى إلا
إعادةُ الإنسان إلى الأصل الذي كان عليه يوم أن خُلِقَ؟

{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء
كُلَّهَا} [البقرة: 31]، {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ
الْقُرْآنَ، خَلَقَ لإِنسَانَ} [الرحمن: 1-3]،
{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم} [التين: 4].

فبيَّن ربُّنا تبارك وتعالى في القرآن
أن مقصود كلِّ هذه الأمثال إنما هو التذكر، وقال: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ
فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27].

وبيّن أنه سبحانه وتعالى يضربها للناس
وهو العليم، وليس المثل الذي يضربه جاهلٌ كالمثل الذي يضربه عليمٌ، فقال سبحانه:
{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
[النور: 25].

وبين ربُّنا سبحانه وتعالى إعراضَ
أكثرِ الناس عن فهم الأمثال التي يضربها لهم، وذلك بقوله سبحانه:
{وَلَقَدْ
صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا} [الإسراء: 89].

وبين حال الإنسان وهو يسمع الأمثال
ويُصرُّ على جداله بالباطل، بقوله سبحانه: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا
الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ
جَدَلاً} [الكهف: 54].

وأرجع ربنا سبحانه عدم التأثر
الإنساني بهذه الأمثال القرآنية التي ضربها إلى الجهل وعدم العلم، فقال سبحانه:
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن
جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ،
كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 58-59]
فلأنهم أعرضوا عن طريق العلم أُقفلت قلوبهم.

وقال مصرِّحًا في موضع آخر: {وَتِلْكَ
الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ}
[العنكبوت: 43].

من كل هذه المقدمة ندرك قيمة الإنسان
في القرآن، وأنها موضوعٌ ينبغي لكل داعية أن يتنبَّه إليه، لأنه أوصل المعنى وبلّغ
المراد بطريقة غير مباشرة، تصل إلى الأفهام ثم تدور فيها، فإذا وجدت عقلاً فاهمًا
يبحث عمّا ينفعه وجد فيها ضالته، ووجد فيها ما يبحث عنه من الحكمة، ووجد فيها ما
يبحث عنه من الخلاص، ووجد فيها ما يبحث عنه من الحقيقة.

ثم إن القرآن الكريم استعمل وهو يضرب
الأمثال كل صغير وكبير، لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق كل صغير وكبير، وهو الذي
خلق السماوات والأرض، وهو الذي خلق الأمم، وهو الذي خلق الأنعام، وهو الذي خلق
الدواب، وهو الذي خلق كل كائن صغير ... وهكذا قال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ
لا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا
الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا
الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ
بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}
[البقرة: 26].

ومن تأمل البعوضة فإنه يجد فيها
نظامًا عجيبًا لا يقل في أهميته وانتظامه وتناسقه وبدائع حكمته عن النظام الذي يجده
في الكائن الكبير: حيوانيًّا أو إنسانيًّا أو فلكيًّا...

إنه يجد حكمة وانتظامًا ظاهرًا يدل
على أن الذي صنع ذلك إنما هو العظيم الحكيم العليم سبحانه.

لكن السؤال بعد هذا:

ألا يستطيع الإنسان أن يفهم شيئًا
عابرًا من خلال بعض النماذج التي ضربها الله سبحانه وتعالى لنا في هذا القرآن من
هذه الأمثال؟

اخترت اثني عشر مثلاً ضربه القرآن
الكريم بعدد الشهور، لنقرأها قراءة عابرة تفسح لنا جميعًا بعد ذلك أن نتدبر قرآن
الله سبحانه، وأن ندرس ونتأمل في هذا الكتاب العظيم الذي لا ريب فيه.

أما النموذج الأول من الأمثال التي
أوردها من كتاب الله تبارك وتعالى، فإنه مثل أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجهنا فيه
إلى وجود نوره في قلب الإنسان:

فليس من يصل إلى قلبه نور الله سبحانه
وتعالى كالذي لا يصل إليه، وليس الذي أقفل قلبه فما وصل إليه نور الله كالذي انفتح
قلبه فكان كالمرآة التي تشرق فيها أنوار الله تبارك وتعالى.

هذا المثل الأول الذي جاء في سورة
النور هو: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ
فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ
دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا
غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى
نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ
لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].

إنها صورة مرسومةٌ مصوَّرةٌ تصويرًا
عجيبًا، لكنَّ المراد منها أن يلاحظ الإنسان أنه سبحانه يوجهه إلى قلبه، فهذا
الإنسان يوجَّه في هذا المثل لينظر إلى قلبه: أي قلب هو؟

فالمطلوب التربوي من هذا المثل أن
يكون نور الله تبارك وتعالى في قلب هذا الإنسان، ليصير كتلك المشكاةِ والكوكبِ
الدرِّيِّ مضيئًا، لا بنفسه، إنما بأنوار الله تبارك وتعالى التي أشرقت عليه.

فهو مَثَلٌ أراد ربُّنا سبحانه وتعالى
من كلِّ هذا التصوير فيه أن يوصل إلى الإنسان هذا السؤال:

أيُّ قلبٍ قلبُك؟

هل قلبك هو القلب الذي تنوَّر بنور
الله، أم أنه ما يزال محرومًا من هذا النور العظيم البديع الجميل الجليل؟

المَثَلُ الثاني: مَثَلٌ يراد منه
التركيز على أثر ذلك النور القلبي في السلوك العملي:

وذلك في سورة إبراهيم: {أَلَمْ تَرَ
كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا
ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم: 24].

فالكلمةُ الطبية كلمةُ التوحيد "لا
إله إلا الله"، وهي نور القلب، والقلب الذي تدخل إليه كلمة "لا إله إلا الله"
وأنوارها وأسرارها هو القلب الذي ينتج عنه أثر سلوكي وعمل صالح.

ولماذا كان فرعها في السماء؟

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] فالعمل الصالح الذي هو
الأثر عن تلك الكلمة الطيبة، والذي هو نتيجة الإيمان، يرتفع إلى السماء.

انظر كيف صور لنا ربنا في صورة عجيبة
بديعة، وباختصار شديد، ما يراد منّا أن نفهمه، ثم بيّن بعد ذلك حال القلب الذي لم
تكن فيه كلمة التوحيد، والذي لم يدخل إليه نور الله، كان مليئًا بظلمات الجهالة
والشرك بالله سبحانه، فهذا لا يثمر عملاً صالحًا، ولا ترتجِ الخير ممن ليس في قلبه
إيمان أبدًا.

وكمَّل ذلك في نفس المثال بقوله:
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ
مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]

مثالها الشجرة الطفيلية التي لا جذور
لها في الأرض، إذا أمسكت بها استطعت اقتلاعها، لأنها لم تنبت من قرار، وهكذا فإنها
لا تثمر ولا تعطي أثرًا ولا عملاً صالحًا ولا نفعًا على ساحة المجتمع والواقع.

المثل الثالث: النتيجة النفسية
للتوحيد:

النتيجة النفسية التي يمكن للإنسان
الموحِّد أن يشعر بها، جاء بها ربنا سبحانه في مثل مصوّر يحمل صورة جميلة، ينبغي
لنا أن نقرأها ونحن نتدبرها:

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ
شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29].

إنه سبحانه يأتي بمثال لعبدٍ اشترك
فيه جماعة، وعبدٍ هو لسيد واحد، أيهما سيكون في حالة الراحة النفسية؟

إنه مثال لا يراد منه عبد وسيد
وشركاء.. إنما المطلوب من هذا المثال أن يتنبه الإنسان للأثر النفسي الذي هو
الراحة.

فالذي يعبد ربًّا واحدًا، ولا يتوجه
إلا إلى الله وحده، يكون في حالة من الراحة، لأنه لا يتشعب في العلائق، ولا تأخذه
العلائق يمنة ويسرة، وكأنه يقول لنا: أريحوا أنفسكم بالتوجه إلى الواحد، ولا
تتعبوها بكثرة العلائق.

المثال الرابع: النتيجة العملية
للشرك:

إذا فُقِدَ التوحيد وتعلّق بالعلائق
فما هي النتيجة؟ وما الذي سيجنيه؟

وذلك مبيّن في سورة العنكبوت بقوله
سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ
الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ
الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} العنكبوت: 41]

فكلُّ ما تبنيه المادِّية من غير
توجُّهٍ إلى الله سبحانه وتعالى بيتٌ لا استقرار له، وهو بيت ضعيفٌ واهٍ معرّضٌ
للانهيار في أي وقت.

ماذا أنتجت المادِّية التي لا تنبعث
من الإيمان بالله سبحانه وتعالى؟

أراد ربنا سبحانه وتعالى أن يقول لنا
في هذا المثل: لا تستندوا إلى غيره سبحانه، ولا تتوكلوا على سواه، لأن غيره لا يقدر
على نصرتكم، ولا يقدر على تأييدكم، فتوجهوا بقلوبكم إليه وحده، وها هم الذين يدعون
من دون الله، ما يبنونه هو كما تبنيه هذه العنكبوت.

وقد اختلفوا في تفسير هذا المثل
الحسِّيّ:

فقال بعضهم: إنه بيت واهٍ لأنك تستطيع
تخريبه بيدك.

وقال غيرهم: إنه بيت يفقد النظام، لأن
هذه العنكبوت الأنثى تقتل ذكرها بعد أن تبني بيتها، فهو بيت لا نظام فيه.

لهذا فإن العالمَ الذي لا نظام فيه
عالمٌ مهدَّدٌ بالانهيار والسقوط في أي وقت.

وهكذا يتبين من التفسيرين أن الذين لم
يستندوا إلى الله سبحانه وإلى شريعته مُهدَّدون بالسقوط في أي لحظة، لأنهم وقفوا مع
ماديتهم المُجرَّدَة وحدها.

المَثَل الخامس: فيه توصيف الضعف
الخَلقي:

يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن
يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} فقد استطاعوا أن يصنعوا مركبة فضاء،
وعجزوا عن ذبابة، لأن الذبابة لا يقدر على خلقها إلا الله.

{وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ
شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]
فالخَلق كلهم حالة ضعف وفقر واحتياج.

وهذا مثلٌ من الحِس، يُراد منه أن
يستشعر هذا الإنسان ضَعْفَ كلِّ مخلوق مهما شعر بالقوة، لأنه بالنظر إلى ذاته فقيرٌ
إلى الله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15].

ومن تأمَّل في هذا لا يمكن أن يبقى
لديه عُجبٌ أو غرور، ولا يمكن أن يبقى لديه تعزز بالنفس وأوصافها .. لأنه سيقف بعد
هذا المَثَلِ وهو يقول: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.

المَثَل السادس: التعريف بسلطنة
المليك الأوحد:

يقول سبحانه: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلا
مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي
مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ
أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]

انظر في الأمثال كم يُكرر
{يَعْلَمُونَ} وكم يُكرر {يَعْقِلُونَ}:

ففي مثال العنكبوت قال: {لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ}، وفي مثال الرجل الذي فيه الشركاء المتشاكسون قال:
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ
لا يَعْلَمُونَ}، وفي هذا المثال يقول: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

إذًا، الأمثال لا يستطيع أن يفهمها
وينـتفع بها ويُوظِّفها توظيفًا صحيحًا إلا أهل العِلْم، فكُن منهم.

هذا المثال يقول للإنسان: إذا كنت
تملك عبدًا أو أَمَةً فأنت لا ترى مشاركةَ أحدٍ لك فيما تملك، فإذا كنت لا ترى
مشاركةَ أحدٍ لك في عبدك أو جاريتك، فكيف تنسب مشاركة غير الله إلى الله؟

ويُقاس على هذا كلُّ ما تملكه، فإذا
كُنتَ تملك شيئًا ما، فأنت لا ترضى أن يُشاركك أحدٌ فيما تملك، فكيف ترضى أن تنسب
إلى اللهِ مليكِ الكون، الذي يملك الكون كله، مشاركةَ غيره إليه؟

المثال السابع: يُحفِّزُ العبوديةَ
المُنـتِجَة، لا العبوديةَ البطَّالة، ولكلمة عبد دلالتان:

1- أنه لا يملك، والله يملك.

2- العبد يقوم بعمل، أو يفعل شيئًا
على مستوى الحِس.

والعبد نوعان: عبدٌ كسول عاجز هو
كالبلية لسيده، وعبد يستطيع أن يُقدِّم شيئًا كثيرًا.

يقول تعالى: {ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً
عَبْدًا مَّمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا
حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ
أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [النحل: 75-76]

صحيح أنك عبد، لكن ماذا أنتجْتَ من
دائرة عبوديتك؟

استشعرت عبوديتك، فهل أنتج استشعارُك
لعبوديتك عملاً وسلوكًا على أرض الواقع، أم أنك بقيت تتحدَّث عن الأحوال؟

المثال الثامن: مثالٌ يُراد منه أن
نعلم أن هذا الكتاب الذي أُنـزل إلينا، لا من أجل أن نُقدِّسه تقديسًا رمزيًّا،
إنما من أجل أن نجعله منهجًا لنا، وأن نستفيد منه في حياتنا، لا مجرَّد أن نضعه في
أشكال مُحترمَة، وأن نتغنَّى به بالنغمات المتعددة.

يقول ربنا سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ
حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ
أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]

فلا يكفي أن نقول: نُقدِّس القرآن،
ونحترم القرآن، ونُسمع الناس القرآن .. بل ينبغي أن نستفيد من القرآن، وأن نعمل
بالقرآن، وأن نتخلَّق بالقرآن، فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان خُلُقُه القرآن.

المثال التاسع: يُراد منه تنبيه
الإنسان:

فإذا فُتحت لك فرصةُ هداية فلا
تضيِّعها، فلو ضيّعتها تخسر عمرك كله.

يقول تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ
الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ
بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17]

وقف أمام نور القرآن، ووقف أمام نور
الهداية، الذي هدى به سيِّدُنا محمد عليه الصلاة والسلام.

وصل إلى معرفة أن القرآن حق، وإلى
معرفة أن الإسلام عظيم.. لكنه بعد ذلك ضيّع تلك الفُرصة، فإذا هو في ظُلمات، حيث
جاء النور إليه، ثم خسر كلَّ هذا النور، فضيّع فرصة هدايته.

المثال العاشر: يتحدث عن سرعة زوال
هذه الدار الدنيا التي نحن فيها، دارِ التكليف.

يقول سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُم
مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنـزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا} [الكهف: 445].

ويقول سبحانه: {اعْلَمُوا أَنَّمَا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ
وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ
نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}
[الحديد: 20].

ففي المثال الأول قال: {فَأَصْبَحَ
هَشِيمًا} فأشار إلى نهاية الزرع، وهنا قال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فأشار إلى
نتيجة الشجر، فهذا يكون حطبًا متكسرًا، وذاك يكون هشيمًا محترقًا.

قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ
الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا
وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لا نهاية له، {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٌ} لا نهاية لهما {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
[الحديد: 20].

رحم الله من قال:






وما من كاتب إلا سيبلى
فلا تكتب بكفك غير شيء



ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
يسرك في القيامة أن تراه





المثال الحادي عشر: يسوقنا إلى ضرورة
اغتنام العمر بالإيمان والعمل الصالح:

قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ
سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن
تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا
وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ
فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ
قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 116-117].

وقال: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ
بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ
لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ}
[إبراهيم: 18].

كل هذا يندرج في ضرب الأمثلة في
نتيجةٍ هي التوجيهُ إلى عملٍ يستند إلى الإيمان، فالذين كفروا وعملوا فكان عملهم
لا يستند إلى الإيمان، فإنه كالريح التي فيها نارٌ تحرق، فأحرقت ما على الأرض من
الشجر، حيث ظهر الشجر وظهر الثمر ثم جاءت النار فأحرقته، أو كرمادٍ وجاء يوم عاصف.

إذًا، فهذه المجموعة إنما يراد أن
نفهم منها هذه الحقيقة:

اغتنام العمر بالعمل الصالح المستند
إلى الإيمان هو الواجب على العاقل.

المثال الأخير الثاني عشر: يرمي إلى
تبليغ قلوبنا ضرورة ترك اللُّهاث خلف المادة الأرضية، كأنه يقول للإنسان: لا تلهث
صباحَ مساءَ مقبلاً ومدبرًا في عمرك خلف المادة وحدها، وهذا في قوله سبحانه:
{وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}
[الأعراف: 176].

إنه المثال للإنسان اللاهث خلف
المادَّة، أقبَلَتْ عليه أو أدبَرَتْ.

هذا هو مثال الكلب: إذا أقبلْتَ عليه
يلهث، وإن أدبرْتَ عنه يلهث.

وكذلك عبّاد المادة: إن أقبَلَتِ
المادَّةُ عليهم كانوا في ذلك اللهاث، وإن أدبَرَتْ كانوا في ذلك اللهاث، فهم سواء،
إن أدبرت أو أقبلت عليهم المادة، هُمْ في همٍّ وغمٍّ، كان في أيديهم المال أم لم
يكن.

مثالٌ يضربه الله سبحانه وتعالى لنا
لنرى صورة المادِّيِّ الذي يعيش حياته وهو في هذا اللهاث.

إن المؤمن يستمد حياته من قوله تعالى:
{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ
الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}القصص: 77].

أحسَنَ اللهُ إليك من غير مقابل،
فأحسِنْ من غير مقابل.

إذًا: الأمثال في القرآن كثيرة، وما
أردت إبلاغكم كل الأمثلة إنما بعضها، لأن تكرير العرض في الأمثال المتعددة التي
يتعدد تصويرها وتبليغها يعطي السامعَ مَلَكَةً يستطيع بعدها أن يتأمل في كل
الأمثال، وأن يحاول فهم المراد.

فإذا قرأتم القرآن فقفوا عند كلِّ
مَثَلٍ يضربه القرآن الكريم، وافهموا المراد منه، فإنه يحمل وراءه علمًا كبيرًا
{وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا
الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] فكن يا أيها الإنسان القارئ للقرآن من العالمين
لتفهم أمثال القرآن.

ردنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً،
واجعلنا ممن يستمعون القول فيـتبعون أحسنه.

أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة