الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
العدالة سر قوة الشعوب
Al 'Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
3-8-2007
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
العدالة سر قوة الشعوب
خطبة الجمعة للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع العادلية بحلب بتاريخ 3/8/2007م
إن الذي ينظر في الكون يجد أن النظام والعدالة تسريان, في كل الموجودات فيه, أي أننا نجد نظامًا وعدالةً سارية فيه اضطرارًا لا اختيارًا.
لكن حكمة الله تبارك وتعالى التي أحاط بها الإنسان بتكليفه المتوجه إلى اختياره لا إلى اضطراره, وجهت الإنسان إلى العدالة والانتظام, ليكون وحده في منظومة العدالة مختارا لا مضطرا.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} أي جعل التوازن والعدالة في الكون, ثم خاطب الإنسان, الذي أمره بتطبيق منهج العدالة اختيارًا فقال: {أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن: 8]
لأن الإنسان وحده باختياره يستطيع أن يكون عادلاً, ويمكن له أن يحيد عن منهج العدالة.
إنه سبحانه وجَّه الحيوانات, ووجَّه النباتات, ووجَّه الموجودات كلها..إلى العدالة بالفطرة أو الغريزة, لكنه سبحانه وجَّه الإنسان إلى العدالة بالشريعة, لا بالفطرة والغريزة.
وحينما نستعرض آيات القرآن, نجد أنها تطلب من الإنسان تطبيق منهج العدالة على مستويات عدة, منها:
- في نفسه وفي الأقربين:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]
- وفي أقوال الإنسان وأفعاله:
{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} عدالة في المال.
{وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} عدالة في استخدام الموازين بكل أنواعها في معاملات الإنسان.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152] لينضبط القول بمنهج العدالة.
- في الشهادة:
يقول تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] فلا تعتبر الشهادة إلا حين يكون صاحبها صاحب عدالة, وعندها تُعتبر شهادته, ويُعتبر قوله، وعدالته أن لا يزيد على الحق ولا ينقص منه.
- في الكتابة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282]
فمن تحقق بالعدالة, تُعتبر كتابته, وعدالته أن لا يزيد في كتابته على الحق ولا ينقص منه.
- في الأسرة:
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]
إن خفتم ألا تعدلوا في القَسْم بين الزوجات, فواحدة, فمنع من الزيادة التي تؤدي إلى ترك العدالة.
فالعدالة في الأسرة تطبيق المساواة فلا يزيد في تخصيص أحدٍ فيها بشيء ولا ينقص.
- في الدعوة:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} أي عاجز {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 76] والذي يأمر بالعدل هو من يدعو إلى منهج العدالة,الذي هو شريعة الله, فهو يدعو إلى الله ويدعو إلى سبيله, فضرب الله سبحانه وتعالى بهذه الآية مثالاً, ليُظهر التقابل بين صاحب الدعوة الذي تحقق بالعدالة, والعاجز الذي لا يستطيع أن يفعل شيئًا, وكأن صاحب الدعوة حين يتحقق بالعدالة فسيكون مُصلِحًا, وحينما لا يتحقق بالعدالة, يجنح إلى الإفراط أو التفريط فيكون بذلك عاجزا عن توصيل الدعوة.
فحينما يتجاوز الحد, ويُبالغ إلى درجة إلى التشدُّد الذي يخرج به عن توجيه الله سبحانه وتعالى, الذي لم ينـزله في كتابه ولم يأمر به, فإنه لا يكون صاحب عدالة في الدعوة, بل يكون مُفرِطًا, وحينما يُميِّع أحكام الشريعة, ويوجِّهها باتجاه الأهواء والمصالح, يكون مُفرِّطًا, وصاحب العدالة هو في الوسط, موافِقًا لمنهج الوسطية الذي أمر الله سبحانه وتعالى به.
- العدالة مع العدو:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا} لا يحملنَّكم بُغْض قومٍ على أن تجنحوا إلى العدالة, فأنتم ينبغي أن تكونوا أصحاب العدالة مع من تحبّون ومع من تُبغضون.
إن علماءنا وسَلَفنا الصالح كانوا يُفرِّقون تفريقًا شديدًا, بين تطبيق العدالة وما يحمله الإنسان من المشاعر, فما تحمله من المشاعر هو خاص بك, لكن إذا تعدّى إلى السلوك فأخلَّ بالعدالة, وغيَّرها فستكون ظالمًا.
قال عمر رضي الله عنه لأعرابيٍ: (لا أحبُّك) فقال الأعرابي: أيمنعك عدم حبك لي من أن تُنصفني, قال: (لا) قال الأعرابي: إنما يبكي على الحب النساء.
وهكذا كان الفصل بين العدالة والعواطف والمشاعر.
فإذا التفت الإنسان إلى مشاعره وعكسها في السلوك, فسيخرج عن العدالة.
وفي الطرف الآخر, كان سَلَفنا يُحذِّرون الذي ينفِّذُ قصاص القتل من أن يحتدَّ في فعله لينصر نفسه,
بل عليه أن ينوي في ذلك امتثال أمر الله سبحانه وتعالى, بل كانوا يحذرونه من التحول إلى قاتل إذا احتدَّ وكان فعله نابعًا عن مشاعره النفسية.
وسيدنا عليّ رضي الله تعالى عنه, حين كان يُقاتل على أرض المعركة, شَتَمه عدوه, وبَصَق في وجهه رضي الله عنه وكرم الله وجهه، فامتنع سيدنا علي وابتعد عنه, , فأمسك عن قتله وكان سيفه فوق عنقه, ثم قال: (أخاف إن قتلته أن يكون قتلي له انتصارًا لنفسي)
إنهم فصلوا فصلاً تامًا بين الأحكام وبين المشاعر.
فحينما تتدخَّل المشاعر في سلوك الإنسان, ربما تصرفه عن العدالة, بل ربما يستر مشاعره بتوهم تطبيقه للعدالة, وربما يُلبِّس على نفسه, فيقول: إنني أنفِّذ العدالة في نفسي وفي الآخرين.. وإنني من أنصار الله.. ! وما هو إلا من أنصار نفسه!
- العدالة في القضاء والعدالة في الحُكم:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]
وعندما سرقت المرأة المخزومية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم, أرادوا أن يستثمروا حُبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة, فأسامة بن زيد كان حِبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنَ حِبِّه, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَرُدُ له طلبًا, فقالوا لأسامة: لو كلَّمتَ رسول الله بأمرها..
إنها سرقت وينبغي أن يُطبَّق عليها حدُّ قطع اليد, فهكذا كان حُكم الله سبحانه وتعالى, وبهذا الحُكم كان المجتمع يصبح نظيفًا، فالسجن للسارق لا يُطهِّر المجتمعات من اللصوص, لكن تنفيذ عقوبة واحدة في سارقٍ سرق البلد أو سرق ثروته أو سرق الناس.. فإن ذلك سيردعه وسيردع الناس ويمنع أن يكون فيهم الغش أو السرقة.
بعد السجن تنطفئ تلك القضية, لكن المشهد الذي يراه كل المجتمع سوف يردع المجتمع ويمنعه من تكرير الجريمة..
على أنهم كانوا إذا نُفِّذ الحَدُّ في بعضهم, كانوا ينظرون إليه على أنه تائب.
وتلك المرأة المخزومية التي سرقت وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدها, تابت إلى الله وكانت بعد ذلك موضع ثناء ومديح, وكانوا ينظرون إليها نظرة تقدير شديد, فقد تزوّجت, وكانت إذا جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا يَرُدُّها أبدًا.
فتطبيق الحَد شيء, والمشاعر شيءٌ آخر.
وهكذا جاؤوا إلى أسامة, فكلَّم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكنه صلى الله عليه وسلم غَضِب, وقال: (أتشفع في حَدِّ من حدود الله؟) ثم وقف على المنبر, صَعِد المنبر وقال: (أَيّهَا النّاسُ إنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشّرِيفُ، تَرَكُوهُ، وَإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضّعِيفُ، أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدّ، وَايْمُ اللّهِ لَوْ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا)
هكذا كانت العدالة, إنها كانت مخدومة بالقوة, وعندما أصبحت القوة فوق العدالة والقانون, وأصبحت غالبة للعدالة والقانون, فسدت المجتمعات, وحينما ضاعت العدالة, ضاع الإنسان.
إن سيدنا عليًّا رضي الله عنه لم يرضَ أن يتابع المحاكمة مع قاضٍ احتكم إليه ليفصل في قضية بينه وبين يهودي, فقد قال القاضي لليهودي: يا يهودي. وقال لسيدنا عليٍّ: يا أبا الحسن. فما كان من سيدنا عليّ إلا أن قال: أنت لا تصلح للقضاء, إذ لم تسوِّ بيننا.
هكذا كانت المساواة سائدة بين الناس, وهكذا كانت العدالة حاكمة على الجميع.
لا يوجد استثناء, وسيادة القانون ليست كلمة تُقال, إنما هي حقيقة سلوكية, وعندما يستطيع الإنسان أن يتبنَّاها من داخله, ويتفاعل معها تفاعلاً كُليًا, فتكون العدالة فوق الجميع, وتكون القوة خادمةً للعدالة لا غالبة لها، عندها ستصلح المجتمعات.
حتى القرن الخامس في تاريخنا, كان يغلب على الناس تبني هذه القاعدة: (العدالة فوق القوة), وبعدها أصبحت هذه القاعدة تضعف شيئًا فشيئًا.
وواقع مجتمعاتنا الإسلامية اليوم يُعاني معاناة شديدة, لأن المعادلة قد انقلبت, وربما فُقد أكثر أجزائها.
وإذا خرج الإنسان عن العبودية لله سبحانه وتعالى, فلن يكون مُنضبِطًا بمنهج العدالة, واقرؤوا قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى}
لأن الإنسان إما أن يلتزم منهج المبادئ والحق, , ويلتزم بالقِيَم والأخلاق, وإما أن يجنح إلى الهوى, والهوى هو ما تشتهيه النفوس بفوضوية.
{يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]
إننا بحاجة إلى إعادة مُحاسبة الذات, ونحن بحاجة إلى معادلةٍ صحيحة تؤثر فينا من جديد, لتكون مفهومات العدالة فينا تبنِّيًا والتزامًا, فيكون الإنسان منا عادلاً في نَفْسه, ثم ينقل العدالة بعد ذلك إلى الآخرين, لتكون منهجًا سائدًا وساريًا في المجتمع.
هذا هو الطريق إلى إصلاح المجتمعات, وبوجود الاستثناءات سيزداد الفساد انتشارًا وسريانًا في مجتمعاتنا التي تنتسب بالصورة إلى الإسلام.
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة