الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
إحسان الخلفاء الراشدين
8-9-2009
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
إحسان الخلفاء الراشدين
أولا- المقدمة:
حين تقف الكلمات في عتبات العظماء تنكمش على نفسها خجِلةً وتضمحلُّ، فكيف سيكون حالها إذا كان الكلام على أصحاب سيد كل العظماء محمد، وبماذا يتحرك القلم ليعبر عن سجايا خلفائه الأربعة الأقمار، المتصدّرين ركبَ العشرة الأخيار إلى الجنة؟
خيرٌ لهذا القلم أن يستمدَّ مداده من أنوار التعبيرِ المحمدي الأكرم، لأنه وحده المحيط بمكارمهم، والقادر على وصفِ أخلاقهم ومآثرهم، وكيف لا يصِفُها ومبدعهُ هو هاديهم ومرشدُهم ومتعهدُ خصالهم بالعناية والرعاية؟
فإذا لم يجد في الروايةِ عن المصطفى التصريحَ المنشود، بأسرارِ لواء المجدِ المعقود، استنجد بالرواية عن أقرانهم وطلاّبهم، فإنهمْ إليهمُ الأقربُ نعتا، والأصدقُ نقلا.
ومرة كان شمسهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ وَمعه أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَتَحَرَّكَ الجبلُ مضطربا بوجده، وحُقَّ له أن يهيم بمن عليه، فسَكَّنهُ رحمةُ الكونِ صلوات الله وسلامه عليه، رأفة به وبهم وقال له: " اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ"، ولا عجب، فقد يُغيِّبُ الحبُّ الجبلَ عن واجب ثباته المحسوس الذي أمره به السبّوح القدوس.
ونال الخلفاءُ الأربعة بهذه الواقعة شهادةَ المصطفى لهم، بما يغنيهم عن ثناء المادحين، ويصُدُّ عنهم إفكَ الأفّاكين، فما يحتاجون بعدها إلى وثيقة حسن السلوك من باحثٍ أو دارس، وما يضيرهم نعيقُ أعمى تعثَّر في أكدارِ نفسه الطينية غافلا عن علوِّ منازلِ البدور في سماوات الروح.
ولما رأى سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ أحدُ العشرة المبشرين قوما ينالونَ من أولئك الأخيار قال لهم: "وَاللَّهِ لَمَشْهَدٌ شَهِدَهُ رَجُلٌ يُغَبِّرُ فِيهِ وَجْهَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ وَلَوْ عُمِّرَ عُمُرَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلام"
وعَلِمَ سيدُ الكائناتِ بإعلام الله تعالى له أنَّه سيأتي يومٌ تسوِّلُ فيه النفوس لبعضِ القاصرين أن يَتطاولوا إلى خلفائه وخيرة أصحابه مفنّدين، فخصَّ صلوات الله وسلامه عليه أولئك الأربعة بالثناء مذكّرا ببعضِ مكارمهم وقال: "رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ زَوَّجَنِيَ ابْنَتَهُ وَحَمَلَنِي إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ وَأَعْتَقَ بِلالاً مِنْ مَالِهِ، رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ يَقُولُ الْحَقَّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، تَرَكَهُ الْحَقُّ وَمَا لَهُ صَدِيقٌ، رَحِمَ اللَّهُ عُثْمَانَ تَسْتَحْيِيهِ الْمَلائِكَةُ، رَحِمَ اللَّهُ عَلِيًّا اللَّهُمَّ أَدِرْ الْحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ".
ثانيا- البحث:
الكلام على إحسانِ الأربعةِ الأقمارِ أبعدُ منالا من سواه، لأنه تنقيبٌ عما خفي، واستخراجٌ لما بطن، فالإحسانُ يتضمَّنُ أمرين:
- فهو عبادةُ الله بعملٍ ظاهرٍ سابقٍ في الخيرات.
- وهو أيضا حالٌ من الاستغراقِ الشهودي في مراقبة جلال الحقِّ وعظمته يُنتجُ أعجبَ الأوصاف، وأسنا الأخلاق.
وللعبارات أن تصف الظواهر، لكنَّها لن تلمسَ البواطنَ إلا من خلال آثارها التي يعُزُّ ظهورها عن أضدادها الظلمانية.
ولكنْ ما لا يُدركُ كله لا يترك جُلُّه، فمن ظواهر إحسانهم رضوان الله عليهم:
1. التزامهم أنواع العبادات وأعاجيب المعاملات:
أما الصدّيق فهو المدعوّ من كل أبواب الأعمال في الجنة، صلاةً وصياما ونفقة وجهادا، والمطابق في سلوك يومه لعمل أهل الجنة، بشهادة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أَصْبَحَ في يوم واحد صَائِمًا، وتَبِعَ جَنَازَةً، وأَطْعَمَ مِسْكِينًا، وعَادَ مَرِيضًا، فبشره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأعمال مَا تجتمع فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ، ووقف وحده أمام المشركين في مكة يدفع عنه حين خنقوه بالرداء وأرادوا قتله صلوات الله وسلامه عليه،وكان في خدمة المصطفى يوم هجرته، ودخل إلى الغار قبله خوفا عليه، وسدَّ جحوره بثيابه وقدمه، وخرج للنبي عن نفسه وجميع ماله، وكاد من ورعه أن يهلك نفسه لإخراجِ لقمةٍ من جوفه لم يكن يعلم أنها من شبهة، فلما علم قاءها، واستعمل في إخراجها أصعب الأسباب، وكان بكّاء العينين إذا تلا أو حدّث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانَ شديد الاحتراز عن دماء المسلمين قَالَ أَبو بَرْزَةَ،: تَغَيَّظَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ (وفي لفظ: غَضِبَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَجُلٍ غَضَبًا شَدِيدًا) فَقُلْتُ: مَنْ هُوَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لِأَضْرِبَ عُنْقَهُ إِنْ أَمَرْتَنِي بِذَلِكَ، قَالَ: أَفَكُنْتَ فَاعِلاً؟ قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَوَاللَّهِ لاذْهَبَ عِظَمُ كَلِمَتِيَ الَّتِي قُلْتُ غَضَبَهُ (وفي لفظ: فَكَأَنَّمَا صُبَّ عَلَيْهِ مَاءٌ بَارِدٌ فَذَهَبَ غَضَبُهُ عَنْ الرَّجُلِ) ثُمَّ قَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ أَبَا بَرْزَةَ، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان رضي الله عنه يخاف من كل بدعة، ولا يقرُّ شيئا منها حتى يرى لها خيرا يعود على الإسلام والمسلمين.
وقد أَتَاه عُمَر فَقَالَ.. َإِنِّي لارَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُه فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْره.
قال صاحب الحلية فيه: "السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في جميع الأطوار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، المخصوص في الذكر الحكيم بمفخر فاق به كافة الأخيار، وعامة الأبرار، حيث يقول عالم الأسرار: (ثاني اثنين إذ هما في الغار ) "
وأما عمرُ فقد شهدت أصدق شفة خلقها الله بكمال دينه، حين قصَّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا القُمُص القصيرة، وقميصِ عمر السابغ الطويل الذي يجرّه وأوَّلَهُ المصطفى بالدين، وكذا في رؤيا القليب والدلو الدالة على كمال نفعه الناسَ في زمان خلافته، وقال حبرُ الأمة ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما فيه: "كَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ" وقال معَلَّمُ الأصحابِ ابنُ مسعود: "مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ" ، وكان زمانَ خلافته يخرجُ في سواد الليل في خدمة العجائز، وكان يحذِّرُ ولاته من أموال الناس، ويحضُّهم على العفة، وأبى أن يجعل ابنه عبد الله خليفة من بعده، وما رضي بقتلِ العبيد والرقيق من حديثي العهد بالإسلام في المدينة، ولا بإخراجهم بعدما طعنه أحدهم، وقال للعباس الذي عرضَ الفكرة عليه: " بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ وَحَجُّوا حَجَّكُمْ ؟، وكان شديد البكاء، ولربما كانت الآية تخنقه فيحنُّ ويئنُّ، وكان يُرى في وجهه خطان أسودان من البكاء.
نظر إليه عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنهما بعد وفاته وهو مسجّى عَلَى سَرِيرِهِ فَتَرَحَّمَ عَلَيه وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَدًا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ.
وقال صاحب الحلية فيه: " الفاروق، ذو المقام الثابت المأنوق، أعلن الله تعالى به دعوة الصادق المصدوق... المخصوص من بين الصحابه بالمعارضة للمبطلين، والموافقة في الأحكام لرب العالمين، السكينة تنطق على لسانه، والحقُّ يجري الحكمة عن بيانه، كان للحق مائلاً، وبالحق صائلاً، وللأثقال حاملاً، و لم يخف دون الله طائلاً "
وأما عثمانُ فهو المكرَّمُ بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وبشارته حين جهز بماله جيش العسرة، فدعا له: " اللهم اغفر لعثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أسر وما أجهر" وقال فيه: "مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ"، سوابق أعماله رضي الله عنه لا تخفى على مبصِر، فقد هاجرَ الْهِجْرَتَيْنِ، وأجابَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى طلبه بشراء أرضٍ ليضمها إلى المسجد، فيتَّسعَ على الناس، وسقى المسلمين من بئر رُومةَ بعدما كانوا لا يشربون منها إلا بالمال، فسبَّلها لله، وهو القائل: صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَايَعْتُهُ، فَوَاللَّهِ مَا عَصَيْتُهُ وَلا غَشَشْتُهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وهو البكّاء من خشية الله، المعتبر بأحوال الآخرة، كفاه من المكارم أنَّ المصطفى بايع له بيده يوم بدرٍ ويوم الحديبية وكانت له خصلتان في خلافته لم تكونا لصاحبيه من قبله: فقد صبرَ على نفسه فأمر أصحاب النبي بترك الدفاع عنه حتى قتل مظلومًا، وجمعَ الناس على المصحف، ولما تلا ابن عمر قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]، قال: هو عثمان بن عفان، كان زمانَ خلافته إذا وقف في مكة عند المقام يختم القرآن بركعة، وبشَّره المصطفى أنه يكون يومَ الفتنة على الهدى.
قال صاحب الحلية فيه: " القانت ذو النورين، والخائف ذو الهجرتين، والمصلي إلى القبلتين، غالب أحواله الكرم والحياء، والحذر والرجاء، حظه من النهار الجود والصيام، ومن الليل السجود والقيام، مبشر بالبلوى، ومنعم بالنجوى".
وأما عليٌّ كرم الله وجهه، فهو صاحب اتباع المصطفى في حضوره وغيابه، أما في حضوره فقد أمره المصطفى أن لا يلتفت، ثم كلمه فأجابه ولم يلتفت، وأما في غيابه فإنه المهلُّ في الحجِّ بما أهلَّ النبي به وهو في طريقه من اليمن إليه، تاركا علمه إلى علمِه، ومستندا إلى أفضلية نيته على كل نية، كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهده مع زوجته الزهراء بالعناية الخاصة، فيأتي في السَحَرِ بنفسه إلى داره ويأمره معها بصلاة الليل، ويدخل عليهما فيضع قدمه الشريفة بينهما ثم يعلِّمهما ما يقولان، كان رضي الله عنه يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، وكانَ زمانَ خلافته يميل في محرابه قابضًا علي لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: إليَّ تغررت؟ إلىّ تشوفت؟ هيهات هيهات، غرّي غيري، قد بتَـتُّك ثلاثًا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
قال صاحب الحلية فيه: "سيد القوم، محب المشهود، ومحبوب المعبود... رأس المخاطبات، ومستنبط الإشارات، المنبئ عن حقائق التوحيد، المشير إلى لوامع علم التفريد... الأخيشن في دين الله، الممسوس في ذات الله "
2. التزامهم أنواع الآدابِ السنية والأخلاقِ الرفيعة:
والآداب والأخلاق من لوازم الإحسان وقرائنه، وللخلفاء الأربعة فيها باع طويل:
أما الصدّيق فله في الأدب والأخلاق الأعاجيب، فقد أمره المصطفى بإكمال صلاته إماما بالناس حين تأخّر عنهم ثم عاد إليهم، فلم يسمحْ أدب الصدّيق له بالتقدّم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل تأخر هذا الإمام إلى صفوف المأمومين مؤتمّا، وقال للمصطفى بعد فراغه من الصلاة "مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، ووقف بعد وصوله إلى المدينة من طريق الهجرة يشاغل الناس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكلام معهم والترحاب بهم، رغبةً منه في راحة المصطفى من عناء السفر، وكان كثيرٌ منهم لا يعرف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما عرف الناس مَنْ منهما رسولُ الله حتى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفوا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ، وكان قبلها يُسأل عن المصطفى فيقول: هَذَا الرَّجُلُ يَهْدِينِي السَّبِيلَ، فَيَحْسِبُ الْحَاسِبُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي سَبِيلَ الْخَيْرِ.
وفي أخلاق الصدّيق رضي الله عنه يحار الحكيم، فقد جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو إعراض عمرَ عنه، فلما جاء عمر ورأى الصدّيقُ شدة غضب المصطفى منه جثا على ركبتيه مشفقا وشافعا، ونسب الظلم إلى نفسه رفعا للوزر عن صاحبه، وتخفيفا لغضب رسول الله عنه.
وكانَ يؤثر خلق الصمتِ على الكلام فيما لا يعنيه، ويحفظ لسانه من مكروه في المحظور يرديه، فقد دخل عمر على أبي بكر وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه؟ غفر الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد.
وكان من خلقه أن لا يسأل أحدا فرُبَّمَا سَقَطَ الْخِطَامُ مِنْ يَدِه فَيُنِيخُ نَاقَته فَيَأْخُذُهُ فيقولون لَهُ أَفَلا أَمَرْتَنَا نُنَاوِلُكَهُ فيقول: إِنَّ حَبِيبِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ لا أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا.
وشهد له المصطفى بالتواضع وأنه لا يجَرُّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ، وأمسك في فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ يدَيْ عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ وَأَبُي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فقال للناس: بايعوا أحدهما، غيبة منه عن نفسه، وكراهية للتأمّر عليهم، وكان يسهر الليل مع النبي صلى الله عليه وسلم متفكرا في شؤون المسلمين والناس نيام، تفتيا وإيثارا، وكان يحفظ حق المودة والأخوة لصديق عمره سيدِنا رسول الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر له ذلك ويحفظه، وكان يحفظ سرَّ محبوبه ولا يفشيه، فقد عرض عمر عليه ابنته حفصة ليزوجها له فسكت عن جوابه ثم قال لعمر بعد أن خطبها المصطفى: " لَمْ أَكُنْ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"
أما أخلاق عمر رضي الله عنه فرأسها الجِدُّ والجود، أما جِدّه وحدَّتُه في الحق فمنها ما كان يوم أحد حين أصيب المسلمون فنادى من صف المشركين أَبُو سُفْيَانَ: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَمَّا هَؤُلاءِ فَقَدْ قُتِلُوا، فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ فَقَالَ: كَذَبْتَ وَاللَّهِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لاحْيَاءٌ كُلُّهُمْ وَقَدْ بَقِيَ لَكَ مَا يَسُوءُكَ، وقال الأسود بن سريع، قال: كنت أنشد - النبي صلى الله عليه وسلم ولا أعرف أصحابه حتى جاء رجل بعيدُ المناكب أصلع، فقال: اسكت، قلت: واثكلاه! من هذا الذي أسكتُ له عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: عمر بن الخطاب، فعرفت والله بعدُ أنه كان يهونُ عليه لو سمعني أن لا يكلّمني حتى يأخذَ برجلي فيسحبَني إلى البقيع.
وأما جوده فمنه قصة الأرض الثمينة من خيبر التي لَمْ لم يكن لديه مَالٌ أَنْفَسُ عِنْدِه مِنْها فتصدق بها في سبيل الله، ومما يشهد على جوده عهد خلافته فقد كان يقوم في الليل فيتفقد الفقراء والمساكين، والمقعدين والعجزة، ومات وعليه ديونٌ كثيرة وبيده مفاتيح الأرض.
وكان مع حدَّته يسكت على جرأة امرأته عليه وهي تتمثل بأفعال نساء النبي صلى الله عليه وسلم الجريئة، وتطلب منه أن يقابلها بما يقابل به رسول الله نساءه، وكان رضي الله عنه مع غيرته على نسائه لا يقدر على منعهن من الخروج إلى المسجد أدبا مع توجيه المصطفى القائل: "لا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ"
وكان من أخلاقه الشعور بالجماعة وتحمل المسؤولية عنهم، فمن ذلك تحمُّله عنهم التصديق والإيمان بصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين أكثروا سؤاله فَبَرَكَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وقَالَ رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا وَبِالْإِسْلامِ دِينًا وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، ومن ذلك حرصه على ديمومة عمل المسلمين، وخوفه من اتكالهم على البشارة بالجنة حين أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبشرهم بها فقَالَ: فَلا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، فأقره رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك وقال: فَخَلِّهِمْ، ومن ذلك تطويله الركعة الأولى في صلاة الجماعة حرصا على أن لا يفوّت الناس فضيلتها، ومن ذلك مشاركته للصدّيق في سهره مع النبي صلى الله عليه وسلم للتفكر في شؤون الأمة ومدارسة أحوالها.
ومن تواضعه رضي الله عنه صنائعه عند دخول بيت المقدس، ونـزوله في المخاضة عن بعيره ونزعه لخفيه وإمساكهما بيديه، وخوضه في الماء ومعه بعيره، فعل ذلك أمام دهاقنة الشام وقسسهم غير آبه بحرص الذين كانوا حوله على التصنع والتكلف والتزيّن، وأبى بعد طعنه وشعوره بعجزه ودنو أجله أن يقال له أمير المؤمنين فكان يرى زوال وصف الإمارة عنه في ذلك الحال.
وخطب على المنبر وهو خليفة وعليه إزار فيه ثنتا عشرة رقعة.
كان زاهدا في الدنيا مترفعا عنها، وقد مر يوما على مزبلة فاحتبس عندها، فتأذى أصحابه بريحها فقال: "هذه دنياكم التي تحرصون عليها"، فمثل لهم بهذا المثال الحسيّ تزهيدا وتنفيرا، ولامته ابنته حفصة أم المؤمنين في طعامه وثيابه، فحاججها بما كانت تعرفه من عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال فيه أبو نعيم: "كان عن فناء الملاذّ منتهيًا، ولباقي المعاد مبتغيًا، يلازمُ المشقّات، ويفارقُ الشهوات".
وأما أخلاق عثمان رضي الله عنه فتاجها الكرم والحياء، أما الكرم فقد تقدم من ذكره أخبار إنفاقه في جيش العسرة وتوسيع المسجد وبئر رومة، وتفصيلها: أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلانٍ فَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ فَاشْتَرَاها، وسمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ: مَنْ يُنْفِقُ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً؟ وَالنَّاسُ مُجْهَدُونَ مُعْسِرُونَ فَجَهَّز ذَلِكَ الْجَيْشَ، وسمع رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ يُسْتَعْذَبُ غَيْرَ بِئْرِ رُومَةَ يقول: مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ؟ فَاشْتَرَاها.
ولماذا لا يكون الجود وصفه؟ والمصطفى صلوات الله وسلامه عليه يشير إلى يده الشريفة فيقول: هذه لعثمان، فإذا كانت يد صاحب الجود العظيمة ليد عثمان، فحُقَّ ليد عثمان أن تفيض كرمًا وجودًا.
وأما الحياء فيكفي من خبره قول المصطفى: "أَلا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلائِكَةُ"، وقد روي أنه يكون في البيت والباب عليه مغلق، فما يضع عنه الثوب ليفيض عليه الماء، يمنعه من ذلك الحياء ، وكان من حيائه خفيض الصوت، وكان شديد التواضع وقد ينام في المسجد في ملحفة على الحصى وهو أمير المؤمنين وليس حوله أحد فيقوم وقد أثر الحصى بجنبه، وكان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت.
وأما أخلاق عليٍّ رضي الله عنه فهي النجوم في السماء، لا تحصى بعدّ ولا تضام بصدّ، فقد كان شديدًا أخيشنًا في الحق، متواضعا بين الخلق، زاهدًا في زخرف الدنيا ومتاعها، تطلبه الدنيا ولا يطلبها، يحبه المؤمن ويبغضه المنافق، لا يقدر الماكر على خداعه وإن ملك أفانين العقل، قالت الخوارج الْحَرُورِيَّةُ له: "لا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ" فأجابهم رضي الله عنه: "كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ" فنبّهَ إلى السم في الدسم، ووضع اليد على موطن الألم.
كان لا يصرفه الاجتهادُ بتزكيةِ نفسه والارتقاءِ بروحه عن التوجيه والإرشاد والتعليم، فقد شيع مع الناس جنازة فوجدهم يعجون عند القبر بالبكاء على صاحبها فقال: ما تبكون؟ أما والله لو عاينتم ما عاين ميتكم، لأذهلتكم معاينتكم عن ميتكم! وإن للموت فيكم لعودةً ثم عودةً حتى لا يبقي منكم أحدًا.
وكانَ رضي الله عنه ينبوع حكمة، فقد كان يقول للناس: "احفظوا عني خمسًا:
- لا يرجُ عبد إلا ربه
- ولا يخفْ إلا ذنبه
- ولا يستحِ جاهل أن يسأل عما لا يعلم
- ولا يستحِ عالم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم.
- والصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له".
وكان يقول لهم: كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل.
وكان يقول: "أشد الأعمال ثلاثة، إعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال، ومواساة الأخ في المال".
وكان يقول: "كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل".
ولم يكن قوله يخالف فعله، فقد كان الزهدُ والتواضعُ شيمتَه، وهو الذي سماه المصطفى أبا تراب حين رآه مضطجعا فِي الْمَسْجِدِ على التراب وقَدْ سَقَطَ رِدَاؤهُ عَنْ ظَهْرِهِ فغطى التُّرَابُ ظَهْرَهُ فَجَعَلَ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ ظَهْرِهِ ويَقُولُ له: "اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ".
أعطى يوما جميع ما في بيت مال المسلمين، وهو يقول: يا صفراء ويا بيضاء غري غيري.
ولما رأى الناسَ افتتنوا بالدنيا ذكّرهم بأحوال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد صلى الصبحَ مرة ثم لبث في مجلسه حتى ارتفعت الشمس قيد رمح كأن عليه كآبة، ثم قال: "لقد رأيتُ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى أحدًا يشبههم، والله إن كانوا ليصبحون شعثًا غبرًا صفرًا، قد باتوا يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذُكر الله مادوا كما تميدُ الشجرة فى يومِ ريح، فانهملت أعينهم حتى تبلَّ والله ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين".
وبلغ به الزهد والترفُّع عن الدنيا وهو خليفة المسلمين أنه نزل إلى السوق ليبيع سيفا من سيوفه، ليشتريَ بثمنه إزارا، قال: من يشتري مني هذا السيف فو الذي فلق الحبة لطالما كُشِفَ به الكربُ عن وجهِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان عندي ثمنُ إزارٍ ما بِعتُه.
قال السرّاج الطوسي في اللمع: من لا يحوم حول الدنيا، وإن جمعت عليه من غير طلبه، فرفضها وهرب منها فإمامه في ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3. رسوخهم في المعرفة والتوحيد:
كان الأربعة الأقمار ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكيف لا وهم سادة المهاجرين، الذين قال الله تعالى فيهم وفي أقرانهم وتابعيهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، أيقَنُوا بالله وتعلَّقوا به، فكانت أحوالُهم أحوالَ الصدّيقين، وكانت أذواقهم أذواقِ العلماء بالله، فقد كانت الخشيةُ على جميعهم غالبة، والله تعالى يقول:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[فاطر: 28].
أما الصدّيق أبو بكر رضي الله عنه فقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأوليته في التصديق، بقوله: "إِنِّي قُلْتُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْتَ" ، وقال في قصة البقرة والذئب المتكلمَين: "آمَنْتُ بِهِ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" ولم يكونا في مجلس الحديث ذاك.
وكان من أصحاب التمكين في مقام الاكتفاء بالله عن سواه، فقد ردَّ جوارَ ابن الدَّغِنَةِ في مكةَ عليه يوم كان الأذى على المسلمين فيها شديدًا، وقال له: "أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ".
وخرج عن منازعة نفسه إلى الله، حين أعادَ النفقة إلى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بعدما قطعها عنه لوقوعه في حديث الإفك على ابنته الصدّيقة عائشة، وقال: "وَاللَّهِ إِنِّي لاحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي".
وصحح للمسلمين القول حين قيل له: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ فَقَالَ: أَنَا خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان يحذَرُ من فهمٍ خاطئ عند العامة تضطرب فيه عقائدهم.
وقال كلمته المتفردة بسوابق معارفها حين أنفق ماله كله، فسأله المصطفى: "يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" فقَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. قال السرّاجُ في اللمع: "ولعمري إنها إشارة جليلة لأهل التوحيد، في حقائق التفريد".
وتفرَّد بين الأصحاب في توحيده الشهودي، حين تزلزلوا بوفاة المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج إليهم ثابتَ القدم في مقام التمكين المعرفيّ، وقال: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ"فذكّرهم بانتفاء المماثلة بين العابد والمعبود، والساجد ومن يكون له السجود، في وقت كادت فيه مصيبة الفقد أن تخرجهم عن الصواب، وأن تنسيهم جوازَ الأخذ في حقِّ الوهّاب.
سئل أبو العباس بن عطاء عن قوله تعالى: {كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}[آل عمران:79] الآية، فقال: معناه كونوا كأبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطربت أسرار المؤمنين لموته ولم يؤثر ذلك في سر أبي بكر رضي الله عنه شيئًا، فحكم الرباني أن يكون بهذه الصفة لا تؤثر الحوادث في سره شيئًا، ولو كان فيه انقلاب الخافقين.
وحكي عن الجنيد أنه قال: أشرف كلمة في التوحيد قولُ أبي بكر "سبحان من لم يجعل للخلق طريقًا إلى معرفته إلا العجزَ عن معرفته".
وأما عمرُ رضي الله عنه، فهو صاحب القلبِ المعَمَّر بالأنوار، الملهَمِ المحَدّثِ بالأسرار، قال: المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: "إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الْأُمَمِ مُحَدَّثُونَ وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ"، ونزل القرآنُ موافقًا قولَ عمرَ ولفظَه في مواضعَ عدَّة.
قال في هذا أبو نُعيم رحمه الله: أخلى همَّه في مفارقةِ الخلق، فأنزل الله تعالى الوحيَ في موافقته للحق.
وشهد المصطفى له بأن الله تعالى جعل الحقَّ على لسانه وقلبه، وأنَّ الشيطانَ يهربُ منه حيث كان، وكيف لا تحرقُ أنوار الاستقامة أباطيل المكر والخداع؟
وكان مع هذا شديد الخشية لمقام ربه، وكان يقول: "وَاللَّهِ لَوْ أَنَّ لِي طِلاعَ الْأَرْضِ ذَهَبًا لافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ"، وكان يقول من خوفه وخشيته: "لو ماتت شاة على شط الفرات ضائعة لظننت أن الله تعالى سائلي عنها يوم القيامة".
وكان ذا فهم لمعاني القرآن وإشاراته، وفهم من قوله تعالى:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}[البقرة: 266] أن الآية ضُرِبَتْ مَثَلاً لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطَانَ فَعَمِلَ بِالْمَعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ أَعْمَالَهُ.
وكان صاحب فهمٍ في القدر، وهو القائل في حادثة وقوع الوباء في الشام: " نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ".
وكان تعظيمه للحق يشغله عن مراقبة الخلق، وقال لأبي عبيدة يوم فتحه لبيت المقدس: " يا أبا عبيدة إنكم كنتم أذل الناس فأعزكم الله برسوله، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله".
ولعمر في حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم شؤون عجيبة، فقد خرج عن نفسه إلى نفس رسول الله في لحظات، وانتقل من بشريته إلى روحانيته في طرفة عين، وأقسم له قائلا: "وَاللَّهِ لانْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي" فنال قبول المصطفى له بقوله صلوات الله وسلامه عليه: "الْآنَ يَا عُمَرُ"
ولا أجد تفسيرا لقسم عمر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" إلا أنه الاستغراق في روحانية المصطفى، ومن استغرق في روحانيته شغله استغراقه عن اعتبار الجسد النبوي الشريف، بل إنه رضي الله عنه أقسم أيضا أنه مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِه إِلا ذَاكَ، وهو مؤكدٌ لما أذهب إليه، وما إسكاتُ أبي بكر له – كما أرى- إلا لأنه يريد تقرير الحكم الظاهر للناس، وعلى هذا الحكم تترتب جميع الأحكام الشرعية، فأعاده الصدّيق إلى البشرية.
ومن لطائف عمر أنه غيَّب عن عدي بن حاتم الطائي اعتبار فضلِه بين العرب وأنه ابن كريمهم، باعتبار شرف النسبة إلى الدين، قَالَ عَدِيُّ بْن حَاتِمٍ: أَتَيْنَا عُمَرَ فِي وَفْدٍ فَجَعَلَ يَدْعُو رَجُلاً رَجُلاً وَيُسَمِّيهِمْ، فَقُلْتُ: أَمَا تَعْرِفُنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: بَلَى أَسْلَمْتَ إِذْ كَفَرُوا، وَأَقْبَلْتَ إِذْ أَدْبَرُوا، وَوَفَيْتَ إِذْ غَدَرُوا، وَعَرَفْتَ إِذْ أَنْكَرُوا، فَقَالَ عَدِيٌّ: فَلا أُبَالِي إِذًا.
وأما عثمان رضي الله عنه فهو المخصص بالتمكين والثبات، فإنه يوم قتل رضي الله عنه لم يبرح عن موضعه، ولم يأذنْ لأحدٍ بالقتال، ولا وضعَ المصحف من حجره إلى أن قتل وسال الدم على المصحف فوقع على موضع قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] ، وقال أبو نعيم رحمه الله فيه: كان رضي الله تعالى عنه مبشرًا بالمحن والبلوى، ومحفوظا فيها من الجزع والشكوى.
وكان له من مقام الخشية لمقام ربه صنوف عجيبة، منها قوله: "لو أني بين الجنة والنار ولا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير".
وكان معظِّما لكلمة التوحيد، يحدّث الناسَ عن إحراقها للذنوب، فقد عاد مريضا فقال له: قل لا إله إلا الله، فقالها، فقال: والذي نفسي بيده لقد رمى بها خطاياه فحطَمها حطمًا، قيل له: أشيء تقولُ أوشيء سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: بل سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله هذا هي للمريض فكيف هي للصحيح؟ فقال: هي للصحيح أحطم.
ومما يتفرد به عثمانُ رضي الله عنه أنه دخل السعة في الأشياء، فكان معها بظاهره، وكان بائنا عنها بباطنه، وهذا الحال لا يكون إلا للأنبياء والصديقين، وقد روي عنه أنه قال: لو لا أني خشيت أن يكون في الإسلام ثلمة أسدها بهذا المال ما جمعته.
وأما علي رضي الله عنه فيكفي للتعبير عن مقامه في التوحيد والمعرفة قول النبي صلى الله عليه وسلم له: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ"، فتفسيرها بالقرابة النسبية بعيد لأن أباه كان أقرب في النسب إليه ولا يصح فيه ما قاله له، فما بقي إلا تفسيرها باتصال الأحوال والأوصاف.
ولعلَّ الإشارة من نحرِ ما بقي من هدي المصطفى في الحج بيد علي يفيد في ما ذهبت إليه ويؤكده.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لعلي يوم خيبر بمحبته لله ورسوله ومحبة الله ورسوله له، ولا تكون هذه المحبة إلا لمن كملت شريعته وحقيقته.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي "أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى" وكأنه يشير بقوله هذا إلى قول موسى عليه الصلاة والسلام: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 29-31]، وحتى لا يقول قائل من المغالينَ في علي رضي الله عنه: إذا ينسحب عليه قوله أيضا: {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 32]، قال صلى الله عليه وسلم: "إِلا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي"
وهذا الوصف يؤكد أيضا ما أشرت إليه، من استمداد علي رضي الله عنه الأحوال والأوصاف من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه.
وكان له حالُ استغراقٍ في المصطفى يشهد له رضي الله عنه قوله يوم الحديبية للنبي صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لا أَمْحُوكَ أَبَدًا"
وكانَ مؤيدا بالإلهام فقد قال له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بَعَثَه إِلَى الْيَمَنِ: "إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي لِسَانَكَ وَيُثَبِّتُ قَلْبَكَ"
وكان مكتفيا بعلم الله تعالى، فقد قيل له: ألا نحرسك؟ فقال: "حرسَ امرًا أجلُه"
" وأشار بيده إلى صدره، وقال: "إن ههنا، علمًا لو أصبت له حملة".
قال أبو نعيم: كان رضي الله عنه بذات الله عليمًا، وعرفان الله في صدره عظيمًا.
قال صاحب اللمع: إن صح ما نقل عنه في الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد، فيكون أولَ من تكلم في الأحوال والمقامات.
ثالثا- الخلاصة:
مما تقدم يظهر أنَّ الخلفاء الراشدين الأربعة، كانوا بعد رسول الله أئمة الإحسان، عبادةً ومعاملةً وأدبًا وخلقًا وتوحيدًا ومعرفةً، وأنهم جميعا كانوا ممن اجتهد فأحسن، وعلِمَ فأرشد، وتحقق فهدى، رزقنا الله حبهم واتباعهم، وجنبنا والمسلمين الوقوع في أحدهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
أعلى الصفحة