الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الإنسان بين ضعفه وعون ربِّه
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
6/10/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنـزيله:

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى
لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185] فبيَّن
سبحانه وتعالى أن بدء النـزول القرآني كان في رمضان، وأنه أُنـزل إلى الإنسان،
وأولُ ما نـزل - كما في الصحيح - قولُه تبارك وتعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
[العلق: 1]

نـزل بها سيدنا جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر
رمضان وهو متحنِّثٌ معتكفٌ في خلوته في غار حراء، فقد حُبِّب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنَّثُ فيه، حتى فَجِئَهُ الحَقّ
وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ:
مَا أَنَا
بِقَارِئٍ، قَالَ، فَأَخَذَنِي فَغَطّنِي حَتّى بَلَغَ مِنّي الجَهْدَ، ثُمّ
أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ:
فَأَخَذَنِي فَغَطّنِي الثّانِيَةَ حَتّى بَلَغَ مِنّي الْجَهْدَ، ثُمّ
أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي
فَغَطّنِي الثّالِثَةَ حَتّى بَلَغَ مِنّي الْجَهْدَ، ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ
وَرَبّكَ الأَكْرَمُ، الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ، عَلّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ
يَعْلَمْ}

وحينما نربط بين شهر رمضان الذي أُنـزل فيه القرآن هدىً
للناس، وبين أول ما نـزل في شهر رمضان من القرآن، نجد أن ما نـزل في الآيات يشير
إلى خصوصيَّةٍ بين الإنسان والقرآن:

ففي سورة البقرة قال: {أُنـزلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى
لِّلنَّاسِ} أي للإنسان.

وفي سورة العلق قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ،
خَلَقَ الإِنْسَانَ} ثم قال بعدها: {عَلّمَ الإِنْسَانَ}.

إذًا، لا بد من قراءة متأملة في أول ما نـزل، لأن أول ما
نـزل يكون عادة كالعنوان للرسالة الكبيرة، التي من خلالها يستطيع الإنسان أن يفهم
المنطلق الذي ينبغي أن ينطلق منه.

وهنا نتساءل: لماذا حصلت هذه الحادثة التي تلفت الانتباه؟

يقول الملَكُ للحبيب سيِّدِنا محمَّد صلى الله عليه وسلم:
"اقرأ"، ويجيبه سيِّدُنا محمَّدٌ صلى الله عليه وآله وصحبه: "ما أنا بقارئ"، وتتكرر
هذه الحادثة ثلاث مرات.

ما سرُّ ذلك؟

وما صلة هذا بأول ما نـزل؟

إنه تأكيدٌ على ماهيَّة الإنسان، وإثباتٌ لتمام فقره وعجزه
وحاجته وعبديته لله سبحانه وتعالى.

إن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن ماهية
الإنسان حين يقول له الملك: "اقرأ"، فيقول: "ما أنا بقارئ".

إنه صلى الله عليه وسلم يظهر ماهية الإنسانية التي يظهر من
خلالها إعجاز الوحي السماويّ، وأن ماء الأرض هو من ماء السماء، وأن سيدنا محمدًا
صلى الله عليه وسلم لم يبتدع شيئًا ولم يخترع شيئًا.

فقد قال الله سبحانه وتعالى فيه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ
الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3- 4]

وهو يقول له: "اقرأ".

كيف يقرأ وماهية الإنسان أنه ليس بقارئ، وأنه ليس بعالم،
وأنه ليس بقادر، وأنه فقرٌ تامٌّ إلى الله سبحانه وتعالى..؟

إنه صلى الله عليه وسلم يظهر الماهية الإنسانية.

لذلك قال سبحانه: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى} أي: ما ينطق
عن رأيه ولا هواه ولا بواعث نفسه، {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى}.

وقال في سورة الحاقَّة: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ
الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ} [الحاقة: 44-46]

وجاء في المغازي لابن إسحاق أن ناقة النبي صلى الله عليه
وآله وصحبه وسلم ضلت، حيث قال زيد بن الصيت: يزعم محمد أنه نبي، ويخبركم عن خبر
السماء وهو لا يدري أين ناقته؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
(إن رجلاً يقول كذا
وكذا، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله).

من هنا يكون المنطلق، لأن الذي يتوهم أن لديه علمًا أو قدرةً
أو حولاً أو قوةً .. والذي يتوهم لنفسه شيئًا استقلاليًّا، فإنه في غاية الوهم، وفي
غاية البعد عن الحقيقة.

أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد خلقه الله سبحانه
كالكأس الذي صُنع من الدُرَّة، والذي ليس فيه شائبة، والذي لم تداخله شوائب النفوس
ولا نـزعاتها، فكل ما سيوضع في هذا الكأس إنما هو من ماء السماء، وبعدها يشرب أهل
الأرض من هذا الماء السماوي.

لذلك قال: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ).

وبعد تأكيد الأمر ثلاثًا قال له جبريل ناقلاً عن الله سبحانه
وتعالى:

- طالما أنك على هذا الوصف، إذًا: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ
الّذِي خَلَقَ} فعبديَّتُك هذه وفقرُك وحاجتُك وأنك لا تملك حولاً ولا قوَّةً
استقلالاً .. لا يعطِّلك إذا كنت تستعين بالله.

فإذا كنت تستعين بربك فأنت تقرأ بحوله وقوته، لا بحولك ولا
قوتك.

وتعلِّم الناسَ كلَّهم بحوله وقوته، لا بحولك ولا قوتك.

وتبيِّن للناس كلِّهم لا بحولك ولا قوتك، إنما بحوله وقوته.

إن تمامَ فاقتك وتمامَ احتياجك اللذَين هما ماهيتك،
لا يعطِّلانك عن أداء المهمة حينما تعلم أن المهمة ستحققها كاملةً وأنت تستعين
بربك، لأن الذي يستعين بربه يعينه ربُّه.

- ثم قال: {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} مؤكدًا ما سبق،
فالإنسان في أصله ضعفٌ ظاهر وعجزٌ تامّ.

فهو الذي خلق الإنسان، وكان الإنسان معلَّقًا.

وهل للمعلَّق دعاوي؟

وقبل أن يمشي على رجليه ألم يكن معلَّقًا؟

وهل من مشهدٍ يمكن أن يعبِّر عن ماهية الإنسان في ضعفه وعجزه
كالمعلَّق؟

أشار بهذا إلى ذلك النابت المغروس في الرحم في بطن الأم،
المعلَّقِ الذي لا حول له ولا قوة، والذي يستند استنادًا تامًّا إلى الله.

- ثم قال: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} فعليك أن تلاحظ أن
ربك هو الأكرم.

وفرقٌ كبير بين الكريم والأكرم، فالأكرم هو الذي له الكرم
المطلق، والذي له الكرم المطلق لا تنفد خزائنه، فاستعن بربك ولا تخشى، فأنت تستعين
بالأكرم الذي لا تنفد خزائنه، فهو يعطي ويعطي ويعطي .. ولا تنفد خزائنه أبدًا.

إذًا: اقرأ، وعلّم، وبيّن .. وربُّك الأكرم الذي يعينك وأنت
تقوم بأداء وظيفتك ومهمتك.

ولئن كنت مخلوقًا من علقٍ فإن هذا يتناسب مع ماهيتك، فلست
بقارئ، ولا بقادر، لكن عليك أن تقرأ وأنت تلاحظ ربك الأكرم، وتلاحظ أنه هو وحده
الذي يعين، وهو وحده الذي يُمد، وهو وحده الذي ينعم، وهو وحده الذي يُعلم، وهو وحده
الذي يُقرئ، وهو وحده الذي يقدر ..

- ثم قال: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وأوَّلُ ما خلق
الله القلمُ – كما جاء في الحديث - فقال له: اكتب، فكتب ما يكون إلى يوم القيامة،
فهو عنده في الذكر فوق عرشه.

ولماذا أتى في هذا الموطن بذكر هذا المخلوق؟

ليقول للمخاطَب: كما خُلق القلمُ وما عنده من العلم شيءٌ
لكنه علّمه فكتب بتعليم الله لا بعلم نفسه، فستكون كذلك حين تستمدُّ من الله سبحانه
وتعالى وتأتمر بأمره.

قال صاحب الحِكَم:

"مَا تَيَسَّرَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طَالِبُهُ بِنَفْسِكَ، وَلا
تَعَسَّرَ مَطْلَبٌ أَنْتَ طَالِبُهُ بِرَبِّكَ".

- ثم قال تعالى: {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} فكما علَّم القلمَ الملكوتيَّ المخلوق، يعلِّمُ الإنسانَ البشريَّ المُلكيَّ
الملكوتيّ.

فالقلمُ مخلوقٌ ملكوتيٌّ نورانيٌّ، وقد علّمه، وأنت أيها
الإنسان مخلوقٌ مُلكيٌّ ملكوتيٌّ، أي كثيف لطيف، فأنت المخلوق الأكمل في الموجودات،
وقد خلقك على استعداد عظيم، لكن لا تتوهم أنَّ لك شيئًا استقلالاً، إنما أنت في أصل
ماهيتك محض عَجْز، وبإعانة ربّك أنت فوق كل المخلوقات.

- ثم قال سبحانه: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى} ما
أعجب حاله! فمع استعداده هذا يتجاوز حدَّ ماهيته، فالطغيان تجاوُزُ الحدّ، وبدلاً
من أن يعترف في حضرة ربّه بتمام العجز والفاقة، تجده صاحب الدعاوي، فتراه يقول:
{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51] ويقول: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78]..

ما أعجب حاله! لو أنه اعترف في حضرة ربّه بعبديته وفقره
وعجزه، فإن مولاه سيملأ كأسه الفارغ، لكنه تجاوز حدّه، فحَرَم نفسه من الإعانة.

- ثم قال: {أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} فيستغني بكل ما يراه
محسوسُه، وكلُّ ما يراه حِسُّه مخلوقٌ مثله، ومملوكٌ مثله {ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]، {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:
91].

- {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} فالرجوع إليه في كل
الأحوال، لأنك محتاج إليه في كل حال وفي كل شأن، عَلِمتَ أم لم تَعْلَم.

أتستطيع فِعْلَ شيءٍ من غير إعانة ربِّك ومن غير إمداده؟

ألم يقل سبحانه: {كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ
عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا}[الإسراء: 20]؟

فالناس كلهم فريقان:

* فريقٌ عَلِم هذه الحقيقة، فاعترف بعجزه وفاقته وماهيته،
فاستعان استعانة تامّة بربّه، فأفلح.

* وفريقٌ عانده ونازعه، وادّعى وتوهّم أنه صاحب مُلك حقيقي،
وصاحب وَصْفٍ حقيقي، فما رضي أن يعترف بماهيته، وما رضي أن يستعين بربّه.

- {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى} وبعد
كل هذا، أليس عجيبًا أن ترى مَنْ يمنع هذا العبد الضعيف المُستَمِد، من الاستعانة
بربّه؟

لماذا صلَّى؟

ولماذا دعا؟

ولماذا توجّه إلى ربّه؟

حتى يُظهر هذه الحقيقة، وليقول لربّه: أنا عبدك فأعنّي،
وليقول: لا حول ولا قوة إلا بالله {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا
شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]

فالذي حصل لك من المُلك إنما هو بقوة الله وعطائه.

قال: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا} فما أعجب من
يمنع عبدًا لا يملك شيئًا.

{إِذَا صَلَّى} إذا تقرَّب إلى ربّه مستعينًا ومستمِدًّا.

وبعد كل هذا التقديم الذي قدّمه، يُظهِرُ العجبَ ممن يمنع
العبدَ الذي لا يملك، أن يستمدَّ من الذي يملك وحده.

- {أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} في حال استعانته
هذه، أما الذي غفل عن حاجة الإنسان إلى الإعانة فهو في الضلال.

فهو في الهُدى، والغافل عن احتياجه إلى ربّه في الضلالة.

فهذا هو المهدي المهتدي الذي هداه الله.

{أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى} ففهم وعرف أنه ينبغي
أن يستعين.

- {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} أي أمر نفسه بالتزام أحكام
الله سبحانه وتعالى والتزامِ شريعته، فهو في باطنه مهديٌّ إلى ضرورة استعانته
واستمداده من ربّه، وفي ظاهره يأمر نفسه ويأمر الناس بالتزام الشريعة التي هي
الطريق إلى القُرب، والتي هي مُختصر معنى قوله: {صلّى}.

فالشريعة هي طريق القُرب، وهي الطريق الأوحد الذي يتقرّب به
الإنسان إلى الله، وذلك في عباداتها ومعاملاتها، وفي كلِّ أحكامها: الاجتماعية
الفردية والجماعية، والاقتصادية، والسياسية ..

ففي كل ذلك، إن هو لَزِم الشريعة يتقرّب إلى الله.

فهو يكون على الهدى حين يعترف بعجزه ويستعين بربه، ويأمر
بالتقوى حينما يأمر نفسه ويأمر الناس بالتزام طريق الشريعة، الذي هو الطريق الأوحد
المُوصِل إلى رضوان الله سبحانه وتعالى باري الكون، والذي هو وحده سلطانه.

- {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فأعجب منه مَنْ كذّب
بهذه الحقيقة، أي بماهية الإنسان هذه، وبهذا الأمر الساطع الواضح، الذي تدلّ عليه
دلائل العقول، وتشهد له حقائق النقول، وتستشعر به القلوب والأرواح.

أعجب من ذلك مَنْ كذّب بهذه الحقيقة، فادّعى له شيئًا
استقلاليًّا، ونازع الربوبية.

{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ} بهذه الحقيقة، وبماهيته ذات الفقر
والعجز، والتي يجب عليه من خلالها أن يطلب الإعانة، {وَتَوَلَّى} عن طريق الشريعة.

فالهدى والتقوى. والتكذيب والتولِّي، أضداد.

{أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ} بماهية فقره وحاجته إلى ربه.

{وَتَوَلَّى} عن الطريق الأوحد المُقرِّب الذي هو الشريعة.

- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}

ألا يستحيي؟

من الذي ينعم عليه صباح مساء؟

ألا يخجل ومولاه مع جحوده وكُفرانه يعطيه صباح مساء؟

يُنعم عليك وحده، وتُشرك الناس معه .. وتتوهم أنك أنت صاحب
المُلك والناس ..!!

إذا أحسن إليك مُحسِنٌ مرة ومرتين وثلاثة وأربعة ... وبعدها
قال لك قائل: إن الذي يُنعم عليك صباح مساء يراك، أفلا تستحيي ولا تخجل؟

فما أعجب حالك!!

ألم يبقَ لديك أيُّ حياء أو خجل، وأنت تُصِرُّ على التكذيب
بحقيقة فقرِك إلى الله، وتُصِرُّ على التولِّي وعلى الإعراض عن شريعة الله التي هي
الطريق المُقرِّبة إليه؟

- {كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ} عن هذه الغفلة المُطبِقة على
قلبه.

- {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} سوف نوقظه بابتلاءٍ وعذاب.

(إن تابوا إليّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم،
أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب).

مَنْ لم يُقْبِلْ عَلَى اللهِ بمُلاطَفَاتِ الإِحْسَانِ،
قِيْدَ إِلَيْهِ بِسَلاسِلِ الامْتِحَان.

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ
الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]

- {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} كذبت حين أنكرت تلك الحقيقة التي هي
فقر الإنسان وحاجته إلى الله.

- {خَاطِئَةٍ} لأنها تولّت عن طريق الشريعة.

- {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} فليدعُ أنصاره بعد ذلك، الذين
تَوهَّم أنهم ينصرونه، وأنهم يملكون، وأنهم يقدرون، وأن لهم من المملكة شيئًا ..

- {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فالذي لا يتيقظ من الابتلاء
والامتحان والتذكير والإيقاظ .. لن يتيقّظ إلا على زبانية جهنم الذين سيُوقظونه.

وانظروا ذلك الأكرم، حيث لم يقل: سوف أعذّبه، لكنه قال:
سأدعو من جنودي مَنْ يُعذّبه، فهو الأكرم.

والأكرم لا يُعذِّب، فهو يُخوّف عباده بعباده، ويقول
للإنسان: يا مَنْ لا يخاف إلا من المملوك الذي خلقتُه، سيكون الجزاء من جنس العمل،
فستخاف من المملوك الذي خلقته.

أما الذي لا يخاف إلا مقام ربّه فله جنتان {وَلِمَنْ خَافَ
مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].

- ثم قال: {كَلاَّ لا تُطِعْهُ} إذا دعاك إلى منهجه المُنكِر
المُكذِّب، المُخْطِئ في السلوك، المُبتَعِد عن الشريعة.

- {وَاسْجُدْ} بباطنك، مُستغرِقًَا في تعلّقك بربِّك وحده.

- {وَاقْتَرِبْ} وتقرّب إلينا بشريعتنا، وتقرّب إلينا بطريق
القُرب الذي وضّحناه، والذي بينّاه.

هذه أول سورة نـزلت، وقد نـزلت في رمضان، لتكون المُنطلَق
الذي يختصر قضية الإنسان من مُبتداه إلى منتهاه، ويختصر واجباته، ويختصر ما ينبغي
أن يعرفه.

مَنْ تدبّر هذه السورة وفهمها وتخلّقَ بها وامتزج بأنوارها
وارتقى إلى أسرارها ... يتخرّج من مدرسة رمضان ناجحًا.

والذي يقرأ القرآن مرات ومرات، ويقول: ختمت القرآن كذا مرة،
ولا يتدبّر منه ولا آية، ولا يفهم، ولا يصل إلى قلبه شيء، ثمّ يتوهّم أنه قرأ
القرآن في شهر رمضان!

أي شيء قرأه هذا؟

وما فَهِم من ماهيته ولا من رسالته شيئًا.

هذه السورة تختصر القضية كلها، وتضعك على الصراط سلوكًا
وحالاً واعتقادًا، فإذا فهمتها من مُبتداها إلى مُنتهاها، انتهت المشكلة، ولن تجد
بعد ذلك خوفًا.

{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ} الذي تولاّهم الله وتولّوه
وحده، {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ} بماهية
الإنسان الذي هو تمام الفقر والحاجة إلى الله، وأن الله سبحانه وحده هو المُمد
للكون، {وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 62-63] وفق الشريعة.

اللهم فَهِّمنا كتابك، وصفِّ قلوبنا يا ربّنا، وصفِّ نفوسنا،
حتى نكون في شهر رمضان أصحاب القرآن، وممنْ يفهم القرآن، ويتدبَّر القرآن، ويتأدّب
بآداب القرآن، ويتخلّق بأخلاق القرآن، ويعرف بمعارف القرآن، ويتحقق بحقائق
القرآن ..

واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

اللهم رُدّنا إلى دينك ردًّا جميلاً.

أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة