الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الإنسان بين سر خلقه و جهالة نفسه
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
17-9-2004
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الذي يتأمل في قصة الخلق الإنساني الأول التي وردت في كتاب الله تبارك وتعالى مرات متعددة - ست مرات في كتاب الله - عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم ، يجد ورائها دلالات تبني مفاهيم الإنسان، وترشد إلى أسراره، وتبين وظائفه..
فالقرآن الكريم لا يورد قصة من القصص على سبيل الإيراد التاريخي المجرد عن الدلالات، لا.. إما قصص القرآن الكريم فرعياتٌ يستطيع الناظر أن يتوصل من خلالها إلى الأصول العامة ..
فلا تقرؤوا قصة من القصص القرآني إلا وأنتم تبحثون عن دلالاتها العامة الكبرى البعيدة التي تضع للإنسان منهجاً ، وتبين له سلوكاً وتوضح له هدفاً، ومن أول الإيرادات المصحفية ما ورد في سورة البقرة في قوله تبارك وتعالى:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ،قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى و َاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ البقرة :30-34.
أما الدلالة الأولى التي نأخذها من هذه الآيات فهي حكمة الله تعالى من خلق الإنسان:
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)
قف أيها الإنسان عند هذه الآية متأملاً ولتكن محوراً من محاور دعوتك وأنت تدعو الناس إلى التحقق بإنسانيتهم ، فحكمة الله سبحانه وتعالى من خلق الإنسان هي : الخلافة السببيَّة عن الله سبحانه وتعالى في الأرض.
(اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) الرعد :16 تلك هي حقيقة ؛ لكنه سبحانه وتعالى أظهر حكمته في أسبابه، وكان الإنسان سبباً من الأسباب , لكنه سيد الأسباب كلها، الذي سخر الله سبحانه وتعالى له الأسباب كلها..
تُرى أتكون حكمة الله سبحانه وتعالى ظاهرة واضحة في العلاقة بين الأسباب والمسببات ولا يهتدي سيد الأسباب الذي هو الإنسان إلى حكمة الله سبحانه ؟ ذلك أمر عجاب!
فالأرض التي أنزل الله سبحانه وتعالى إليها الإنسان أرض تعج بالمخلوقات..
أرض قد يظهر فيها الخير وقد يظهر فيها الشر ، وما ذاك إلا لأنه سبحانه وتعالى أعطى الاختيار لهذه المخلوقات الإنسانية وهداها إلى طريقين ، فضل من ضل ، واهتدى من اهتدى ، لكن لابد أن يظهر من بين البشر من يستشعر مسؤولية الخلافة (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) إلى مسؤولية خلافتكم عن الله في الأرض ..
الأرض خلقها الله سبحانه وتعالى وأمر ( بإعمارها )، (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) هود: 61 ، فكل تخريب على الأرض يتناقض مع خلافة الإنسان عن الله في الأرض..
( نشر العلم ) لا نشر الجهل ، لأن من صفات الله وأخلاقه نشر العلم ، ومن الخلافة عن الله سبحانه وتعالى في الأرض نشر العلم ، فمن نشر العلم وعمر الأرض فقد تحقق بجزئيات من جزئيات الخلافة عن الله في الأرض.
( تحقيق العدالة ) ، لأن العدالة من صفات الله ، فمن كان ظالماً في نفسه أو أسرته أو مجتمعه فإنه يكون متناقضاً مع الخلافة عن الله في الأرض، ومن تبنى العدالة في نفسه بين روحه وجسده وفي أسرته، وفي مجتمعه وفي أمته وفي العالم فإنه يكون منسجماً مع إنسانيته ، ومتحققاً بالخلافة عن الله سبحانه في الأرض.
( نشر الرحمة ) ومن أسماء الله تبارك وتعالى الرحمن والرحيم ..
بسم الله الرحمن الرحيم هي أول ما نبدأ قراءته في كتاب الله ، الله هو الرحمن الرحيم ورحمته سبقت غضبه.
ومن التحقق بالخلافة عن الله في الأرض أن يرحم هذا الإنسانُ وأن ينشر التراحم.
( الرَّزق ) ، حتى توصل إلى الناس الرِّزق ، وقد قال في التكليف: (وَارْزُقُوهُمْ) النساء: 5 وقال: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ) الإنسان: 8.
( الخلق ) وقد قال سبحانه: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) المؤمنون: 14 وقال على لسان المسيح: (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) آل عمران: 49.
إنه الابتكار، والاختراع، والتصوير الجديد الذي يعطي وظيفة نافعة ( من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليصنع ) وهو من هدي الحبيب المصطفى صلى اله عليه وسلم ..
فإذا توهم الإنسان أنه خلق ليأكل وليشرب ، وإذا توهم أنه خلق وأن المطلوب منه أن يحافظ على بدنه، فإنه لم يفهم حكمة الله تعالى من خلقه، ولم يستشعر مسؤوليته التي تتجلى في الخلافة عن الله في الأرض، إن لم يستشعر ذلك فإنه جاهل النفس غافلها.
ونقرأ في هذه الآيات السر الإنساني الذي تفوق الإنسان به على الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ..
كيف تفوق هذا الإنسان في الرتبة على ملائكة الله الكرام ؟. نقرأ هذا في قوله:
(قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ،وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) البقرة:30-31.
فسر الإنسان الذي تفوق به على الملائكة الكرام الذين هم في الرتبة العليا في سلم المخلوقات هو العلم ، فبالعلم تفوق هذا المخلوق الإنساني على ملائكة الله، وأحرى أن يكون متفوقاً على كل المخلوقات، فمن فهم سر تفوقه سعى إلى هذا السر عمره كله، وما أوصى ربنا حبيبه ومصطفاه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره أن يستزيد من شيء كما أمره حين قال له: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) طه: 114
وجاء في الأثر: (كل يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم) ، لأنه سيكون بعيداً عن سر تفوقه الإنساني ..
ترى أتمر بنا الأيام ونحن نزداد علما ؟
هل شعرنا أننا نبقى في الانحدار حين لا نزداد علماً ، ولا نرتقي في سلم الصعود ؟
هل حضرت هذه الحقيقة في بواطننا ؟
هل مر بك يوم كامل لم تتعلم فيه أمراً ، ولم تزدد فيه علماً ؟ أنت إذاً بعيد عن سرك ..
إنه لمن المخجل في عالمنا الثالث وأن شئت قلت الثلاثين .. من المؤسف والمخجل أن يكون البحث العلمي ميتاً أو يكاد أن يكون ميتاً، غيرنا يبحث وغيرنا يزداد في العلم، وغيرنا يستكشف، وغيرنا يدخل المختبر، وغيرنا يمسك بالمجهر الكوني ، وغيرنا يبحث في عالم النباتات، ويبحث في الفلك، يبحث في علوم الكون ويبحث في علوم القرآن، نعم، غيرنا يبحث في علوم القرآن!
واقرؤوا واسمعوا عن دراسات المستشرقين التي تنم بدراسة وقراءة في الليل والنهار..
القراءة في كتاب الكون ، وكتاب ربنا الذي أنزله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليكون الكتاب الخاتم الذي يجمع الكتب كلها ..
ما أكثر القراء وما أقل الدارسين ، ما أكثر من يقرأ في كتاب الله قراءة تلاوة.. وما أقل من يدرسه ويتأمله، ويفهمه ويستخلص من بحره الدرر ..
قلَّ فينا الدارسون في كتاب الكون وقل الدارسون في كتاب الله !
إذاً أين نحن من سر الإنسان الذي تفوق به على المخلوقات؟
وبعد ذلك كيف ظهر هذا السر للمخلوقات ، كيف ظهر هذا السر للملائكة ؟.
كيف ظهر هذا السر لمن كان حاضراً في ذلك المشهد العظيم الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يظهر فيه السر الإنساني ؟.
هل كان بالدعوى حين قال ذلك المخلوق الأول أنا عالم ؟.
كيف ظهر هذا السر الإنساني؟. بالدعوى !! لا.. إنما ظهر بالإنباء ( قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ )
فحكمة الله سبحانه وتعالى من خلق الإنسان خلافته على الأرض
وسر تفوقه : العلم .
وظهور ذلك السر للمخلوقات قبل أن يأمرها بالسجود له وقبل أن يكلفها بالاعتراف بفضله كان بالإنباء .
فلن يظهر سر تفوقنا الإنساني إلا حينما يظهر فينا الإنباء .
يا من يقرأ كتاب الله هل لديك من الإنباء شيء ؟
هل أنبأت العالم عن حكمة خلقة ؟
هل تحققت بسر تفوقك ثم أنبأت العالم بتلك الحقائق ؟.
أين هي ظاهرة الإنباء في حياتك ؟
والإنباء لا يكون إلا في نشر العلم , فالعلم سرك, والذي يظهر سر العلم فيك نشره, فهما أمران متباينان, ولا تكمل حقيقتك الإنسانية إلا بهما معاً.
وأما قوله سبحانه: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا) فإنه يشير في الدلالة إلى تناسب المعاني الخيرة مع الإنسان وطواعيتها له , فكل شيء خيِّر في الكون جعله الله سبحانه متناسباً مع إنسانية الإنسان, وجعله مسخراً يستطيع الإنسان الوصول إليه, ويبحث ذلك المعنى الخير عن الإنسان حتى يظهره.
وأظهر في مقابلة ذلك إباء إبليس واستكباره وكفره حتى يتم المشهد في دلالاته.
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى و َاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ)
فكما تناسبت المعاني الخيرة في الكون مع الإنسان تناقضت المعصية مع الإنسان, وتناقض الاستكبار مع الإنسان, وتناقض الكفر مع الإنسان, فلا تجتمع الإنسانية في حقيقتها مع المعصية, ولا مع الإباء ، والإباء: معاندة الله سبحانه وتعالى في أوامره.
والاستكبار: تطاولٌ باطنٌ لا يعيش فيه الإنسان معنى العبودية.
والكفر: الانقطاع عن الحقيقة المطلقة, والستر الذي يستر فيه الإنسان عن الحقائق.
هذه المعاني الثلاثة تتناقض مع إنسانية الإنسان.
إذاً... إذا وجد على الأرض أو في مجتمع أو بلد كثرة في المعصية, أو كثرة في الاستكبار, أوإعلان للكفر, فإن هذا يعني أن ذلك البلد ، أو ذلك التجمع ، أو تلك المساحة فاقدة للإنسانية.
وصدق الله حين قال في حق غير المؤمنين : (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)الأعراف:179
أتجتمع الإنسانية مع المعاندة لأوامر الله في نظام الأسرة؟
أتجتمع مع معاندة الله في نظام الاقتصاد؟
أتجتمع مع معاندة الله في المعاملات؟
أتجتمع مع معاندة الله في الأحكام السلطانية؟
أتجتمع مع معاندة الله في الأحكام الاجتماعية؟
لا.. لا...
إن الذي يعلن المعاندة لله سبحانه وتعالى في أوامره لا يلتحق بالإنسانية, لأن معاندة أوامر الله سبحانه وتعالى ناقضت تلك الإنسانية عند خلقها وظهور سرها.
إذاً على من يريد أن يعاند أوامر الله في نفسه وفي الناس أن يعلم أنه متناقض مع الإنسانية وأنه لا يلتحق بها.
لما أراد الله سبحانه هداية بني إسرائيل, وكانت مصر وقتها تشتهر فيها عبادة الأبقار, وقد أثبت القرآن ذلك في قصة العجل : (قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) الأعراف:138
فلما أراد الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل أن يعلنوا الطاعة لله , وأن يتبرؤوا عن المعاندة لله في أمره أمرهم أن يذبحوا بقرة ، ورد ذلك في سورة عرفت بسورة البقرة ..
إنه إعلان البراءة (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)البقرة:67
هل هذه هي مجرد قصة لإظهار خارق عادة,حتى يتكلم الميت حين يضرب ببعض أجزائها؟
لا.. إنها كانت تمثل حادثة إعلان للبراءة من معاندة الله سبحانه وتعالى في أمره .. هي إعلان للعبودية (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً)
فقد مالت قلوبكم إلى أولئك الذين يعبدون الأبقار, واتخذتم العجل تأثراً وتقليداً, فلن تتم حقيقة امتثالكم لأمر الله وبراءتكم من كل ما يتناقض مع العبودية حتى تذبحوا بقرة.
اقرؤوا القرآن وانفذوا إلى دلالاته, وافهموا ما كان يحيط به بمعاني الآيات.
وكما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا علياً أن يعلن البراءة من الشرك والمشركين في الحج الأكبر, فإن موسى أمر قومه أن يعلنوا البراءة بأن يذبحوا بقرة في واقع كله جحود وإباء ورفض لطاعة الله ..
اللهم فهمنا أسرار كتابك, أوقفنا بين يديك في العبودية يا أكرم الأكرمين, لا توجه قلوبنا إلا إليك, ولا تجعل اعتمادنا في الأمور كلها إلا عليك, وارزقنا البراءة من كل ما لا يرضيك يا رب العالمين.
أقول هذا القول واستغفر الله
أعلى الصفحة