الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
آية الريح جندي من جنوده تعالى
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
7/1/2005
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
آية الريح جندي من جنوده تعالى
إذا رأينا تأجيل العقوبة بكثير ممن يتمرد ويتجبر على هذه الأرض.. فإن ذلك لا يعني أن العدالة الإلهية ناسية ذلك المتمرد ..
وإذا رأينا بلية نزلت بمصدق مذنب فإن ذلك لا يعني أنها من ترجيح الله سبحانه وتعالى للمتمرد الذي لم تنزل به العقوبة على هذا الذي نزلت به البلية.
العدالة الإلهية تتجلى في البُعد الزمني الطويل الذي يستغرق حياة الإنسان العاجلة والآجلة ، قال سبحانه :
(وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) إبراهيم : 42 .
ومهما سوَّقت المادية يا إخوتي لمعاني إنسانيتها في أوقات نزول الكوارث ، يبقى المؤمن المصدق بالله صاحب الإنسانية الحقيقي ، فلئن كانت تبرعات القوى المادية باسم الإنسانية تسكر بعض الناس
لكنني أقول:
لقد ظهرت تناقضات تلك المادية في تلك الليلة التي رقص فيها العالم الغربي طرباً وفرحاً بقدوم العام الجديد...
ففي نفس الوقت تمتلئ الأرض بالضحايا ، ويتراقص شطر الأرض الغربي فرحاً...
أين الشعور المشترك في الأسرة الإنسانية الواحدة ؟
أليس هذا يوضح ما خفي تحت الأغطية المستعارة!؟.
المعاني الإنسانية ليست تكلفا ً.. لأنها حقيقة توجد في باطن الإنسان، وتظهر من خلال سلوكه كما تظهر من خلال شعوره ، وقد غابت تلك الوحدة الشعورية .
نعم إن الشطر الشرقي من الأرض خجل فلم تزل فيه بقية من الآداب والأخلاق ، ولم يحصل احتفال بداية العام كالمعتاد احتراماً للضحايا ... هكذا قيل ...
وإنها لإشارة تشير إلى احتفاظ الشرق ببعض آدابه وحاجة الغرب إلى كثير من القيم.
وهي الصورة العوراء لما يُزعم أنه عهد جديد للأرض.
أما العالمية التي تكون فيها الإنسانية كلها - حقيقة - أسرة واحدة فلن تكون إلا حين تستشعر البشرية كلها أنها انحدرت من أب واحد، وأنها تعبد رباً واحداً.
قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وهو يخاطب الناس جميعاً : (إن أباكم واحد وإن ربكم واحد).
وقد كنت في الأسبوع الماضي تحدثت عن الكارثة من خلال تساؤلات :
لماذا لم تنـزل بمن هو أشد كفراً وبمن هو أشد معصية ولماذا نزلت في ساحة الفقراء؟.
لماذا أصيب كثير من المسلمين كما أصيب غيرهم من الوثنيين...؟.
وأسئلة كثيرة طرحتها في الأسبوع الماضي ..
ثم وقفنا على حقيقة مهمة هي : أن الأرض لا يمكن أن تخرج عن نظام الله سبحانه وتعالى المنظم للكون كله، فكل شيء في الكون هو خاضع لأمر الله سبحانه وتعالى ووحيه:
(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) الزلزلة : 4-5.
ومتابعة :
أنقل أولاً ما ورد في صحيح البخاري عن الحبيب المصطفى ، قال صلى الله عليه وسلم :
(لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل القتل ).
( يقبض العلم ) وهاهو العلم يتحول إلى فكر، و رأي، وتنعدم الثوابت لدى كثير من المفكرين ..
(وتكثر الزلازل) حتى يكون ذلك أمراً متكرراً ..
(ويتقارب الزمان) وهي ظاهرة أصبحت ملحوظة مشاهدة لدى كل متأمل.
(وتظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل القتل) .
وقد ظهر ذلك كما ترون.
وأنقل أيضاً حديثاً عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نستفيد من قراءته وفهمه في مثل هذا الظرف ..
فقد روى داوود وأبو نعيم وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم :
(أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها عجَّل الله عقابها في الدنيا الزلازل والفتن )
(لا عذاب عليها) أي يطهرها الله سبحانه وتعالى ببلايا الدنيا قبل بلايا الآخرة حينما تكثر الفسوق فيها و يعم الفساد.
وفي رواية (عذابها في الدنيا الزلازل والبلايا )
هذه الآيات التي تتكرر من آن للآخر تفيد الإنسان المتأمل المتدبر أمرين كبيرين:
الأمر الأول:
خشية الله التي تنـزل إلى بعض القلوب وهي ترى عظمة الفاعل سبحانه الذي بيده مقاليد كل شيء.
قال سبحانه وتعالى :
(وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) الإسراء : 59
فإذا وجدت خشية الله تعالى في باطنه ارتقى، وإذا ارتقى انتفى ما يظهر منه عادة من الشذوذ.
الأمر الثاني:
استشعار ضعفه وعجزه وأنه ليس القادر على كل شيء قال الله سبحانه وتعالى :
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الحج: 73.
استشعار الضعف، والفاقة والحاجة لا يمكن لأحد من المخلوقين أن يكون المغني لمخلوق ، فالمغني على الحقيقة هو خالقه سبحانه الذي يسخر له كل شيء ..
فإن هو فهم هذه الحقيقة واستشعرها فسيعود إلى عبوديته التي أمره سبحانه وتعالى أن لا يغيب عنها : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ)/ الذاريات : 56 / أي إلا ليستشعروا أنهم عبادي وليفهموا أنني ربهم وأنهم عبيدي..
جاء في الحديث المتفق عليه عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يروي عن جبريل يروي عن الله تبارك وتعالى :
(يَا عِبَادِي إِنّي حَرّمْتُ الظّلْمَ عَلَىَ نَفْسِي. وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرّماً. فَلاَ تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي إِنّكُمْ الذين تُخْطِئُونَ بِاللّيْلِ وَالنّهَارِ، وَأَنَا الذي أَغْفِرُ الذّنُوبَ ولا أبالي. فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرُ لَكُمْ. يَا عِبَادِي كُلّكُمْ جَائِعٌ إِلاّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلّكُمْ عَارٍ إِلاّ مَنْ كَسَوْتُهُ. فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ . يَا عِبَادِي إِنّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحفظها عليكُمْ. فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللّهَ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنّ إِلاّ نَفْسَهُ".)
وهذه الكارثة التي رأيناها بأم أعيينا لم تكن من جنديٍّ ائتمر بأمر الله سبحانه هو الأرض فقط ، لكن شارك في ذلك جنديٌّ آخر هو الريح ..
ورأى العالم كيف صارت تلك الريح في سرعة تفوق سرعة الطائرة وحصل ما حصل من الكوارث.
قال صلى الله عليه وسلم كما يروي أبو داوود وابن ماجة :
(الريح من روح الله تبارك وتعالى / يعني من رحمة الله بعباده /
تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وسلوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها)
(فإذا رأيتموها فلا تسبوها).
واليوم نسمعهم يتحدثون عن قسوة الطبيعة .
وعن غضب الطبيعة..!
لا... إنها تأتمر بأمر الله
لا تصفوها بالقاسية ولاتصفوها بالأوصاف التي لا تليق لأنها تنفذ أمره.
(فلا تسبوها وسلوا الله خيرها) : لأنها بيده.
(واستعيذوا بالله من شرها) : لأنها مملوك من مماليك الله سبحانه.
وقال الشافعي رحمه الله :
لا ينبغي لأحد أن يسب الرياح فإنها خلق لله تعالى مطيع
أيها الإنسان أنت تعصي وتطيع ، أما الريح فإنها تطيع ولا تعصي .. هكذا خلقها الله سبحانه وتعالى فهي لا تخالف أمره أبداً .
لا ينبغي لأحد أن يسب الرياح فإنها خلق لله تعالى مطيع وجند من أجناده يجعله رحمة ونقمة إذا شاء .
وربما لا يتنبّه البعض إلى أن الله سبحانه وتعالى سمى سورة بالقرآن باسم الرياح، فقد سمى الله سبحانه وتعالى في كتابه سورة باسم الذاريات، والذاريات هي الرياح .
قال سبحانه وتعالى:
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) الذاريات : 1
و العرب إذا قالوا ذرته الريح وأذرته أي إذا قلعته وأطارته ورمت به .
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ) للتأكيد على الشدة .
( فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ) الذاريات : 2
فهي تحمل الثقل ، وتحمل الحمل الثقيل ، والفاء للعاقبة وحينما يورد الحق سبحانه هذه الفاء فإنه يعني أنه ليس في هذا الفعل من تراخي ..
فإذا وردت في اللغة ( ثُمَّ ) فهي تفيد التراخي أما الفاء فهي للعاقبة أي يعقب هذا ذاك .
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا) فهي التي تحمل الأحمال الثقيلة .
ومن خبر قوم عاد الذين لم يكن في الأرض أجسام كأجسامهم ولا قوة بدنية كقوتهم أنهم حينما خوَّفهم رسولهم هود عليه الصلاة والسلام بالريح قالوا : أتخوفنا بالريح ونحن كما ترى الأشداء، والعماليق!!
فجمعوا أبنائهم وأموالهم ودوابهم في شعب من الشعاب ثم قاموا على باب ذلك الشعب يردون الريح بأجسادهم ، كان كل واحد منهم ثابتاً لا يتزعزع من ثقله أمام الريح ، فلما أمر الله سبحانه الريح أن تهلكهم دخلت من تحت أرجلهم فقلعتهم وطارت بهم بين الأرض والسماء .
والريح جندي من جنود الله في البحر :
قال تعالى :
(حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ)يونس: 22
وهي جندي من جنود الله في البر:
وأنت إما أن تكون في البر, وإما أن تكون في البحر, وإما أن تكون بين السماء والأرض, فأنت في قبضة الله.
وإشارة القرآن إلى أنها جندي الله في البر فنقرأه في قوله سبحانه:
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ، أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا)الإسراء: 67-68
والحاصب الريح التي تحمل الحجارة من الأرض فتلقيها ثانية على من هو على هذه الأرض.
(أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ) .
يشير الله سبحانه وتعالى إلى آية الخسف في الأرض التي تعقب الزلزلة.
(أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا) ريحاً تحصب بالحصا والحجارة.
(أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى). أي هل أمنتم وأنتم على البر أن يعيدكم إلى البحر .
وقد رأينا هذا بأم أعيننا..
أنتم على البر وهو قادر أن يعيدكم إلى البحر..
قال الله تعالى ذلك, ورآه العالم في الكارثة الأخيرة ..
(أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ)
هناك قال: (عَاصِفٌ) وهنا قال: (قَاصِفا)
والريح القاصف: التي تقصف الأشياء وتكسرها.
بدأ بقوله :
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا)
ثم أتى بالجانب الآخر الذي هو جانب الرحمة في الريح فقال:
(فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا)
تارة كانت (الذَّارِيَاتِ) ثم صارت (الْجَارِيَاتِ)
والريح تجري, قال تعالى:
( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ )الأنبياء: 81
وقال:
(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حيث أصاب )ص: 36
فهي تجري بالغيث, وتجري بأمر الله سبحانه وتعالى, لتنفذ أمره.
(فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا)
وكَّلها تعالى أن تقسِّم في سيرها ذلك رزقاً للأرض والعباد..
صورة تقابل صورة ..
صورة في مسمى الذاريات.. تقابلها صورة الجاريات يسراً..
ومن الذي بيده الذاريات وبيده الجاريات ؟
إنها آيات القرآن التي تقرع القلوب , وتقول للمادي كفاك غفلة , فالكون هذا هو بيد ربه , كفاك بعداً ولهواً وسهواً وغفلة ..
المادة التي تتحرك بين يدك هي في قبضة الله, وسنن الكون كلها فيزياؤها, كيمياؤها, الجيولوجيا.. كل ما في عناصر الطبيعة من القوانين خاضع لحكم الله..
ثم بعد هذا القسم قال:
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ)‏ أي الذي توعدونه من الثواب والعقاب..
فانظر إلى ذلك التقابل, تقابل الريح بنوعيها, وتقابل الوعد والوعيد بنوعيهما أيضاً , صورتان تتقابلان..
ليتنا نقرأ القرآن فنفهمه لعل قلوبنا تخشع بين يدي صاحب الكلام .
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ)‏
فكما رأيتم ذلك الزوج من الرياح, فالوعد والوعيد زوج أيضاً, وهو ينـزل بالثواب أوالعقاب.
(إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ)‏ أي حق وصدق لا ريب فيه.
(وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) أي إن المحاسبة على الأعمال أمر لابد منه في معنى : ( (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)الزلزلة: 7-8
(وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ) فالدَّيان هو المحاسب والمجازي, وهو من أسماء الله.
(وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ)
التي هي منسوجة محبوكة , وكما ينسج الحائك الثوب سداة ولحمة, نسج الله هذه السماء فكانت محكمة الإتقان.
(وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) وشتان بين إحكامه واختلافكم..شتان شتان بين الحق والباطل..
(وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ) التي أحكمت في نسجها بأمر ربها
(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ) فمنكم المصدق ومنكم المكذب
( يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي ينطلي الكذب على من كَذَب, ويجد الباطلُ في قلوب المبطلين محلاً له.. فإذا سعيت إلى الباطل, زادك الله تعالى من هذا الباطل..
وإذا سعيت إلى الحق, زادك الله سبحانه من هذا الحق..
إذا سعيت إلى الاستقامة, زادك الله استقامة..
وإذا سعيت إلى الشذوذ , زادك الله شذوذاً وبطلاناً..
ألم يقل:
(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)البقرة: 15 أي يزيدهم عمى..
لماذا..؟ .. لأنك أنت الذي خطوت خطوتك الأولى إلى الباطل ..
قدم لرجلك قبل الخطو موضعها
ألم يقل تعالى :
(وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)البقرة: 168
إن علينا يا إخوتي أن نحرس أنفاسنا, وأن نحرس خطرات قلوبنا, حتى لا نضع القدم الأولى في طريق الباطل.
فحين اختار الإنسان طريق الفوضوية , وطريق الباطل, وحين اختار طريق المادية, عرّض نفسه لتكون محل زيادة, وتراكمية مطّردة من ذلك الباطل.
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)
والخراصون: الكذابون..
فلا تكن مستمداً إلا من الذي اسمه الصادق سبحانه..
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ)
فالله تعالى هو الصادق, ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يعرف بالصادق, ووصفه تعالى فقال:
(وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)الزمر: 33
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) الذين يكذبون في فوضويتهم , فلا يستندون إلى علم , ولا يستندون إلى حقيقة , إنما يفترون الكذب, ويأخذونه من هنا ومن هناك كيفما تمليه عليهم نفوسهم.
ولماذا كانوا كذلك..؟
(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ)
هذا هو سرهم , والغمرة: الغطاء
(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي)الكهف: 101
(كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)المطففين: 14
هو الذي وضع الغطاء على قلبه ..فكيف تصل الحقيقة إليه , وكيف يصل النور إليه,؟
لقد صار أعمى القلب..
(فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)الحج: 46
(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ)
قلوبهم في غطاء, وهم ساهون لاهون غافلون في ماديتهم.
المادية تزحف إلى منطقة الشرق الأوسط شيئاً فشيئاً.. فيما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد. والفبركة الجديدة قادمة إلى هذه البلاد ولا يمكن أن يحصل لنا معها تماسك في ثوابتنا و أخلاقنا, وديننا فينا إلا بأمور ثلاثة:
وهي وصيتي التي أضعها في قلوبكم أيها الأخوة.. أيها الشباب, أيها العقلاء, أيها الحكماء..
لا يمكن أن نتماسك إلا بأمور ثلاثة :
الأمر الأول: الارتقاء المادي الذاتي
وهو يمثِّل صورة الإسلام , وما ضر أمتنا شيء إلاّ حين اعتمدت على غيرها ..
وأحكام الفقه تجعل الأمة آثمة حين لا يكون لديها الاكتفاء المادي الذاتي , ولا أعني بالاكتفاء: الاكتفاء الغذائي, لا.., فهي مفردة صغيرة.. بل الاكتفاء المادي الذاتي هو الذي من خلاله توجد حضارة متكاملة في هذه البلاد , حتى لا ننتظر أن ترد الحضارة إلينا من الخارج ..
وكم هم أولئك الذين يصرون على إغلاق عيونهم, ولا يريدون بناء حضارة في هذه البلاد .. ينبهرون بما يرد إليهم وحسب, ولا يريدون نهضة تنطلق من هذه البلاد.
يكون الارتقاء المادي الذاتي حينما يتقن المسلم علمه وعمله ولا يترك في الابتداء حكمة في الشرق أو في الغرب إلا ويحصلها..
كيف قامت مدنية اليابان , وكيف حصل التطور عندهم ؟
لم يتركوا شاردة و لا واردة خارج بلادهم إلا وأحاطوا بها , ثم كان لهم اكتفاء ذاتي مادي ..
ونحن أولى بذلك ..لأن الذي دعانا إلى هذا هو إسلامنا ..
قال تعالى :
(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)هود: 61 أي طلب إعمارها..
ثانياً- التمسك بثوابت الفضيلة.
حتى لا تميع الأمور من خلال الرأي والرأي الآخر, والاتجاه والاتجاه المعاكس, وما نسمعه اليوم من أسباب محو الثوابت..
التمسك بثوابت الفضيلة .. فالصدق هو الصدق, والعدل هو العدل, والظلم الذي علينا الابتعاد عنه هو الظلم, والعهر هو العهر...
فثمة ثوابت وضعها ربنا سبحانه, وينبغي أن لا نسمح باهتزازها..
الأمر الثالث : التدعيم الروحي.
لأن الأمة لن تتطور بمادتها, مع التمسك بفضائلها إلا بالتدعيم الروحي ..
هذا هو المثلث الذي ينبغي أن نمسك بأضلاعه, وأن نعي أركانه ..
وعندها لن يؤثر علينا أن ترد المادية إلينا أو لا ترد ..
وعندها سننطلق من منطلقاتنا إلى حضارة تجمع بين المادة ,ومعاني الإنسانية.
اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه
أقول هذا القول واستغفر الله



أعلى الصفحة