الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
من هو الداعية ؟ وما مضمون الدعوة ؟
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
25-6-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
من هو الداعية ؟
مصطلح الداعي أو الداعية مصطلح مثمن قيم، ِذو مضمون عال، لأن الله سبحانه وتعالى وصف به أحب خلقه إليه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا َنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ ) الأحزاب (45-46).
والداعي أو الداعية بمعنى واحد وهي مفردة من المفردات التي حصل فيها تفريطٌ أو إفراط.
وهذا التفريط الذهني أو الإفراط ينبعث من عدم تحديد هوية الداعية .
فمن هو الداعية ؟ و من يستحق أن يطلق عليه هذا الاسم؟.
أما الإفراط الذهني الذي طرأ على الأذهان والعقول فكان من خلال رسم صورة خيالية مثالية قدسية تتجاوز الواقع ، وتكاد تقترب من الأسطورة.
وذلك في أذهان الكثيرين عبر الأزمنة المتعددة ، فوضعت هالات كبيرة حول شخصيات كثيرة ثم ألصقت بتلك الشخصيات صفات وسمات لا تعدو كونها مبالغة أو خيالاً، ونشأت الخرافات ، فكما أحيط بشخصية عنترة في الجاهلية من هالات، وأبي زيد الهلالي في الحكايات، أحيطت بشخصيات عملت عملاً ما في خدمة الإسلام لكن الإفراط الذهني ألصق بها ما لا يعتبر في النتيجة ثناءً ؛ لأن زيادة المدح والثناء حينما تتجاوز الواقع إلى الخيال تقلب الموضوع من المدح إلى الذم .
وأما التفريط في إطلاق هذا المصطلح فإنه حاصل بشكل خاص في الأزمنة المتأخرة حيث أصبح كل من يتحرك ذهنه بفكرة ما أو يتحرك لسانه بكلمات ما أو يسعى على أرض الواقع سعياً ما، أصبح هذا كافياً لجعله من الدعاة ، وأصبح بمنظور التفريط داعية .
فكان لا بد من الرجوع إلى الأصل، والأصل كتاب الله وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الأصل يستمد العقلاء تصوراتهم، إذا رجعتم إلى سورة الأنبياء وقرأتم هذا النص القرآني الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه :
( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ، ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاء وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الأنبياء(7-9).
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ) فهم رجال من البشر فيهم البشرية بكل معانيها، لم ينزلوا عن رتبة البشرية، ولم يتجاوز البشرية إلى الألوهية، إنما كانوا كؤوساً بشرية مماثلة للبشر.
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ) الكهف (110).
تتحقق فيهم المثلية من جهة البشرية، فليس ثمة من فوقية، وليس ثمة من كهنوتية، وليس ثمة من طبقية، إنما المثلية متحققة من خلال المجانسة فكانت المجانسة متحققة في العادات بما يتناسب مع الفطرة لا مع العادات الطارئة المنحرفة، وكانت المثلية متحققة في اللغة، وكانت المثلية متحققة في المعاملة، وكانت المثلية متحققة في الحقوق والواجبات.
ثم قال سبحانه وتعالى ملحقاً غير الرسل بالرسل :
(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) .
فانتقل من الحديث عن الداعية الرسول إلى الحديث عن الداعية غير الرسول.
(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ )
و( أهل الذكر) لفظ عام يستغرق جميع الذين تحققت بواطنهم بالتذكر، وخرجت عن الغفلة، فلما خرجت عن الغفلة وأصبح القرآن العظيم ذكرها ومذكرها وذكراها، وأصبح تدبره وفهمه حالاً لها صاروا من أهل الذكر.
فالناس كلهم قسمان :
أهل الذكر أو أهل الغفلة.
أهل الأقفال أو أهل القلوب المفتحة.
قال لي أستاذ جامعي كريم وقد سئل سؤالا فسألنيه بدوره : ما مفاتيح القرآن؟.
كان البعض يجيبه فيقول مفاتيح القرآن الفاتحة، وكان البعض الآخر يقول : مفاتيح القرآن فواتح السور ألم ، حم ...
فقلت له مفاتيح القرآن صفاء القلوب لأن الله سبحانه وتعالى قال :(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد (24).
فالقرآن لا يغلق لأنه النور المشرق الذي لا يحجب عن رؤيته إلا قلب قد أقفل، فإذا زالت أقفال القلوب وانزاحت عنها دخل عند ذلك في ساحة أهل الذكر وخرج من الغفلة .
(فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ ).
فانتقل من التخصيص بالرسالة إلى التعميم .
وقال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه : "نحن أهل الذكر "
فكان هذا النص الذي ينسب إلى الصحابي الجليل سيدنا علي ، أحد أهل عباءة رسول الله الذين جلسوا على العباء يوم المباهلة ، كان هذا النص يخرج كون أهل الذكر من الرسل والأنبياء فقط ، فأهل الذكر هم الذين ذكرت بواطنهم مولاها فأعرضت عن سواه .
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) الأنبياء (7)
فالدعية إذاً تتحقق فيه المثلية حتى ولو كان رسولاً ثم هو بعد ذلك من أهل الذكر, لا من أهل الغفلة , فلا يستحق اسم الداعية من كان باطنه غافلاً, وكيف يهدي وهو لم يُهَدّى , وفاقد الشيء لا يعطيه.
ثم قال سبحانه :
(وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ )الأنبياء(8)
أي لم نجعل هؤلاء خارجين عن طباع البشر, فطباع البشر تتناسب مع تناول الطعام , وتناول الشراب , وتتناسب مع البشرية الكاملة بكل معانيها.
(وما كانوا خالدين) : ما كانوا صنفاً لا يطرأ الموت عليه, إنما هم صنف مندرج في كل البشر الذين حق عليهم الموت .
(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)الزمر(30)
فنفى بذلك أي نوع من أنواع التميز في الأوصاف الظاهرة .
فالداعية حتى يكون مستحقاً لهذا الاسم لا بد أن تتحقق فيه المجانسة مع واقعه ما لم يكن ذلك الواقع يشكل انحرافاً بمنظور الشريعة.
فإذا انتقلت إلى مضمون الدعوة عند الداعية فإنه ملخص في نفس السورة, في سورة الأنبياء بقوله سبحانه :
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)الأنبياء(25)
وهذا هو مضمون الدعوة عند الداعية، فإذا تحدد مفهوم الداعية لا بد حتى يكمل ذلك التصور عنه أن يحدد مضمون دعوته, فكم من داع يدعو إلى النار, وكم من داع يدعو إلى الضلالة, وكم من داع يدعو إلى الهوى, وكم من داع يدعو إلى الشهوة , وكم داع يدعو إلى الشهرة ، وكم من داع يدعو إلى نفسه , وكم من داع يدعو إلى السبل ...
(وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ)الأنعام(153)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إليهِ) المضمون الذي أمر الله سبحانه وتعالى الدعاة أن يكون محور دعوتهم ومضمونها : ( أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ)
المضمون أمران اثنان :
الأمر الأول هو تحقق التوحيد الباطن في القلب, أنه لا إله إلا الله, حتى لا يبقى في القلب بقية لغير الله, وحتى لا يبقى في القلب توجه لغير الله, وحتى لا يبقى في القلب رجاء أو خوف أو رهبة أو هيبة إلا لله سبحانه, فإذا تعمر القلب بحقيقة التوحيد وصفا في وجهته فقد تحقق الشرط الأول.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه)الكهف(28)
المقاصد هي التي شتتت أمتنا, و واللهِ لو أن المقصود الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم :( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) وهو التوجه إلى الله لو أنه وجد حقيقة في القلوب لاتحدت القلوب, ولزالت المآرب, ولفنيت النفوس , ولتحققت وحدتنا الإسلامية , لأن التوحيد في القلوب يثمر الوحدة في الظاهر, لكن حينما دخلت المآرب والمقاصد على القلوب فأصبح الإنسان يدعي أنه يريد وجه الله لكنه يريد وجه الخلق , ويريد وجه النفس, و يريد وجه الهوى , فتشتتت الأمة وتحكمت المصالح, وفقد الإخلاص, وفقدت أو كادت حقيقة التوحيد في القلوب .
الشطر الأول : ( أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا)أنه لا إله إلا الله, أنه لا إله إلا هو .
الشطر الثاني : (فَاعْبُدُونِ) فإذا تحققتَ أنه لا إله إلا الله فما عليك إلا أن توجه سلوكك حتى يُمثل الطاعة له, فإذا بعت أو اشتريت كنت تمثل الطاعة, وإذا علّمت أو تعلّمت كنت تمثل الطاعة, وإذا فعلت أي فعل أو انتهيت عن أي نهي كنت تمثل مظهراً سلوكياً للطاعة:
( قل آمنت بالله ثم استقم) ، فكما ورد في النص القرآني لُخص أيضاً في وصية النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل فقال : ( قل آمنت بالله) عمِّر باطنك بالتوحيد ( ثم استقم ) فلتكن أفعالك مضبوطة بميزان الشريعة . ولماذا لا تطيعه ؟ ولماذا لا تضع لنفسك هذا الميزان؟ ما الذي يمنعك ؟ هل تطاولت إلى درجة تجاوزت فيها حد العبودية فأنت تفعل ما تشاء نسيت أنك عبده, ما قصتك ؟ لماذا لا تستقيم على طاعته؟ أما ترى أن كل الأشياء طائعة له, أما ترى أن السموات بما فيهن وبمن فيهن طائعة له, أما ترى كيف تطيعه الشمس ويطيعه القمر, ويطيعه النبات ويطيعه الشجر؟ أما ترى أن الكون كله يتحرك ممتثلاً أمره ‍‍؟ اقرأ قوله تعالى :
(وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)الأنبياء(19-20)
فالسموات والأرض وما فيهن ومن فيهمن في تسبيح, وفي تنزيه, وفي تعظيم, وفي عبادة, وفي طاعة, فمن أنت أيها الإنسان الذي خلقك مولاك في بطن أمك واعتنى بك حتى أخرجك إلى الدنيا ؟
(أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا )مريم(67)
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ)يس(78)
الإنسان الذي مبتداه نطفة, فلما اعتنى به مولاه صار الخصيم المبين, من أنت أيها الإنسان حتى تكون خصيم الله؟
تريد سياسة على مزاجك, تريد اقتصاداً على مزاجك,تريد تنظيما للأسرة على مزاجك, تريد تنظيما للمجتمع على مزاجك.
(وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) فلماذا تستكبر أيها الإنسان؟ لماذا لا تعترف بعبوديتك؟ لماذا تصبح وحدك الشاذ في هذا الكون الكبير الذي كله ساجد وراكع لله ؟
أيها الإخوة هذان الأمران منهاج حياتنا, وهذان الأمران طريقنا .
إذا لم يكن كل يوم يمر بنا يشكل تدعيماً وتعميراً لهاتين المفردتين فنحن خاسرون .
مفردة في الباطن تزيدك توحيداً, وتخرج من قلبك سوى مولاك, حتى تتوجه بالصدق إليه.
ومفردة في الظاهر هي استقامة, وتوبة إلى الله تعالى , وإعلان البراءة من النفس, والفرار والرحيل إلى طاعة الله .
صحح أسرتك, صحح مسارك, صحح معاملتك , حتى لو توهمت أنك ستخسر شيئاً ما, فأنت الرابح , فما خسر من كان الله مولاه.
نصيحة أوصي بها نفسي وأوصيكم بها أيها الإخوة, حتى نعيد النظر في مسلكنا تحقيقاً لهاتين المفردتين.
اللهم لا توجه قلوبنا إلا إليك, ولا تجعل اعتمادنا في الأمور كلها إلا عليك, وارزقنا وحققنا بالاستقامة على طاعتك يا كريم, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله









أعلى الصفحة