الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
التثبت بأخبار القرآن
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
20-8-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
التثبيت بأخبار القرآن

إصلاح الأرض طريقه الدعوة إلى الله، وظهور الفساد وانتشار الفوضى والاضطراب ميزان ومعيار يشير إلى ضعف الدعوة.
تلك هي حقيقة ينبغي لنا أن نتنبه إليها، فالله سبحانه وتعالى قرر في كتابه وهو أصدق الصادقين : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ...) الأنبياء(18)....(وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ...) الإسراء (81). ...(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) التوبة (33).
فالثوابت الخبرية كلها تشير إلى قوة الحق ، وأنه حينما يوجد يضمحل الباطل، وحملة الحق هم حملة الدعوة.
ولما كان الإنسان بحاجة إلى تواصل مع مادة الدعوة ومنهجها ومثبتاتها ؛ كان لا بد له من الرجوع إلى القرآن الكريم لأنه المادة الكبرى التي تحمل التثبيت .
والمنهج وإن كان واضحاً فلربما يصيب أصحابه الكسل أو الملل ، وربما لا يرتقي حملته إلى مستوى التفاعل المطلوب ، و ربما يضعفون أمام المغريات، و لربما يضعفون أمام المخوِّفات.
من هنا نستطيع أن نفهم سر نزول القرآن منجّماً ، فلم ينـزل دُفعة واحدة لكنه نزل آية آية ، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبيل انتهاء حياته الدنيوية الشريفة .
هذا المصحف الشريف الذي نقرأه نزلت آياته فيما يزيد على العشرين سنة، تصوروا كيف يقرأ القرآن في هذه المدة الطويلة .
كل آية فيه كانت فاعلة ومؤثرة .
أقول هذا حتى لا يكون منهجنا مع القرآن كالذين يهذّّونه هذّاً ، ويقرؤون آياته بالألسن وتغيب عنها القلوب .. تجوِّده الحناجر ولا تنجذب إليه الأرواح.

وقال الله سبحانه:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً) الفرقان (32).
وحتى لا يتوهم متوهم أن آيات القرآن جاءت لتثبت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم وحده ، وحتى لا يتوهم متوهم أن هذا التنـزّل القرآني اختص بالانتفاع بتثبيته قلب النبي صلى الله عليه وسلم وحده قال الله سبحانه:
( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ) النحل (102).
ففهم من ذلك أن التثبيت لم يكن مختصاً بفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو تثبيت يصل إلى كل الأفئدة التي آمنت بالله وسلكت منهج الدعوة إلى الله، ومن أكثر مصادر تثبيت الدعاة في الدعوة أخبار القرآن الكريم .
وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى:
( وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) هود (120)
فأئمة الدعاة هم الرسل عليهم الصلاة والسلام وإمامهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا أحببت في هذا اليوم الأغر أن أقف مع بعض آيات هذا الكتاب كأمثلة نستطيع من خلالها إدراك أسلوب تدبر هذا الكتاب ليكون مثبتاً لنا ونحن ندعو إلى الله تعالى في زمن الفوضى والفساد.
إبراهيم عليه الصلاة والسلام نقل القرآنُ الكريمُ عنه خطابه لقومه حين كذبوا وأعرضوا ، قال لهم :
(وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ) العنكبوت (18).
تستطيع أن تفهم وأنت تقرأ هذا المثال أن تكذيب المكذبين لا يفتّ في عضد من يدعوا إلى الله لأن وظيفة الداعية التبليغ ، (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ) البقرة (272).
فإذا تحقق صاحب الدعوة بالصدق لا يضيره تكذيب المكذبين .

وحين نقرأ قوله تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلاَّ خَمْسِينَ عَامًا) العنكبوت (14).
وقوله تعالى يحكي عن نوح عليه الصلاة والسلام :
(قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا،فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا،وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) نوح (5-7).
حين نقرأ هذا نفهم أن الصبر على الدعوة مفردة إذا لم تتحقق في من يدعو إلى الله فإنه لن يكون ناجحاً ولا مفلحاً في دعوته، ولن يكون على المنهج الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لأحبته ، فيكون ذلك الفهم سبب تثبيت له ويتصل المضمون بالمضمون، ويحصل التأسّي والاقتداء.
حين نقرأ قوله تعالى وهو يحكي عن يوسف عليه الصلاة والسلام ..
يقول تعالى على لسان الصديق يوسف :
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(39)مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لهِل أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) يوسف (40)
نفهم أن الدعية الذي يدعو إلى الله لا ينصرف عن دعوته في أحلك ظروفه.
كان يوسف في سجنه لكنه لم يفتر في أحلك الظروف عن الدعوة إلى الله وكان مستمراً ودائماً على الدعوة في كل ظرف وحين.

حين نقرأ قوله تعالى يحكي عن داوود عليه الصلاة والسلام:
(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) الأنبياء( 80).
نستطيع أن نفهم أن الداعية لا يشغله عن الدعوة عمله بعمل الدنيا، فها هو النبي الداعية الرسول داوود عليه الصلاة والسلام يأكل من عمل يده ويدعوا إلى الله، وحتى لا يقول قائل إن عمل الدنيا قد شغلني.

حين نقرأ قوله تعالى وهو يحكي عن عيسى عليه الصلاة والسلام:
( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(52)آل عمران.
نفهم أن منهج الدعوة إلى الله يرفض التقوقع والعزلة والبعد عن الأصحاب والأنصار ، فلابد للداعية أن يبحث عن أنصار الله الذين ينصرون دين الله، مهما اشتدت المحن ، ومهما اشتدت الكرب...
لما أصبح الوقت وقت محنة وشدة... لم يكن منهجه منهج الاعتزال، والهروب لكنه قال: (قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ)
وهكذا لا يكون في منهج الداعية شيء من العزلة أوالهروب، إنما منهجه (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) القصص (35).
فيجتمع المجانس إلى المجانس ، ويتقوّى الحال بالحال ، ويركع الراكع مع الراكعين ويكون مع الصادقين.

حين نقرأ قوله تعالى وهو يحكي عن موسى عليه الصلاة والسلام:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) يونس(87).
نفهم أن توفير الأمكنة النورانية التي ليس فيها الفساد وليس فيها أسباب الظلمانية هو شرط مهم في منهج الدعوة إلى الله سبحانه، وحين نريد إصلاح شبابنا دون أن نوفر لهم مكاناً نورانياً يجتمعون فيه ، وتكون حواسهم بعيدة فيه عن أسباب الظلمات، وتكون قلوبهم فيه مستمدة من الأنوار، ويكونون في تلك الأمكنة مجتمعين مع ملائكة الله ، إذا لم نوفر للشباب ظرفاً مكانياً يستطيعون من خلاله أن يقرؤوا هُويتهم ، فإننا نغزل في الهواء ولا نوجد سبباً لإصلاح أولئك الشباب، مهما كثرت الكلمات والعظات لابد لنا أن نفهم المطلوب، لأن الحيرة هي من أكثر الأشياء التي تضر بالدعاة، ومعرفة المطلوب من خلال المَنهج القرآني الواضح هو من أعظم أسباب التثبيت لأن العارف مطمئن ، أما الحائر فإنه مضطرب يتلفت يمنة ويسرة.
حين نقرأ قوله تعالى:
(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدِي وَالأْبصَارِ،إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ) ص (45-46).
نفهم من خلال هذا الخبر القرآني قيمة الاختصاص والفضل بحضور القلب مع الآخرة ، حينما تكون ذكرى الآخرة حاضرة في قلب الداعيــة
(إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ) فقد تم لهم الاصطفاء والاجتباء والمنة من الله عليهم ؛ بأن كانت قلوبهم حاضرة مع الآخرة (إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ) وكانت تلك الخالصة (ذِكْرَى الدَّارِ) أي أن قلوبهم كانت متصلة بذكرى الدار الآخرة والداعية الذي تغيب الآخرة عن قلبه لا يمكن له أن يكون معطاءً ..
سيغلب عليه حب العاجلة ، وتستطيع المغريات أن تسلب قلبه، أما الذين حضرت الآخرة في قلوبهم فإنهم ارتفعوا فوق المغريات، لأن المغريات مهما عظمت فإنها لن تتجاوز عند ذلك القلب الذي فيه ذكرى الدار قدر جناح البعوضة لأن الدنيا لا تساوي حينما تكون ذكرى الدار حاضرة في القلب جناح بعوضة ، فكيف تأسُره المغريات ؟!
وقال المولى سبحانه لحبيبه:(وَللآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولَى) الضحى (4).
وهكذا يصبح كل سلوك في الداعية مستنداً إلى ذكرى الدار ، وإن هو لم يتسلمً ثواباً عاجلاً فإن ذكرى الدار في قلبه تجعله ناظراً للثواب الآجل مضحياً ..
كان أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم يضحي الواحد منهم بنفسه أو ماله ويقول وهو يُطعَن : فزت ورب الكعبة ..
خرجوا عن أموالهم وعن أهليهم وعن أنفسهم وباعوا أنفسهم لله سبحانه وتعالى وما ذاك إلا بسبب تلك الخالصة.
( إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ).
يأتي التثبيت ، ويتصل المضمون بالمضمون.

حين نقرأ قوله تعالى في أخبار الرسل عليهم الصلاة والسلام التي جاء القرآن الكريم بها مثبتة:
( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ،فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) الأنبياء ( 83-84).
نفهم قيمة الانطراح في أعتاب الله سبحانه وتعالى ، ونعلن العبودية ، ونعترف بالعجز ، ونتبرأ من حولنا وقوتنا إلى حول الله تعالى وقوته ، ننطرح في أعتابه قائلين: أنت القوي يا مولانا ونحن الضعفاء .. أنت العزيز يا مولانا ونحن الأذلاء, أنت الغني يا مولانا ونحن الفقراء.
وهكذا يظهر عند تحقق العبودية كرم الربوبية : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)آل عمران(123)

حين نقرأ قوله تعالى يحكي عن خليله إبراهيم :
(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ) الأنعام(78-79)
نستطيع من خلاله أن نفهم معنى صدق التوجه إلى الله سبحانه وتعالى , حينما لا يتوجه القلب لغير الله سبحانه وتعالى ، ويتبرأ من كل الأغيار.

حين نقرأ على لسان نوح عليه الصلاة والسلام:
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِاِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)هود(41)
نستطيع أن نفهم معنى الثقة بالله, إنه يأمر أصحابه أن يركبوا فيها باسم الله (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ)هود(42) .. لكن ثقته بالله تجعله فوق ما يشهده من المحسوس , السفينة التي تجري في موج كالجبال يقلبها الموج إلا إذا كانت تجري باسم الله , وهكذا ركبوا باسم الله, وكانت ثقتهم بالله تجعلهم فوق ما يشهدون حولهم من المحسوس والمرئي ..

حين يقرأ الداعية قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) إبراهيم (36)
يستطيع قلبه أن يستمد معنى الرحمة التي تتسع للعصاة , ومن خلالها يصبح داعية ناجحاً.
فيأتي التثبيت ، ويتصل المضمون بالمضمون.

وحين نقرأ عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضاً قوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) التوبة (114)
لا نجد تناقضاً بين هذا وذاك لأن براءة القلب مما سوى الله أمر مطلوب في كل من يدعو إلى الله تبارك وتعالى (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)هود(113)
فنظره إلى رحمة الله سبحانه لا يتناقض مع براءة قلبه ممن عادى الله وأعلن تلك العداوة , إن ذلك التبيـُّن كان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام حينما أخبره الله أن هذا الأب لن يدخل في الإيمان ، ولن يدخل في طاعة الله سبحانه وتعالى فكان قلبه متوجهاً إلى الله لا يلتفت إلى قرباه , ولا يلتفت إلى أيِّ علاقة من العلائق.

حين نقرأ آيات تتحدث عن المصاعب والمتاعب في الدعوة , بعد أن قرأنا الآيات التي تتحدث عن المطلوب من الداعية.. نجد القرآن الكريم يسوق لنا أخباراً .. فطريق الدعوة ليس طريقاً معبدة .. طريق الدعوة طريق شاقة, والذي لا يفهم مصاعب الدعوة ومتاعبها لا يصلح أن يكون حامل منهج الدعوة أبداً .
ومن مصاعب الدعوة ومتاعبها ما حكاه القرآن عن المتاعب من أنصار الداعية وفي البيئة التي تحيط به ، وعن المصاعب التي تظهر في المخالفين له, فالمصاعب لا تظهر في البعيد وحسب, إنما تظهر في القريب أيضاً .
واقرؤوا إذا شئتم قوله تعالى:
( قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة (24)
هذا أنموذج من نماذج المصاعب والمتاعب في الدعوة التي تظهر في القريب قبل أن تظهر في البعيد.
وقال تعالى :
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ) البقرة (67)
انظروا إلى متبِع يقول لرسوله وإمامه المعصوم المبرَّأ :(أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)
وقال الله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا )الأحزاب(69)
وقال تعالى:
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ(138)إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(139)قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) الأعراف (140)
انظروا إلى ضلال المتبِعين مع وجود الهادي المتبَع بينهم , إنه أمر يدعو إلى التأمل, ويجعل صاحب الدعوة ثابتاً حينما يرى مثل هذه الظواهر الشاذة التي ربما تزلزل بعض من لا علم له بسنة الله سبحانه وتعالى في أحبائه.

مصاعب الدعوة ومتاعبها التي تظهر في المخالفين :
منها الاستخفاف بالدعاة, لاسيما عند وجود فاقتهم وفقرهم المادي ..
اقرؤوا قوله تعالى:
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ، إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ، فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) المؤمنون (45-47)
كيف نتبع ما تسمونه حقاً في قوم هم من الطبقة السفلى ونحن من العليا, وما فهموا أن الأعلى واحدٌ هو الله وما سواه عبيد له.
(أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)

ومنه اتهام الدعوة الصادقة بطلب المآرب والنفعية العاجلة ..
قالوا على لسان قوم فرعون, يخاطبون موسى عليه الصلاة والسلام:
(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) يونس (78)
تريدان نفعاً مادياً ومصلحة, تريدان الملك الذي في أيدينا ..
إنه اتهام الدعوة الصادقة بأنها تطلب المآرب العاجلة والمصالح والمنافع, وهو ما يتنـزه عنه أصحاب الدعوة

اتهام المبطلين لأهل الحق بالفساد ..
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ) غافر (26)
فرعون يتهم موسى الكليم صاحب الحق, صاحب المنهج, صاحب الدعوة الربانية بأنه سبب فساد في الأرض !!
فإذا كنت صاحب دعوة ضع هذه النماذج أمامك فهي مصدر تثبيت لك حين تكون على الحق.

تخذيل المبطلين لأهل الحق.نقرأ أنموذجاً عليه قوله تعالى:
(وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنْ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ) الأعراف (90)
إنه منهج التخذيل... إذا اتبعتم الباطل ستربحون , وإذا اتبعتم شعيباً ستخسرون
وهذا المنهج -مع الأسف- سرى حتى إلى بيوتاتنا, فالأم تخذِّل ولدها, والأب يخذِّل ولده, والصاحب يخذِّل صاحبه, يقول له: إن أنت دخلت المسجد أنت الخاسر, وإن ذهبت إلى السوق فأنت الرابح, إن أنت اتصلت بالعلماء فأنت الخاسر, وإن أنت اتصلت بأصحاب المناصب والجاه فأنت الرابح, ماذا تجد عند العلماء, تجد كلاماً معسولاً يخدر فكرك!!!
منهج التخذيل أسمعه كل يوم, يأتيني الشباب ويحكون لي عن قَصصهم في البيوتات وعن قصصهم في الطرقات, وعن قصصهم في الجامعات.....
لم يعد التخذيل منحصراً في البعيد, لكنه انتقل حتى صار في القريب, فصار المسلم يخذِّل المسلم .. صار المسلم المتراخي المتكاسل يخذِّل المسلم المقبل الذي أقبل بقلبه على الله.

في ختام الأمثلة والنماذج المثبتة لا بد أن نذكر أن من سنة الله سبحانه وتعالى: التأييد في خاتمة الأمر
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) الأنبياء(105)
العاقبة للمتقين ولا بد أن يوجد ذلك في منهجنا ونحن نستمد التثبيت من أخبار القرآن ..
فمن تأييده سبحانه أنه يؤيد الدعاة بأعدائهم حينما يحول أعداءهم إلى أوليائه ، وأنموذج ذلك سحرة فرعون الذين أيَّد الله سبحانه وتعالى بهم موسى:
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ،قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ،رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) الأعراف (120-122).
ومن تأييد الله سبحانه وتعالى لأصحاب الدعوة أنه يخرج في صفوف الباطل أصوات الحق التي تؤيد الحق، وأنموذج ذلك مؤمن آل فرعون حين حكى القرآن الكريم خبره:
(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا) غافر (28-29).

ومن التأييد الرباني أن تستشعر وأنت ترى عتاد العدو وسلاحه قوة معنى قوله تعالى المثبت الذي يتحدث عن عتاد وسلاح رباني في تمام الجاهزية إن نحن كنا مستحقين للنصرة.
قال تعالى وهو يحكي قصة قوم لوط:
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) هود (82-83).
فلم لا تصدق كلام الله ؟
( وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).عتاد رباني في تمام الجاهزية أعدها الله سبحانه وتعالى تنتظر الإذن من الله سبحانه، فإذا صدق أصحاب الحق لا يلتفتون إلى قوة عتاد العدو لأن الله سبحانه وتعالى أخبرهم عن عتاد في تمام الجاهزية... لكن حين نستحق النصرة.
ينبغي أن لا نقرأ القرآن الكريم ليمر بحناجرنا وألسنتنا، نهذّه كما قلت هذّاً .. إنه منهج تثبيت ..
فهل نفهم يا إخوتي هذا الدرس ليكون منهجنا العملي ؟.
أترانا سنقرأ القرآن ونحن نريد عدَّ صفحاته حتى يقال قرأناه كذا وكذا مرة، أم أننا سنقرأ القرآن ونحن ننظر إليه على أنه مادة تثبيت لنا ، ومنهج لدعوتنا، وفيه كل ما نحتاج إليه في زمن الفوضى والمحنة والفتنة.
تدبر القرآن وفهمه والتأسي والاقتداء بنماذجه هو السبيل الذي نستطيع من خلاله أن نثبت على الحق.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا على صراطك المستقيم
أقول هذا القول وأستغفر الله فيا فوز المستغفرين.
أعلى الصفحة