الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
آثار الدعوة على الدعاة
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
14-5-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
رسالة الله تبارك وتعالى إلى الإنسانية رسالة إخراج من الظلمات إلى النور
(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (43)‏ الأحزاب
وواسطة ذلك الإخراج رسل الله الذين حملوا الأمانة ومتابعوهم من الدعاة الذين جعلوا ديدن سلوكهم نشر النور وتعريف الجاهل وإرشاد الضال.
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا (45-46) الأحزاب.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْر) (104) آل عمران
وهكذا لخص الله سبحانه وتعالى الدين بمفهوم الخير لأنه لا يقدم للعالم إلا الخير ، ولا يقدم للإنسانية إلا الخير ، ولئن كنا تحدثنا فيما مضى عن أثر الدعوة في المدعوين من خلال التقابل بين الفرعنة الطاغية والدعوة الهادية , وعرفنا آثار الدعوة في المدعوين من خلال قوله تعالى :
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى، فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى) (17- 20) النازعات
فكانت المفردات ثلاثة تظهر في المدعوين لو أنهم استجابوا للدعوة : التزكية والتعريف والحجة .
لكن ترى أينحصر أثر الدعوة في المدعوين، أم أن أثر الدعوة يصل إلى الدعاة أيضاً؟ ومما لا شك فيه أن الدعوة تقدم نفعاً للمدعوين ، وتقدم نفعاً للدعاة .
وهذه حقيقة لو تنبه إليها من يشتغل بالدعوة ويحمل الأمانة لعرف أن نتائج الدعوة فيه أقرب من نتائجها في المدعوين ..
ولو عرفها الدعاة آثار الدعوة فيهم ؛ لما صدموا حينما يتأخر ظهور آثارها في المدعوين ..
أقول هذا يا شباب حتى يكون حديثنا هذا ميزاناً نستطيع من خلاله أن نزن أنفسنا , وأن نتساءل إن كنا أصحاب دعوة أو دعوى , فلا بد من ظهور تلك الآثار في حياتنا وفي سلوكنا إن كنا حقيقة من الدعاة , وحينما لا تظهر تلك الآثار فإن ذلك يشكك أصلاً في كوننا نسلك منهج دعوة .
وأستطيع أن أقدم بعضاً من آثار الدعوة في الدعاة بالإشارة إلى أكبر الآثار وأكثرها أثراً على من يدعو في ساحة الواقع .
واسمحوا لي أن أتحدث عن ثلاثة آثار باختصار :
نضج الأفراد ، ووحدة الجماعات ، والواحات السليمة في المجتمعات.
1 - النضج في الأفراد :
وهو يكون على مستويات عدة ..
فالعلم الذي يتعلمه الإنسان أيها الأخوة إذا لم يوظف في الدعوة فإنه سيسير إلى نفاد, وكل شيء ينقص بالإنفاق إلا العلم فإنه يزكو ويزداد وينمو بالإنفاق , ومهما قرأت من الكتب ، ومهما تعمر قلبك وذهنك بالمعلومات , إذا لم توظفها في ساحة الدعوة فإنها ستضعف وتذبل , وبمقدار ما توظفها وتنفقها في الدعوة ستنمو وتتبلور في باطنك .
إذاً فحلق العلم حين يحضرها متعلم ثم لا يوظف ما تعلمه إما في تعليم ، أو في نشرٍ لتلك المعرفة خارج تلك الحلق, في ساحة المجتمع ، أو في ساحة الأسرة ، أو بين الأصحاب .. إذا لم يوظف هذا المتعلم ما تعلمه فلن يعدو كونه ملأ ذهنه بشيء من المعلومات ثم نسيها , فمن نضج الأفراد إذاً نماء العلم بالدعوة .
وحينما أتحدث عن العلم لا أتحدث عن الفكر , فالعلم مستمد من حقائق الكتاب والسنة، ومن حقائق الوحي لا من نتاج الأذهان .
ومن نضج الأفراد زيادة الحكمة , فالمخاطبون قد تنوعت وتعددت سماتهم وصفاتهم واستعداداتهم , وفرق بين من يُعَلّم في حلقة فيوجه فيها معلومة إلى سوية تقاربت وتماثلت وتشابهت ، وبين من يدعو في ساحة المجتمع الكبيرة التي فيها كل الاستعدادات ، والتي فيها كل الثقافات .. فيها المُعارض وفيها المُوافق ، وفيها المُنكر وفيها المُصدّق ، وفيها القريب في أسلوب تفكيره من قلبك وذهنك وفيها البعيد .
حينما يشتغل الدعاة بالدعوة فإن الأيام تعلمهم الحكمة لأنهم سيختارون الصيغة التي تناسب من يخاطبونه , يختارون ما يقدمونه وهم يخاطبون مخاطبين تنوعت مستويات ثقافاتهم وأساليب تفكيرهم , ومن الخطأ الكبير أيها الأحبة أن يتعلم الإنسان عبارات ، وحكايات ونصوصاً ثم يأخذ تلك النصوص والحكايات والمعلومات لينثرها في كل بيئة لا..
إن اختيار المعلومة التي تناسب المخاطب هو من أولى أولويات من يدعو إلى الله تعالى .
وهكذا ، حدث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم الذي ما كان يمنعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الانبهار بالصورة القيصرية والكسروية, فقد كان من أصدقاء القيصر ، وكان مبهوراً بتلك الزينة ، يأبى أن يفكر بأسلوب يخرجه عنها ، ذلك هو عدي بن حاتم , ابن حاتم الطائي الذي عرفته العرب بالكرم فهو سيد وابن سيد وكان صديقاً للملوك , فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له : يا عدي بن حاتم ما أفرك ؟ أفرَّك أن يقال لا إله إلا الله ؟ فإنه لا إله إلا الله , وبين له أن كنوز كسرى وقيصر ستكون بين يدي أمة الإسلام ..
إنه دخل عليه من حيث يفكر , فحطم انبهاره ذاك ليرى رسول الله فوق كسرى وقيصر , وليرى رسول الله بمعانيه وبما يحمله من حقيقة لا إله إلا الله , التي معناها أن الله تعالى هو ملك الملوك سبحانه , فقد نقله من الملوك إلى ملك الملوك , لأنه لم يكن يفكر إلا في الملوك , ونقله من الزينة القيصرية إلى من يضع قدمه فوق تلك الزينة القيصرية .
وهكذا خاطبه صلى الله عليه وسلم يتناسب معه , خلافاً للأسلوب الذي كان يخاطب به فليسوفاً أو حكيماً , وخلافاً للأسلوب الذي خاطب به وفد القسس من نصارى نجران وغيرهم .
وهكذا فإن من نضج الأفراد أن تزداد الحكمة فيهم يوماً بعد يوم , فإذا لم يكن العلم ينمو فيهم ولم تكن الحكمة تزداد ، فإن ذلك يعني أنهم لم يدخلوا في حقيقة الدعوة , والأمر الآخر في نضج الأفراد : تدعيم الاستقامة , لأن الدعوة التي صفت من الكدورات , هي دعوة تهدف إلى الإصلاح , وتكثير المعروف وتقليل المنكر , فكيف يكون ذلك متوجهاً إلى الناس ثم لا يقع على النفس التي تنطق به .
وهكذا أذكر فيما حكي لي أن أحد الدعاة استأجر عمالاً فكان يعطيهم أجراً مالياً ليخرجوا كل يوم في أوقات الصلاة فيذكروا الناس بالصلاة ولم يكن واحد منهم يصلي, إنه يمارس وظيفة إعلامية , ويحفظ عبارات ينشرها بين الناس ويقول لهم : أيها الناس اذهبوا إلى بيوت الله ، فالله سبحانه وتعالى سيغفر لكم ذنوبكم حين تدخلون إلى بيته , والصلاة ستغسل خطاياكم فهي كالنهر الذي يكون على باب أحدكم يغتسل منه , وكان هؤلاء يخرجون إلى الناس يذكرونهم ويتقاضون مقابل ذلك التبليغ أجراً من المال , وما هي إلا مدة قليلة حتى أصبحوا جميعاً في المسجد .
إنه أثر الدعوة فيمن يدعو , في البدء ستذكر الناس بالخير وأنت لا تفعل الخير , لكن سرعان ما ينعكس ذلك عليك .
فتدعيم الاستقامة في الدعاة يوماً بعد يوم , ناشئ عن تكرار المذكرات .
ومن نضج الأفراد الاقتراب من الواقعية ذلك أن كثيراً ممن يقرأون العلم يعيشون في الأبراج العاجية , وفي الجمهوريات الأفلاطونية , أي في التصورات المثالية , يتعلم ويجلس داخل غرفته ثم ينظِّر تنظيراً لا يتناسب مع الواقع .
فالواقعية لا تحصل في الدعاة إلا حينما يعايشون الواقع .
رحم الله أبا حنيفة , كان إمام الفقه وكان تاجراً في السوق , فنزل إلى الواقع , وكان إمام الاستحسان , فإذا قال : استحسن , سكتوا جميعاً لأنه عايش الواقع , وفهم حالات الناس واستطاع أن يدرك مصالحهم .
الأبراج العاجية لا تُصدِرُ إلا منحوتاتٍ خشبية لا تقبل الحياة ولا تقبل أن تكون جزءاً من الواقع .
وهكذا فإن من نضج الأفراد أن تنضج فيهم رؤية الواقع، فيقتربون عندها من الواقعية بسبب تلك المعايشة .
ونضج الأفراد في الدعوة حقيقة ملموسة فإذا أنضجت الدعوة الأفراد ؛ سرعان ما تقدم إلى الأمة فرداً يختلف في وصفه وفي سمته وفي علمه وفي خطابه وفي أسلوبه عن الماضي حينما كان لا يعايش الواقع ولا يمارس التعامل معه .
أما العنوان الثاني: فهو وحدة الجماعات :
وحدة الجماعات فقدها العالم الإسلامي اليوم مع الأسف الشديد ، وذلك قد يشكك في وجود الدعوة في تلك الجماعات أصلاً ، ولنعترف بالواقع ..
ولا أعني بوحدة الجماعات الوحدة المكانية ، وحدة الجماعات هي وحدة مضمون ووحدة إخلاص في الباطن ، فالمضمون إصلاح في الظاهر يستند إلى الوحي، وفي الباطن مشترك واحد هو الإخلاص.
رحم الله إقبال ذلك المفكر الإسلامي الهندي الذي قال : في ساحة الإخلاص يجتمع الدعاة .
و لماذا لا يجتمع الدعاة والمضمون واحد إذا جمعهم في الباطن الإخلاص؟.
أذكر لكم من كتاب الله تبارك وتعالى آية نفهم من خلالها معنى وحدة الجماعات :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) يس (13) .
لم يأت واحد يدعو كما هو المعتاد في دعوة الرسل، لا ... من هو الزعيم في هذه الدعوة؟ من هو محور تلك الدعوة ؟.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ).
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) يس (14-15). . يا ليت الدعاة تعلموا هذه العبارات ، إنا إليكم مرسلون .. لم يدعُ واحد منهم إلى زعامة ، ولم يدعُ واحدٌ منهم إلى رئاسة ، ولم ينتطح واحد منهم مع صاحبه ليلفت الأنظار إليه ، لا ..
إن الدعوة مضمون ، وهم جميعاً يحملون ذلك المضمون ويدعون الناس إلى ذلك المضمون ، وهذا المضمون لم ينبثق عن فكر إنساني ، فهي أمانة حملها أولئك المرسلون ونقلوها فلم يكن لهم فيها أي حظ .
إنهم يدعون إلى الله تعالى ولا يدعون إلى ذواتهم ، ونفوسهم ..
يشتركون جميعاً في العبودية لله ، ويشتركون جميعاً في الإخلاص ، ويشتركون جميعاً في التوحيد ، ويشتركون جميعاً في التوجه إلى الله ، لا يريد واحد منهم حظاًَ أو منفعة أو مكسباً .. لذلك استطاعوا أن يقدموا دعوة واحدة .
(إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) ( 14-15) يس.. أي فأنتم لستم رسل الله ، فالقضية في الظاهر قضية إرسال أو عدم إرسال ، هل أنت تتحدث وأنت تحامل رسالة الله أم لا ؟.
(قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ، وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ، قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ، وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ) يس (15-18)
إذاً فالقضية لا تنحصر في كون النموذج المخاطِبِ رسولا أو داعية .
( وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ) .. فلم يكن ذلك الرجل رسولاً ولا نبياً لكنه كان رجلاً داعية ..
يجتمع دعاة لهم وصف الرسالة وداعية ينقل عن صاحب الرسالة ، لكن المشترك واحد هو العبودية لله والإخلاص والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى .
وهكذا نستطيع أن نفهم معنى وحدة الجماعات ، فهي وحدة مضمون ، واشتراكٌ في إخلاص ، وتوجهٌ إلى الله .
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
إنه لا يقول اتبعوني لكنه يقول اتبعوا المرسلين ، وحينما تظهر ظاهرة الانتماءات المقيدة التي تجعل من المحاور الشخصية مضموناً فإن ذلك يعني نهاية الدعوة .
(وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
داعية لا يقول اتبعوني لكنه يوجه إلى أصل الرسالة ومضمونها .
(اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا ) (21) يس
يقول لهم ذلك الرجل : إذا أردتم أن تتعرفوا إلى تلك الدعوة أهي دعوة صادقة أم لا فانظروا إلى أصحاب تلك الدعوة أتراهم يطلبون مكسباً أو منفعة أو مطلباً عاجلاً أم أنهم أمناء الله ، حملوا المضمون ولم يُرِد واحد منهم من المكاسب والمنافع شيئاً.
(وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (21) يس .. بهداية الله سبحانه وتعالى قد هداهم فوقفوا في ساحة الإخلاص والعبودية لله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة : من العار أن أرى رعاعاً حظه وهمه في ساحة الدعوة تتبع الأشخاص، إنها ظاهرة برزت في ساحة عالمنا اليوم ..
رعاع همهم أنهم يتتبعون سقطات الأشخاص ، فكلما وجدوا مشتغلاً بالدعوة يدعو إلى الله تبارك وتعالى تتبعوا صوره وتتبعوا صوته ..
إن ذلك يعبر عن حالة دنيئة يتنزه ويترفع عنها أصحاب الإخلاص ..
ما هذا ديدن الدعاة أبداً ، ومما يؤسف أن هؤلاء يظنون أنهم يحسنون صنعاً وفي كل أسبوع تأتيني أقراص تتحدث عن الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني .. وهذا انحطاط لا تقبله ساحة الدعوة أبداً ، وهو تغير في اتجاه الدعوة ، فالدعوة مقصودها إصلاح الناس ، ويا ليتهم توجهوا إلى أصحاب الفسوق فوجهوهم إلى الله .
إنني أقبل من السلفي أن يدعوَ إلى الله تعالى بأسلوبه السلفي ، وأقبل من الصوفي أن يدعوَ إلى الله تعالى بأسلوبه الصوفي ، وأقبل من العالم أن يدعوا إلى الله تعالى بأسلوبه العلمي ..
طالما أنهم يجتمعون على الثوابت الكبرى ؛ ثوابت التوحيد، وثوابت الإسلام ، يجتمعون على لا إله إلا الله ، ويجتمعون على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم على أنه الإمام الأوحد ، ويجتمعون على الصلاة ، ويجتمعون على الزكاة ، ويجتمعون على الصيام ، ويجتمعون على الحج ..
أما آن لأولئك الرعاء أن يخجلوا من الله تعالى ، وبدلاً من الاشتغال بالدعوة ؛ وبدلاً من الانصراف إلى ذلك الذي لا يصلي لدعوته إلى الصلاة ؛ وإلى الملحد ليقولوا له إن للكون صانعاً وإن للمخلوق خالقاً ؛ بدلاً من كل ذلك يشتغل بعضهم ببعض ..
لو أنهم توجهوا لتغيير المنكر في ساحة المنكر فنعم ..
أمّا أن يكونوا أدواتٍ لأهوائهم ، مقصودهم إفناء القوى ، وأن تكون القوى في ساحة الدعوة متصارعة يفني كل منهما الآخر فهي حالة مزرية .
إنها حالة من التفريق والشتات أجدها في هذا الوقت جريمة كبيرة ، وذلك في وقت تعاني فيه الأمة من الضياع ، وتسلط الأعداء ، وتعاني فيه من التخلف ..
يا ليتهم نشروا قرصاً ليزرياً ينشر معلومة صحيحة جديدة تعرف الناس بحقيقة علمية، يا ليتهم نشروا حديثاً عن رسول الله ، يا ليتهم نشروا تفسيراً لكتاب الله ، أما أن يشتغل أولئك الرعاع بتتبع الأشخاص....
وكثرت مواقع على ( الإنترنيت ) ديدنها إسقاط الأشخاص ، فكلما خرج سلفي يدعو توجهوا إليه لحذفه ، وكلما خرج صوفي يدعو توجهوا إليه لشطبه ..
ذلك هو واقعنا المزري الذي ينبغي أن تترفعوا عنه ، عليكم أن تقصوا اليد التي تمتد لتنشر مثل هذا أيها الشباب .
نحن في وقت بحاجة فيه إلى الاجتماع على قواسمنا المشتركة الكبرى ، وإذا لم نفعل ذلك سوف تدهسنا جرافات أعدائنا ودباباتهم في الوقت الذي نتصارع فيه على الترهات .
يكفي ... فليخجل أولئك الرعاع الذين يتبعون كل ناعق وليرتفعوا إلى الثوابت التي تجمعنا ..
ألم يسمعوا بحديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مسند أحمد عندما تحدث عن الفتنة ؟.
حين أخبر جبريلُ رسول الله  عنها فقال المصطفى له ما المخرج منها يا جبريل فقال : (كتاب الله) .
فليجتمعوا على كتاب الله ، وليكثروا حلق القرآن ، ولينشروا علوم القرآن ..
يكفينا تجريحاً وشتاتاً وفرقة .
أما العنوان الثالث يا إخوتي فهو الواحات السليمة في المجتمعات :
ففي وقت المادية التي نهشت القلوب، وأكلتها فإن من آثار الدعوة على الدعاة أن توجد التجمعات الإيمانية التي تمثل واحاتٍ خضراءَ في صحراء المادية ..
عندما تجد تجمعاً فيه القرآن وفيه حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفيه ذكر الله، وفيه تزكية النفس ، وفيه الحب ، وفيه المعرفة .. فمثل هذا يمثل للدعاة واحة خضراء في وقت طغيان المادية .
وتلمست تلك الواحة في كتاب الله تبارك وتعالى حينما كنت أقرأ فيه عن طغيان الفرعنة في قوله تعالى :
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ، وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ، فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )(83-86) يونس.. انظروا إلى الواحات التي نزل الأمر الإلهي بإنشائها، ليتجمع أولئك في زمن الفرعنة والطغيان في واحات يتوجهون فيها إلى الله ..
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).. ليكون في تلك الواحات توجه إلى القبلة الموحدة للأمة ..
(وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ) يونس (86)
كما قال في موضع آخر (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)(43)البقرة .
وإقامة الصلاة وجود حقيقتها وإذا وجدت الصلاة ستنهى عن الفحشاء والمنكر.
(وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَة وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).
فستوجد في تلك الواحات البشارة ..
التشاؤم في المادية ، الصحراءِ القاحلة ، فإذا دخلتَ الواحات تدخل إليها فتجد البشارة ، وإذا وجدت تلك الواحات فذلك يعني في المستقبل عمومها واتساع دائرة الخضرة حتى تأكل الصحراء ، وتمحو الجدب الإنساني المحيط بها .
وبوجود تلك الواحات ينتشر الخير ويعم النور .
لا تزهدوا في الدعوة إلى الله فإن الدعوة لن تكون آثارها في المدعوين كما ستكون آثارها فيكم يامن من يدعو إلى الله .
نسأله تعالى أن يجعلنا من المقبولين في دعوة الحبيب المصطفى ، ونسأله تعالى أن لا يوجه قلوبنا إلا إليه وأن لا يجعل اعتمادنا في الأمور كلها إلا عليه ..
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة