الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
آمال وأماني
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
25/8/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
حينما تصاب الأمة بالجمود، والخمول، والكسل والضعف.. وتجد من
حولها عدوًا يمكر ليل نهار ليمحو وجودها، وليستـتبعها ويستعبدها...ولا يجد من داخله
ولا من داخل مجتمعه سببًا للخلاص.

فقد يقف أما خيارين أحلاهما مر.

إما اليأس والإحباط الذي يعني إلغاء الإنسان، واليأس موت.

وإما الانفجار الفوضوي، الذي لا ضابط له ولا ميزان..

ويذكرنا هذا بالموقف الذي وقفه سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وعلى آله وصحبه وسلم يوم أن خرج يلتمس خلاصًا في الطائف من مكة وأهلها، فكان
يلتمس الخلاص من بيئة قاهرة تكيل له الأذى ليل نهار، ورجا أن يكون في الطائف
الخلاص، لكنه رأى أن القريب هو كالبعيد، فقد سلّطوا عليه صبيانهم وحصبوه صلى الله
عليه وسلم بالحجارة، ألقاها عليه صبيانهم!.

فما الذي فعله صلوات الله وسلاماته عليه، وقد كان حاله
الظاهر والباطن افتقارا تاما لا يجد معه بارقة أمل..؟

ارتمى في أعتاب الله، ورفع يديه وهو يقول:

(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي)

فالقوة ضعيفة والحيلة قليلة.

(إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم
الراحمين، أنت ربي ورب المستضعفين إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريب
ملكته أمري؟

إن لم يكن بك علي سخط فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ
بنور وجهك الذي أضاءت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل علي غضبك، أو
ينـزل بي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)

أليس هذا يا إخوتي هو حال أمتنا اليوم؟

أليس ما نعانيه في أمتنا يجول في نفس هذا الحال؟

ضعف قوة وقلة حيلة وهوان على الناس.

هل يستطيع أحد أن يقول إن حالنا يتجاوز هذا الوصف؟

تكاد أن تكون الأسباب منقطعة، والمحنة والشدائد تزداد يومًا
بعد يوم.

وقلت في نفسي أيصح للإنسان إذا كان في ليل كهذا أن يتمنى؟

لأنني أجد أن باب الأمل حين يُفتح للإنسان يُخرجه من أزمة
حيرته وإحباطه، ويوقفه عن سلوك انفجاري لا ضابط له.

وكنت أظن أن التمني مذموم على الإطلاق، ثم رأيت غير ذلك.

فقد أخرج الحاكم في مستدركه على الصحيحين:

(عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر قال يومًا لأصحابه تمنوا)

فقال بعضهم أتمنى لو أن هذه الدار أي التي كانوا يجتمعون
فيه

(أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل
الله وأتصدق)


فقد كانوا في فاقة، وكانوا في فقر، قبل أن تفتح الكنوز
عليهم.

(وقال رجل أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدًا وجوهرًا، أنفقه في
سبيل الله وأتصدق).

ثم قال عمر: تمنوا.

فقالوا ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر أتمنى لو أنها
مملوءة رجالاً مثل أبي عبيدة الجراح ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن
اليمان.

فتمنى عمر رضي الله تعالى عنه وكانت آماله وأمانيه تنظر إلى
مخزون المعاني ومستودع القيم الذي هو الإنسان.

تمنى إنسانًا لأن الإنسان حينما يوجد توجد معه كل الخيرات،
لأنه سيد الكون الذي سخّر الله تعالى له كل شيء، ولا يوجد هذا الإنسان إلا حينما لا
يكون مسخرًا للكون، بل يكون الخليفة عن الله، فلا يتوجه إلا إلى الله، ولا يطلب إلا
الله، ولا يرجوا إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، فيستمد قوته وعزيمته، وهمته
وإقدامه وثباته في السراء والضراء من الله.

إن عمر تمنى رجالاً، فقد وعى أن الأزمة هي أزمة رجال.

ورأيت حديثًا ترويه عائشة رضوان الله عليها كما يروي
الطبراني في الأوسط.

يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:

(إذا تمنى أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه)

فجعل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم التمني مرادفًا
للدعاء لأنه إذا تمنى وهو يعلم أن كل شيء هو بيد الله فكأنما يطلب من الله سبحانه
وتعالى وهو يتمنى.

... يا محوّل الحول والأحوال حوّل حالنا إلى أحسن الحال....

ورأيت حديثًا آخر يرويه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب
والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة يقول فيه صلى الله عليه وسلم:

(إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب
له من أمنيته)

وقال العلماء في هذا الحديث ذلك لأن الإنسان يصادف ساعات لا
يوافقها سائل إلا وقع مطلوبه فيها على الأثر، لأن الله سبحانه وتعالى قد يفتح أبواب
الجود، فإذا فتحها ووافق ذلك سؤال سائل يعطيه ما تمناه.

قال الزمخشري رحمه الله: والتمنِّي لا يناقض الآية, التي
يقول فيها ربُّنا سبحانه:

(وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ
عَلَى بَعْضٍ) [النساء: 32]

فإن ذلك نهيٌ عن تمنِّي مال أخيه بغيًا وحسدًا, أما التمنِّي
على الله لخير في الدِين أو الدنيا فإنه ليس بمذموم.

وقلت: أليس لنا أن نتمنَّى؟

فلعل التمنِّي في ليل المحنة والشِدة, يفتح لنا باب أمل.

وقلت: أليس لي أن أتمنَّى بلسان حالِ الجمع والجماعة
والمجتمع والنُخَب العالمة الثاقفة التي تحترق في معاناتها, فلا تسمح لأنفسها
بالانفجار الفوضوي, ولا تسمح بالوقوع في اليأس المميت..

واسمحوا لي أيها الأخوة, ومن هذا الباب, أن نعيش عالم الآمال
للحظات..

فقد كِدنا أن نموت إحباطًا ويأسًا, ولا نريد أن ينفجر شبابنا
انفجارًا فوضويًا.

سأتمنَّى أيها الأخوة..ولكن ماذا أتمنى؟

هل أتمنّى قصورًا؟.. أو أتمنى زيادة متاع؟

سأتمنَّى أمة إسلامية واحدة, تستيقظ من سُكْرها الطويل, الذي
سَكِرته بأمجاد أعراقها وقومياتها.. تستيقظ لتفتح حدودها الإقليمية بين أفرادها,
ولتنْفض عن كاهلها أثقال التبعية للأجنبي, ولتتوحد تحت شعار:

(ألا لا فضل لعربي على عجمي, ولا لأسود على أحمر, إلا
بالتقوى)

سأتمنَّى عالمًا عربيًا واحدًا, لا تُسيِّره أنظمة ديدنها
ودينها المصالح الفردية الضيقة, وإملاء المخططات الأجنبية الطامعة المُهيمِنة
المُستعبِدة المُستتبِعة.

سأتمنّى شعوبًا عربية وإسلامية تتمرد على الظلم والاستبداد,
وتطلب الشورى والحريّة, بعيدًا عن كل أشكال القهر, وتحكُّم الإنسان بالإنسان.

سأتمنَّى وطنًا تحميني النِسبة إليه, فإذا آذاني أحدٌ في
الأرض, كانت مواطنتي التي أحملها في بطاقة شخصيتي وجواز سفري كافية لاعتبار وجودي
واحترامه.

سأتمنّى على أرضي مجتمعًا متصالِحًا مع ذاته, يرفض كل أشكال
التفرِقة السياسية, أو الطائفية أو العرقية, يعيش التفاهم والتعاون والتكامل
والوحدة الوطنية.

سأتمنّى قانونًا عادلاً يُنصِف الفقير, ويُسقِط الضرائب عنه,
ويُعامله كما عَامَل ربُّنا الناس بنظام الزكاة, حينما أسقط كل دَفْعٍ عن الفقير,
يستنهض همّة غنيٍ مُتخَم مدعوٍ لنجدة وطنه في أزماته, بعيدًا عن التَفرُّد بالفرص
والأنانية.

سأتمنّى مساواةً عادلةً بين الشعب كل الشعب, وتكافؤًا للفرص.

وسأتمنّى صديقًا حاكمًا, أو مسئولا يشعر بصداقة شعبه له,
وصداقته هو لشعبه, يُبادلهم الحُبّ ويبادلونه, ويحمونه ويحميهم.

سأتمنّى عمر بن عبد العزيز الذي اشتهى التفاح يومًا, فلم يجد
مالاً يشتريه به, فتلقّاه من رعيته غِلمانٌ من دَيْر بأطباق تفاح, فتناول واحدة,
فشمها ثم ردّ الأطباق, وقال:

(الهدية للعمال والولاة رِشْوة)

سأتمنّى مواطنًا شريفًا, يشعر بمسؤوليته على أرضه وبلده, فلا
يخون الأرض, ولا يُؤذي العرض, ولا يجعل طريقه إلى الثراء سرقة ولا رشوة ولا غشًا.

سأتمنّى تاجرًا صدوقًا يحرص على نوعية بضاعته أكثر من حرصه
على تسويقها, وبيعها وهي بأسوأ المواصفات.

سأتمنّى صانعًا صابرًا مطوِّرًا ثاقِفًا عالمًا, يصنع الآلة
الحضارية المتطورة, ويستخدم التقانة الدقيقة, لأن ارتقاء بلده مُقدّم عنده على
الربح العاجل السريع, فهو صابرٌ حتى يصل إلى ذلك.

سأتمنّى إنسانًا يحمل في قلبه سمّو الإنسانية, ويرتقي عن
رتبة الوحوش والسِباع التي يأكل بعضها بعضًا.

سأتمنّى أخوة في الله صدقوا في الأخوّة, وصفوا في المحبة, لا
تجمعهم المصالح بل تضمُّهم إلى بعضهم القِيم والمعاني, والمقاصد الرفيعة الكريمة,
فيظهر فيهم الحُب والتفاني في الفتوة والإيثار, والتفاني في الإخلاص والصِدق.

سأتمنّى مسجدًا تعود إليه وظيفته, لأنه يُربِّي الشباب,
ويُخرِّج الرجال الأحرار, الذين تحرّروا عن كل عبودية, لأنهم عِبادٌ للرحمن وحده.

سأتمنّى مدرسةً حُرّةً في مناهجها التربوية, وهيئةً تربوية
فيها تتفانى في الرعاية والعناية, تُمارس دور الأمّ والأبِ والمُعلِّم والمُربِّي.

سأتمنّى كُليّة جامعية ولو واحدة, تجمع بين العلوم الكونية
والإنسانية في وقت واحد, لتُعيد صورة حضارتنا إلينا, فهكذا كانت حضارتنا, تُخرِّج
ثاقِفًا عالمًا خبيرًا بصيرًا.

سأتمنّى عَيْشًا عزيزًا كريمًا لا يطغى فيه على أمتي عدو, أو
شهادةً في سبيل الله, ألقى بها ربِّي مُوحِّدًا مُؤمنًا به وبكتابه ورسوله,
فيُكرمني بفضله بالقَبول, ويجعلني بمِنَّتِه وإحسانه في مقعد صِدق مع النبيِّين
والصِدِّيقين والشهداء والصالحين.

سأتمنّى أن يكون كل واحد منكم يتمنّى ما أتمنّاه.

وسأتمنّى أن يكون كل واحد من أمتي يتمنّى ما أتمنّاه.

وأختم بحديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, الذي قال فيه:

(إذا تمنّى أحدكم فلينظر ما يتمنّاه, فإنه لا يدري ما يُكتب
له من أمنيته)

اللهم اكتب لنا خير ما نتمنّاه, ورُدّنا إلى دينك رَدًّا
جميلاً, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة