الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الشيخ المربي العارف عبد الرحمن الشاغوري كنموذج محمدي في الدعوة ( الجزء الثاني )
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
18-6-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الشيخ المربي العارف عبد الرحمن الشاغوري كنموذج محمدي في الدعوة
( الجزء الثاني )

قال بعض الذين يغارون على الدعوة والمنهج : أتراكم تدعون إلى تحزُّب أو تجمع يعطيكم تميزاً من خلال وفاة داعية قضى عمره في الدعوة..؟
لكنني أجبت وأجيب : إن كل حديث عن ثمرة من ثمرات بستان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لهو حديث لا يتعلق إلا ببستان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
فأمتنا شبهها ربنا بالزرع :
(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) الفتح (29).
لَمْ نتحدث عن الشيخ ونحن نصحبه لنروج له ، لكننا تحدثنا عنه بعد أن لقي ربه، وطويت صفحاته كنموذج من النماذج التي ينبغي لنا أن نراها معززة لسيرنا وانتمائنا إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام .
وهكذا فإن كل حديث عن سلفنا الصالح أو أبطالنا أو مجاهدينا أو قوادنا أو علمائنا ... فإنه يعني أن الدعوة التي أراد لها ربنا سبحانه و تعالى أن تظهر في الأرض وأن تؤثر في الأرض لابد أنها باقية .
(لا تزال طائفة من أمتني ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله).
لهذا أفردت حديثين اثنين من الجمعة : كان الحديث الأول يتعلق بالحياة الإنسانية لهذا الداعية، وبحياته الاجتماعية والمهنية، ويتعلق بجهاده ونضاله وبتعلمه وتعليمه ، وبإنسانيته التي كان يتعامل من خلالها مع أفراد مجتمعه أماً أو طفلاً أو أخاً..
وأحببت أن يكون حديثنا الثاني تخصصياً أكثر حين أتحدث عن الجانب التربوي في حياته ، وما أحوجنا إلى التربية في زمن أصبحت المادة فيه ناهشة لبواطن الناس .
ما أحوجنا إلى التربية ، والتربية تنقيل الناس في النتيجة من التوجه من عبادة العباد إلى التوجه إلى عبادة رب العباد.
وتنقيل الإنسان من التعلق بالأرض إلى السماء .
المشكلة التي وقعت فيها الأمة أنها أخلدت إلى الأرض :
(وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ) الأعراف (176).
إنها تنتظر الجذبات السماوية التي تعيد إليها روحانيتها وتألقها ونجوميتها..
وليست النجومية نجومية فتاة أو شاب يقفان أمام الإذاعة أو التلفاز ليغنيا أعذب الألحان، إنما النجومية هي التي تهتدى بها .
( وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) النحل (16).
فكل من اهتدي به فهو النجم ، وكل من كان سبب ضلال أو بعد أو لهو أو لغو فلا يستحق أن يكون حصاة في الأرض فضلاً عن أن يسمى نجماً .
وهكذا أقول وفي الجانب الثاني من حياة أستاذنا عبد الرحمن الشاغوري رحمة الله عليه :
التعريف المختصر :
هو عالم عامل ، كان يربي بحاله أولاً وبأفعاله ثانياً وبأقواله ثالثاً .
وهذا الترتيب هو الذي يتميز به أصحاب التربية أي أن تكون تربيته بحاله سابقة ثم يلي ذلك التربية بالسلوك والفعل ليكون المقتدى المنظور ، ثم يأتي القول .
أما قرأتم قوله تعالى :
(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ) فصلت(33)
وهذا هو الحال : ( دعا إلى الله ) ليست الدعوة إلى سبيل الله كالدعوة إلى الله .
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ( وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ )فصلت(33).
ومن أحسن قولاً ممن كان قوله الثالث بعد دعوة الحال والفعال ، وما أبشع أن يكون القول أولاً ..
فكان القول في المرحلة الثالثة.
من أخلاقه رحمة الله عليه :
كان بشوش الوجه فكل من لقيه لابد أن يجد بسمة في وجهه وكان حسن السمت، طويل الصبر والتروي ، فلم يكن عجولاً يبت في أمر إنما كان صاحب التروي الطويل والصبر الذي يظن معه طالبه أو سائله أو قاصده أنه لن يجيب ، وكم رأيته يا إخوتي يقوم متروياً إلى كتبه يبحث فيها مع سائله أو قاصده في أمر ربما كان شبه مستيقن منه لكنه يريد أن يعلم الناس التوثيق ، يدخل إلى البحث ويقرأه ، تريد منه مسألة لكنه يحيط لك بجوانبها.
كان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن ماء البحر يقول :
( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
لأن مسافر البحر لن يحتاج إلى الوضوء وحسب لكنه سيحتاج إلى الطعام، فكان يضع له البيئة التي تحيط به والتي ربمالم يتنبه إليها السائل.
كان حسن الظن بالناس فما رأيته أساء ظناً بأحد، والله لقد كنت أظن يوماً من الأيام ظناً لا يليق بشخصٍ ما ، بل إنه كان رجلاً كان مشتهراً إلى درجة لا يحسن الظن به ، فقال لي أنا أزوره لعله ينجب ، أزوره لعله يرتقي أزوره لعله يسمو فالناس كلهم خير .
حسن الظن الذي رأيته في قلب الشيخ في جميع الناس ما رأيته والله في أحد وكان يقول لي لا تنتقد أحداً فالصوفي ليس بنقّاد ، وكان يكرر علي قول العارف :
ولا ترَ العيب إلا فيك معتقداً عيباً بدا بيناً لكنه استترا
على منهج : ( تشرع في نفسك وتحقق في أبناء جنسك ) ، انظر وأنت ترى خلق الله إلى أفعال الله ، فإذا نظرت إلى نفسك فالتزم الشريعة والدقيق ، فاجعل تدقيقك على نفسك ، واجعل سعة صدرك للناس .
أما منهجه في تربيته :
الذي عرفته أكثر من ثلاثين سنه فما كنت أرى فيه إلا الجمع بين أركان الدين الثلاثة :
الركن الإسلامي ، والركن الإيماني، والركن الإحساني .
فما كان يرتضي أبداً أن ينفصل ركنٌ من هذه الأركان عن ركني الدين الآخَرين، وكان يقول لي : إن ركن الإيمان بينهما وله صلة بالركن الأول والثالث، له يد إلى الركن الأول وله يد إلى الركن الثالث، فلا يصح أن نفصل بأي حال من الأحوال بين أركان الدين الثلاثة :
الركن الإسلامي الفقهي الشرعي الذي أئمته أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، والركن الإيماني الذي أئمته الأشعري والغزالي والجويني وأئمة علماء التوحيد، والركن الإحساني الذي أئمته الجنيد، والتستري، وابن أدهم، والجيلاني والشاذلي، وعلماء التربية .
وكلهم من رسول الله ملتمس ، وكل يتحدث بتخصصه ويبين دقائق علمه لكن كان دائماً لا يرتضي في حال من الأحوال أن يفصل بأي شكل من الأشكال بين واحد هذه الأركان ليلتفت إلى الركن الثاني أو الثالث، وكثيراً ما سمعته يستشهد بكلمة الجيلاني رحمة الله عليه : (كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة فهي زندقة، طر إلى الحق عز وجل بجناحي الكتاب والسنة، أدخل عليه ويدك بيد الرسول ) .
فإذا نظرت إلى جانب المعرفة والمحبة :
الذي تحقق به حتى سرى إلى جلاسه - وقد يكون الحديث عن ترابط منطقي أو علم أمراً يسيراً - أما معرفة الله وحبه فهو الكنـز الخفي الذي هو أندر كما يقولون من الكبريت الأحمر، والمقام الذي عبر عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :
(أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
مقام عبر عنه القرآن بقوله :
(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) المائدة (54).
لكن هذا التعبير إذا لم يسر إلى باطن الإنسان وسره وروحه فإنه لا يعدو كونه مما تكرره الألسن.
وأقتطف مما كان يقوله شعراً وكان بارعاً في أدبه وشعره:
يا نسيمات الصبا هبّي على
هذه والله ساعات الصفا
فاغتنم يا أيها الخالي الهوى
من على أحشائه الشوق مقيم
إذ بها قد لاح ذا الحسن السليم
وانتعش يا أيها المضنى السقيم

وكان يشير بالنسيمات إلى النفحات .
(ألا إن لربكم في دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها )
يا نسيمات الصبا هبّي على من على أحشائه الشوق مقيم
من هو مشتاق إلى سيده ومولاه ؟
أين الشوق ؟
ما أحلى الشوق حين تحترق البواطن فيه , الشوق المحرق , الشوق المحرق المؤرق .
( هذه والله ساعات الصفا ) :
حين تتجلى النفحات, وحين تتنـزل التنـزلات.
( إذ بها قد لاح ذا الحسن السليم )
هذا الحسن الأصل الذي تشتاق إليه كل المحاسن.
لو أن كل الحسن يجمع صورة ورآه كان مهللاً ومكبراً .
( فاغتنم يا أيها الخالي الهوى )
طالما أنك مليء فلن تنال من النفحات شيئاً , فرغ قلبك من الأغيار يملأه بالمعارف والأسرار, تسجد في الليل وقلبك مليء بالدكاكين والمصانع , وتسجد في الليل ومولاك يقول أقبل أقبل علي وقلبك مستغرق في سلوى وناهد, وتسجد في الليل و مولاك يقول :
(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ) ولكنك تفر إلى نفسك, وتفر إلى شهرتك, وتفر إلى الخلق ؛ ترجو الخلق وتخافهم
( فاغتنم يا أيها الخالي ) : وإذا جاء فارغاً من سوانا عاد من سرنا ملآنا
وقد قالوا : المكاتب عبد ولو كان عليه درهم, أي : من أراد أن يشتري نفسه من سيده ورضي أن يكاتبه وبقي عليه درهم لم يؤده إلى سيده فهو ما يزال بحكم العبد لم يتحرر بعد, وأنت أيها الإنسان عبد الدنيا والأغيار, وعبد الخلق, وعبد المال , طالما بقي في قلبك بقية لها " ليس يدرك وصالي كل من فيه بقية "
( فاغتنم يا أيها الخالي الهوى وانتعش يا أيها المضنى السقيم )
مهما كنت متعباً, مهما كنت مريضاً, مهما كنت في حالة من الضنك, إذا تخليت عن سواه سيأتيك سر : (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) بلــى .
وهكذا .. تمتزج المحبة مع الشوق مع شرط إقبال السر على الله .
بدلاً من أن نتحدث عن طقوس وأعلام وألوان وأشكال علينا أن نتحدث عن حقيقة ا لتربية, وحقيقة الصفاء , وحقيقة الارتقاء .
ما معنى أن يجتمع الناس ليقول هذا أنا سلفي أوذاك صوفي, إنها كلمات لا مجال لها على أرض الواقع إن لم تجد لها على أرض الواقع تمثلاً, السلفي من كان مقتدياً بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله, والصوفي من صفا باطنه حتى استمد من حال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, فكن صوفياً سلفياً , وكن سلفياً صوفياً , ولا نريد بعد ذلك أن يبقى جماعات ولا تحزبات على ساحة الإسلام, نحن نريد جماعة واحدة اسمها جماعة المسلمين, إمامها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, كل الأمة خدمها, كل الصادقين خدمها, لا نريد أن ندعو إلى اسم من الأسماء فالاسم الأوحد الإمام للأمة محمد صلى الله عليه وسلم, وكنا خدامه, وكلنا في أعتابه, وكلنا نرجو أن نقبل في خدمه وجنوده صلوات الله وسلامه عليه.
انظروا إلى كلمات الشيخ وهو يربط بين الذوق والحب :
( قالوا : أتراه ؟ قلت لهم : أو أهوى من لا أشهده ؟! )
يعني هل باطنك يستشعر هذه الرؤية : أن تعبد الله كأنك تراه .
( إن قال سواي : أحب ولا )
يشير إلى أمير شعراء مصر ( شوقي ) حين قال : أحبه ولا أعبده
( إن قال سواي : أحب ولا فأنا أهواه وأعبده )
أمير شعراء مصر تحدث عن مخلوق أحبه فقال : أهواه ولا أعبده
أما أستاذنا فلما تحدث عن معشوقه ومحبوبه الذي استطاع أن يقول حين علم أنه محبوبه ومعبوده قال :
( إن قال سواي : أحب ولا فأنا أهواه وأعبده )
( إنْ عشقي مالَ إلى مللٍ خمساً في اليوم أجدده )
إذا رأيتُ أن محبتي قد ضعفت خمس مرات أجتمع به .
( حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى)البقرة(238)
والصلاة الوسطى صلاة الصبح يا شباب لأنها لا تُجمع مع غيرها , فالظهر يجمع مع العصر, والمغرب تجمع مع العشاء , أما الوسطى فهي الصبح, فالله سبحانه وتعالى جمع الصلوات في كفة والصبح في كفة، فكونوا قبيل الصبح متهيئين تستمعون إلى مناجاة مولاكم, تناجونه في تنـزلاته، يقول : هل من مستغفر فأغفر له, وأنت تنتظر آذان الفجر, إن كنتم كذلك أضمن لكم تربية وصفاء , وإن لم تكونوا ذلك لا أضمن إلا أن تكونوا أصحاب شعارات ونداءات, وكلمات و تخليط .
ولم يكن يرضى الشيخ بالواقع الذي عليه كثير ممن يزعمون أن التصوف والصفاء يمثل طقوساً, ومما سئل عنه وأحببت أن أثبته في هذا الموقف :
ما تقول في الذين يضربون أنفسهم بالحديد والنار؟
فقال : ( أولى من هذا أن تجد ضالاً فتهديه إلى الحق, أو جاهلاً فتعلمه, أو مريضاً فتقرأ عليه).
حتى لم يصدر من كلمات الشيخ ما يجرحهم, لكنه أراد أن ينهض بهم, إن كنتم أصحاب كرامات اقرؤوا على المريض الذي عجز الطب عن شفاءه بدلاً من أن تضربوا أنفسكم بالحديد والنار, وإن رأيتم ضالاً قد ملكته نفسه فخلصوه من نفسه, فأعظم كرامة لكم أن تخلصوا ضالاً من هيمنة نفسه, وأن تخلصوا حائراً من حيرته, وهكذا نهض بهم من خلال توجيه يستمد من توجيه السيد صلى الله عليه وسلم .
هذا جانب صغير في صفاء الشيخ , لا أستطيع في عجالة أن أعبر عنه أكثر , لكنني اقتطفت هذه الكلمة اقتطافاً , واكرر وأقول لمن يغار على الدعوة والمنهج : لا تخف فلسنا من أنصار التحزبات , بل نحن من أنصار الانصهار في بوتقة واحدة في جماعة مسلمي هذا الإسلام, في جماعة المسلمين الواحدة, نحن الأمة التي أخرجت للناس كافة, التي أرسل رسولها رحمة للعالمين فلا نريد أن نجتمع على اسم من الأسماء إنما نريد أن نجتمع على محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ردنا إلى ديننا رداً جميلاً , واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, أقول هذا القول واستغفر الله .


أعلى الصفحة