الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
8/9/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
هنّأ الله الأرواح المشتاقة إلى الأنوار، فقد أقبل موسم
الأنوار

انتصف شهر شعبان واقترب موسم شهر رمضان.

آن الأوان أن تتوجَّه القلوب إلى الله، وأن يعيد المسلم
حساباته، فما يدري متى تُطوى صحائفه، وفي أيِّ وقت يخرج من هذه الدار؟

اخترت لكم حديثًا يتناسب مع الزمان، ومع بيئة الروح، لأننا
بحاجة إلى استعدادٍ خاصّ، فمن دخل في هذا الموسم من غير استعداد فقد حكم على نفسه
بتضييع فرصة ثمينة.

كنت أقرأ في كتاب الله فاستوقفتني صورة تلك المرأة الصالحة
الولية، المخلِصَةِ المُخلَصة، وديننا ليس ذكوريًّا كما يقولون، فهو يعتني بصلاح
الرجل وصلاح المرأة.

استوقفتني صورة امرأة عمران التي تَوَجَّهَ قلبُها إلى الله
سبحانه وتعالى في بيت المقدس.

وتفكّرَتْ: ماذا تقدِّم لله؟

هل تقدِّم المال؟

هل تقدِّم المتاع؟

وأدركَتْ أن خير ما يُقدَّمُ هو الإنسان.

وها هي تنظر إلى بطنها فترى ثمرةً إنسانيَّةً، اقترب نضجها
وينعها وخروجها إلى دار التكليف، وهكذا حكى القرآن الكريم قولها:

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ
لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران: 35] أي خالصًا لك لا تدخل فيه شائبة،
ولا يشاركك فيه غَيرٌ من الأغيار، ولا يكون فيه كَدَرٌ من الأكدار.

ولما ولدت لم يكن المولود ذكرًا، إنما كان أنثى أيضًا،
وتواصل الصلاح في الساحة الأنثوية.

وكان المشهد عجيبًا، حينما اختصم صالحو زمانها: أيُّهم
سيتشرف بخدمتها؟

وأيُّهم سيعتني بها؟

حكى ربُّنا سبحانه وتعالى ذلك بقوله:

{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ
أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}
[آل عمران: 44]

إنها تهب هذا الإنسان لله، ليكون متجرِّدًا لا يشتغل بشيء من
متاع الدنيا، فيهيئ اللهُ سبحانه وتعالى الصالحين من الناس، فيختصمون، كلُّهم يريد
تأمين الأسباب لمن ترك الأسباب وتوجَّه إلى مُسَبِّبِ الأسباب.

الأمُّ متوجِّهةٌ إلى الله..

والمولود الجديد مشروعُ توجُّهٍ وتجَرُّد، ليست فيه شائبةٌ
ولا علاقةٌ بالأسباب..

إنها صورةٌ يجتمع فيها التوجُّه إلى الله سبحانه وتعالى مع
الأخذ بالأسباب، والجميع بيد الله سبحانه، الذي يجمع أصحاب الكسب إلى أهل الوهب.

وخصَّ الله سبحانه وتعالى نبيَّه ورسولَه زكريَّا ساكن حلب
عليه صلوات الله وسلاماته ليقوم بنفسه بخدمتها والعناية بها وتهيئة الأسباب لها،
وليقوم بكلِّ ما ينبغي على الإنسان أن يقوم به وهو يتعاطى الأسباب، مسخِّرًا كلَّ
ذلك لمريم التي تركت الأسباب.

قال سبحانه وتعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}[آل عمران: 37]

وهناك قال: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون
أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} فنسب إليهم الرغبة في كفالتها، وخدمتها
والعناية بها، وهنا نسب الأمر إليه ليدلنا أنه الذي اختار في قوله سبحانه:
{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}

فأمر الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله زكريا أن يأخذ الأسباب
التي يستطيعها من أجل أن تكون مسخرة لمريم التي تركت الأسباب.

ثم تأتي بعدها صورةٌ أخرى لتثبِّتَ في قلوبنا معنى التوجُّه
إلى الله وحده:

ها هو سيِّدُنا زكريَّا عليه الصلاة والسلام يجمع همَّتَه
ويأتي بكلِّ الأسباب ويأخذ بها، بحسب ما أمره ربُّه سبحانه وتعالى وأوحى إليه،
آخذًا بها إلى مريم التي شُغِل قلبُها عن الأسباب وتوجهت إلى مُسَبِّب الأسباب،
ويُفاجَأ زكريَّا حين يدخل بالأسباب على التي تركت الأسباب، فيجد أنَّ كلَّ الأسباب
بين يديها.

قال سبحانه: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37]

إنه يقضي وقتًا طويلاً لإحضار رزقها وخدمتها، وهي مشغولةٌ عن
ذلك كلِّه بالتوجُّه إلى الله.

وحينما يدخل بعد العناء الطويل حاملاً الأسباب، يجد أنَّ
الأسباب كلَّها عند أقدام التي تركت الأسباب.

وكان يتعجَّب حين يرى عندها في الصيف فاكهةَ الشتاء ، ويرى
في الشتاء فاكهة الصيف، والبابُ مقفل.

إنها عناية مُسبِّب الأسباب، وقد انقطعت الأسباب.

لماذا يقصُّ القرآن علينا هذه القصص؟

ولماذا يرسم هذه الصور ويبيِّنها لنا؟

ليعلمنا أن نوجِّهَ قلوبَنا، ونحن نأخذ بالأسباب ونتعاطاها،
إلى مُسَبِّب الأسباب.

ذلك هو الدرس.

فإذا اشتغل ظاهر المؤمن بالأسباب وفق الأمر الشرعيِّ فإنه
سبحانه وتعالى لا يأذن لهذه الأسباب أن تدخل قلبه.

ففراغ القلوب من الأسباب شرطٌ لقبولها عند الله سبحانه
وتعالى، لأنه القائل:

{يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} والمال والبنون من
الأسباب.

{إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:
88-89] أي من المال والبنين، وسليم من كلِّ الأسباب أن تدخل إليه، أو أن يتوجّه
إليها.

فتكليف الإنسان في هذه الدار ينحصر في أمرين:

- أن يشتغل ظاهر الإنسان بالشريعة وفق أمر الله.

- وأن لا يكون في قلبه غير مولاه.

فإذا انعكست الآية، فصار الدين والاعتقاد في ألسنتنا وفي
ظواهرنا، وصار التوجُّه إلى الله في اللسان بالدعاء، وصارت الأسباب في القلوب، فها
هنا تكمن المشكلة.

نقف بين يدي الله لنصلِّيَ ركعاتٍ ونحن ننتظر متى سينتهي
الإمام من الصلاة، لأننا نعيش حالة مكابدة ونحن في الصلاة.

نحن بين يدي ملك الملوك، ولو كُنّا مع صاحب جاه أو مال،
لتمنَّينا أن يطول الوقت ويطول .. لأنه يستطيع أن يُقدِّم لنا المال، وأن يلحق بنا
شيئًا من الجاه.

فإذا وقفنا بين يدي ملك الملوك الذي بيده النواصي والأقدام،
والذي بيده مقاليد الأمور كلِّها، والذي بيده السماوات والأرض، كُنّا بقلوبنا مع
مماليكه ومصنوعاته.

فاختصار الدرس في هذه الدنيا:

اشتغالُ الظاهر بما أُمرنا به، لنكون في حياتنا على
الاستقامة، والاستقامة فيها السلامة، فنبتعد عن كلِّ المُحرَّمات التي يمكن أن تقع
فيها الجوارح، ولا نُدخلَ إلى جيوبنا إلا مالاً حلالاً.

تلك هي وظيفة ظواهرنا..

وهذه هي مهمة جوارحنا..

قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنذِرْ،
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 1-4] وثوبُ روحِك جسدُك،
فطهِّر جسدَك من دَنَسِ المخالفات والمعاصي والفسوق، لتكون طاهرًا تائبًا متزوِّدًا
بأحسن زاد.

{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 197]

تلك هي وظيفة الظاهر..و مهمة الجوارح والبدن..

أما وظيفة بواطننا وتكليفها فهي تفريغها من غير الله،
وتفريغها من التوجّه إلى سواه: "فرِّغ قلبك من الأغيار، يملأْه بالمعارف والأسرار".

ها نحن مُقبِلون على مواسم، فيها رحمةٌ ومغفرةٌ وعِتقٌ من
النار، فهل وقفنا دقيقة مع أنفسنا نُعيد الحساب، لنضع خطّة عمل تستقيم من خلالها
ظواهرنا، وتصفو فيها بواطننا؟

أم أننا لا نضع إلا خُطّةً من أجل كسبنا ومعاشنا الدنيوي،
غافلين عن مهمتنا ووظيفتنا الكبرى التي كلّفنا الله سبحانه وتعالى بها؟

إنه سؤال ينبغي أن يسأله كلُّ واحد منا لنفسه، وهو يُعيد
الحساب.

إذا كنتُ متفوّقًا في وضع الخُطّة لمعاشي ولتكسُّبي، فأين هي
الخُطّة التي أضعها لطهارة ظاهري ولصفاء باطني؟

إنه تكليف يأتي بعده التشريف، كما رأينا في قصة مريم.

جاء التكليف: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}.

ثم جاء التشريف: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا
الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا
قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ}

وهكذا يكون الموصول بالله..

وهكذا يكون من تصفَّى باطنه..

وهكذا يكون مُوحِّدًا في ظاهره وباطنه..

{قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن
يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ}

وخلاصة الدرس كله مجموعة في آية من سورة هود، يقول فيها
سبحانه:

{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]

{وَلِلّهِ} لا لسواه {غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي
ما تجهله من مُلك الله سبحانه وتعالى في السماوات والأرض {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ
الأَمْرُ كُلُّهُ} لا لسواه، فسواه مماليك في يده سبحانه.

جاء الأعرابي وهو يُمسك سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع تحت الشجرة.

وكانت بالنسبة لخيال الأعرابي فرصة اغتيالِ أكبرِ شخصيَّةٍ
على وجه الأرض.

وظنّ الأعرابيُّ أن القضية تنتهي ببساطة هكذا، فأمسك السيف
بيده، وهو يتوهَّم أن الأسباب يمكن لأحد أن يُمسك بها، فقال: من يمنعك مِنّي يا
محمد ؟

ولم يتردَّد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الإجابة فقال:
(الله).

فانـزلقت رِجْل ذلك الأعرابي ووقع السيف من يده، وقيل: يبِست
يده وشُلَّت.

{وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ} فما هي وظيفتك أيها الإنسان؟

{فَاعْبُدْهُ} بظاهرك، أي كن صاحب عبادة, وافهم أن حياتك
وحركة جوارحك كلِّها اختصارها {فَاعْبُدْهُ}

{وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} بباطنك.

فحيثما كنت: في أسرتك، وفي عملك، وفي صلاتك ... مختصرُ ذلك
كلِّه في قوله: {فَاعْبُدْهُ}، لأنك في الأسرة تَعبُده، وفي العمل تعبده، لأن
المَقصِد حاضرٌ في قلبك، ولا تريد من هذا العمل إلا إرضاء ربِّك.

{فَاعْبُدْهُ} في صلاتك، وفي مالك، وفي نفسك، وفي أولادك،
وفي دُنياك ...

فتلك هي وظيفتك في الظاهر.

أما وظيفتك في الباطن فمستمدة من قوله: {وَتَوَكَّلْ
عَلَيْهِ}

لأنه هو الذي يُرجَع الأمرُ كلُّه إليه، وهو الذي له غيب
السماوات والأرض.

ذلك هو درس دِين الإسلام باختصار.

ها نحن نبدأ موسم التدريب، لنتدَّرب على أداء المهمَّة التي
كُلِّفنا بها في هذه الدنيا، ظاهرا وباطنا.

رُدَّنا اللهم إلى دينك رَدًّا جميلاً واجعلنا ممن يستمعون
القول فيتبعون أحسنه.

أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة