الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
و سوف تسألون
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
3-9-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
في سورة الزخرف من كتاب الله تبارك وتعالى آيتان توجه الخطاب فيهما إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والمراد فيهما هو وأمته صلوات الله وسلامه عليه .
تمثل معاني هاتين الآيتين حياة دعوة ، وثبات داعية ، ومسؤولية تنصب على من فهم مضمون الرسالة الربانية حتى يبلغ ذلك المضمون لمن حوله وللناس .
هاتان الآيتان هما قوله تبارك وتعالى :
(فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ )الزخرف (43-44).
ففي هاتين الآيتين أربعة عناوين لو أننا أدركنا مضامينها لكفتنا وحمتـنا ولكان لنا منها ما يغير حال الأمة بعد أن تردى وصار إلى هوان .
أما العنوان الأول الذي يؤخذ من قوله تبارك وتعالى : (اسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ)فإنه يمثل
الثقة بالمنهج (1) :
فأمة لا تتفاعل بواطنها مع هذا المنهج الرباني إلى درجة اليقين والثقة ولا تلتفت معه إلى شرق أو غرب ولا تطلب معه ما يلقى إليها من الفتات بعد أن تلقت هدية السماء إلى الأرض ؛ أمةٌ واهية ضعيفة .
(فاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ) هو عنوان الثقة بالوحي الذي نزل إلى الإنسان وكان الواسطةَ الذي نقل مضمونه في السنة ، ونقله كما نزل في القرآن سيدُنا محمدٌ عليه الصلاة والسلام.
(إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ).
وحينما ننظر إلى هذا الخطاب إنك يا رسول الله ومن تبعك واقتدى وتأسى بهديك على صراط مستقيم .
إنه سبحانه وتعالى يوجه أنظارنا إلى الأسوة والإمام الذي تحقق المنهج فيه فكان مظهرَه التطبيقي والواقعي وهذا العنوان يثبت فينا :
الطمأنينة إلى إمام المنهج (2) حتى يكون سلوكنا مستمداً من قوله سبحانه: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف (158) .
فإذا لم يكن نظرنا إلى هذا الإمام، وإذا لم يكن في بواطننا الطمأنينة التامة إليه بحيث لا يداخل بواطننا أي شك أو ريب أنه الحبيب المحبوب الذي لا ينطق عن الهوى، الأمين الصادق الذي تجمعت فيه الكمالات فكان المقتدى به بحق في أخلاقه وأفعاله وأقواله وكل ما نقل عنه ...
خصوصية اللغة العربية المعبرة عن المنهج (3) :
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ).
وإنه لذكر لك تذكره وتردده ، تفهمه وتتحقق بذكراه.
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) حينما تكونون مظهر هذا الذكر فتُذكَرون به بين الناس.
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) وقد نزل قرآناً عربياً فمن تكلم العربية وفهمها كان به مذكوراً لأنه سيكون أداة بيانه وتوضيحه، فلن يُفهم الوحي الذي تنزل إلى الإنسانية بالعربية حتى يَفهم قارئه اللغة العربية، وعندها يكون به مذكوراً.
العالم محتاج إلينا .. إلى كل من قرأ العربية وفهم العربية لأن الترجمات تحقق جزءاً من المعنى ويبقى النص العربي بدلالاته الكثيرة ومعانيه التي تظهر عجائبها من آن لآخر .
وقد سئلت مرة حين كنت في زيارة إلى إحدى البلاد الغربية عن قسم الله سبحانه بالعاديات:
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ، فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ، فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا) العاديات (1-3).
هل هذا القسم هو قسم بالحيوان الذي اسمه الحصان؟.
ولما شرحت لمن سأل معنى العاديات وأرجعته إلى أصلها اللغوي وبينت له معنى العَدْوِ الذي هو الحركة والجري والانطلاق والسرعة وجد أنّ المعنى لا يتوقف على الفرس، إنما يتعداه في كل زمان إلى كل ما يتضمن مفهوم السرعة والحركة .
لو لم يكن يفهم الجذر الذي نزل باللغة العربية لن يستطيع أن يتفاعل في زمانه الذي يعيش به مع هذا النص ، لأن من عجائب هذا القرآن أنه نزل يخاطب الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وكما فهم هذا النص شخص بالقرن السادس والسابع الميلادي يفهمه أبناء القرن الحادي والعشرين وهم ينظرون إلى الدلالات التي تعطيها هذه اللغة.
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ) وما شرف الله سبحانه وتعالى عرقاًَ لكنه تخير اللغة التي تتسع بدلالاتها لتغطية الأزمنة (سلمان منا أهل البيت) فليست دعوة عرقية ينادى فيها إلى تكريم شعب مختار لا..(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات (13).
لكنها دعوة عالمية لفهم هذا النص الذي خاطب الله سبحانه وتعالى به الإنسان باللغة العربية ، هذه اللغة العربية التي نتكلمها ولا ندرك أنها منّة من الله سبحانه وتعالى علينا ، لم نستثمر هذه النعمة ، في الوقت الذي ينصب فيه الباحثون من غير العرب ويتعبون ويبذلون من الجهد ما لا يعلمه إلا الله حتى يفهموا دلالات هذه اللغة .
أما نحن أمة العرب الذي نتكلم اللغة العربية فقد شغلنا - ونحن نمتلك هذه الأداة - شغلنا عن دراسة هذا النص الرباني، وشغلنا عن المدارسة في هذا الكتاب المنير ، شغلنا عن تغذية أطفالنا وشبابنا بهذا القرآن العظيم الذي فيه حياتنا، وفيه نهضتنا، وفيه ذكرنا ، وفيه عزتنا ، وفيه سيادتنا ، وفيه شرفنا..
شغلنا بالأموال، شغلنا بالمساكن، شغلنا بالنزاعات، شغلنا بالترهات ولم نوفِّ حق هذه اللغة التي تدعونا إلى القرآن ، والتي من خلالها نستطيع أن نفهم هذا القرآن أولاً ، وأن نُفهمه للعالم الذي ينتظر كلمة مفسرة أو بياناً حول هذا الإسلام ثانياً ، في وقت تتصيد فيه اليهودية العالمية في الماء العكر وتشوه صورة الإسلام ، وتوهم العالم بأن الإسلام قتل وعنف .
لا يريدون أن يفهم العالم أن الإسلام دين الرحمة ، وأن الإسلام هو الدين الذي يقدم النور إلى العالم ، وأن الإسلام هو الدين الذي يقدم الحضارة ، وأن الإسلام هو الذي يقدم الوسطية بين المادة والروح .. بين الغيب والواقع ..
لا يريدون للعالم أن يفهم أن الإسلام يستوعب الإنسان ..
يسلطون الأضواء على حادثة صغيرة في بيت مهجور ارتكبها بعض الجهلة في صور يتوهم الناظر إليها أنها إسلامية.
هل نستطيع أن نقنع العالم بأن قانون فرنسا بمنع ارتداء الحجاب الشرعي قرار خاطئ من خلال الخطف أو القتل؟
لا...
نحن دعوة تمتلك من الحجة، وتمتلك من البيان ما يجعلها تسمو فوق السلوكيات التي لا تعبر عن حقيقة دعوة الإسلام.
لقد بحثت باحثة في الحجاب, فخاطبت العالم بلغة تصل إلى باطن الإنسان, وتحرك فكره, فقالت: انظروا إلى ثمرة اللوز, انظروا إلى ثمرة الجوز,... انظروا إلى الثمار الثمينة, كيف وضعها الله سبحانه وتعالى في حجاب قشرها , انظروا إلى السيف الذي سما قدره كيف وضع في غمده, فلا يخرج من غمده إلا في أوقاتٍ خاصة .. وحينما سمعتها كثيرات من فتيات الغرب ونسائهم ارتدين الحجاب, ودخلت كثيرات منهن في الإسلام, لأنه خطاب يوقف الإنسان أمام حكمة التشريع, ويوقفه أمام حكمة الله سبحانه وتعالى من وجود الحجاب .
وهكذا نستطيع من خلال فهم النص ودلالاته أن نُفهمه للآخرين .
أما ما يجري من الفوضى اليوم في العالم, شرقاً وغرباً, ثم ينسب إلى الإسلام, فإن هذا لا يعدو كونه سلوكيات صبيانية , أو حركات تدفعها الصهيونية واليهودية العالمية بشكل مباشر أوغير مباشر, فيستخدمون الأدوات التي يسهل دفعها لتكون في النتيجة سبب تشويه لصورة الإسلام.
(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ)فهل فهمتم مهمتكم حينما تكلمتم بهذه اللغة التي هي لغة الوحي الخاتم الذي نزل ليكون الرسالة العالمية الأخيرة ؟
لذلك جاء العنوان الرابع من خلال قوله تعالى :
(وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) وهو مسؤولية من تكلم العربية عن تبليغ المنهج وتوضيحه (4)
يا من فهم اللغة العربية, يا من تكلم باللغة العربية..: (سَوْفَ تُسْأَلُونَ ).
كل واحد منكم سوف يسأل, فكل واحد منكم يستطيع أن يؤدي دوراً, وكل واحد منكم يستطيع أن يقوم بمهمة, وكل واحد منكم يستطيع أن يكون جوهرة في عقدٍ مجموع متكامل.
فماذا قدمتم حينما فهمتهم لغتكم, وحينما درستم ذلك النص ؟
وقد نص علماؤنا أن تعلم اللغة العربية عبادة, يُتقرب بها إلى الله, لا من حيث ذاتها, إنما لكونها وسيلة, فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ألسنا الأقرب في شعوب العالم لفهم هذا الكتاب العظيم, ولفهم حديث المصطفى الرؤوف الرحيم عليه الصلاة والسلام؟.
فكم أعطينا من وقتنا للمدارسة في هذا النص؟.
كم مر بنا يوم أو أيام أو شهور ونحن لا نتدرب ونتدارس في هذا الكتاب العظيم وفي سنة المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم الكريم الرحيم.
(وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ) : إنه خطاب يهز المتدبر, ويجعل قلبه وجلاً, ويجعل عينه دامعة.
ماذا أعددنا لأطفالنا؟ وماذا أخذنا لأنفسنا؟ وماذا قدمنا بعد مدارستنا لمجتمعنا؟
هل تستطيع وأنت تسمر في سمر مضمونه كلام في اللهو والعبث والتجارة والمتاع, هل تستطيع أن تقتحم ذلك السمر بحكمة ولطف دون أن تكون منفراً فيه لتعلمهم معنى آية في كتاب الله؟
اجعلوه منهجاً لكم : ألا تمر بكم أمسية أو مجلس دون أن ترجعوا فيه إلى هذا الكتاب الذي فيه كلام الله تبارك وتعالى .
خذوا آية واحدة يصعب فهمها, وارجعوا إلى كتب التفسير, وقدموا فهم الآية هدية لأهل ذلك المجلس ...
وهل ثمة مجلس أسمى وأعلى من مجلس يتدارس فيه في كتاب الله .
قل: هدية المجلس هذا معنى آية في كتاب الله.
لو جعلتم هذا منهجاً لكم في كل مجلس سيؤثر هذا فيكم وفي الناس.
إنها الهدية الأسمى والأشرف والأعلى ..
جميل أن ينشغل الشباب بتوزيع الملابس للفقراء, لكن الأسمى والأعلى أن ينشغل الشباب بتوزيع الدلالات بعد فهمها من لغتهم التي شرفها الله بالقرآن في كل مجلس على فقراء المعنى الذين يحتاجون إلينا أكثر من حاجة فقراء الحس.
اللهم فهمنا كتابك, ردنا إلى ديننا رداً جميلاً, اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.

أعلى الصفحة