الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
بين الواقع المرير وتقرير المصير
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
27/5/2005
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بين الواقع المرير وتقرير المصير
وضعت المادية الغربية هدفاً واضحاً معلناً وبدأت تسعى إليه سعياً حثيثاً جاداً وكان من أبرز أهدافها أن تحدث تغييراً في عالمنا الإسلامي..
هذا التغيير خلاصته : إحداث تبعية ثقافية واقتصادية له ليكون كل ما في العالم وخصوصاً ما في عالمنا الإسلامي تابعاً له ..
والمجتمع الذي يملك مقومات القوة في باطنه رغم ما فيه من تفكك، وضعف هو المجتمع في العالم الإسلامي.
وجَعلتْ - هذه المادية - للتغيير وسيلتين :
الوسيلة الأولى: التغيير بالسلاح والقوة.
والوسيلة الثانية: التغيير بقوة الاقتصاد.
وبدأت تمارس هاتين الوسيلتين ممارسة فعلية وهذه العراق التي يرى العالم كيف يمارس التغيير فيها بقوة السلاح .
أما الدول الأخرى التي منها دول كثيرة مجاورة لنا وغير مجاورة فإنه بدأ فيها التغيير من خلال إحداث تلك التبعية الاقتصادية.
والتبعية الاقتصادية تعني في النتيجة أن البلد لن يكون له حول ولا قوة لأنه مستند بالكلية إلى تلك القوى المهيمنة؛ فالتبعية الاقتصادية يلزم منها بالضرورة تبعية ثقافية.
ولا يُعلم بالتحديد هل بلدنا يراد التغيير فيها بقوة السلاح؟
أم يراد التغيير فيها بقوة الاقتصاد؟
وإن كان أكثر الدارسين اليوم يرجحون المذهب الآخر، أي مذهب التغيير بقوة الاقتصاد لإحداث تبعية اقتصادية تتبعها تبعية ثقافية.
ومعنى هذا أن المراد أن تطبع في عالمنا الصورة المادية الغربية التي تهيمن المادة فيها على المبادئ.
ولتذليل وصول تلك القوى المهيمنة بمادتها وكبريائها وعجرفتها اعتُمِدَتْ وسيلتان داعمتان للمخطط المرسوم :
- الوسيلة الأولى: تهديد الأنظمة فإما أن تنفذ ما يطلب منها وإما أن تزاح، ليتم تغيير الحكم في دول العالم الإسلامي أو تغيير الأنظمة.
- والوسيلة الثانية التي تطبق وتمارس اليوم هي التلويح للشعوب بالحرية والخلاص.
والتلويح للشعوب بالخلاص والحرية ما هو إلا فخ يراد منه تفكيك الشعوب ويراد منه إحداثُ رجاءٍ يتعلق به المغفلون حتى يكون الأجنبي أمَلَهُم فيتعلقوا بحباله، وتكون أمورهم في صباحهم ومسائهم بيده، وما هي إلا خيوط عنكبوت.
ذلك أن الدارس والفاهم يعلم أن القوى المادية المهيمنة تلك لا تبكي على حرية الشعوب لأنها حين تتحقق من مآربها بالوسيلة الأولى ، وتكون الأنظمة مطيعة مطواعة لها وتنفذ ما تطلبه منها تنفيذاً تاماً فإنها ستدعم تلك الأنظمة حتى لوكانت تمارس على شعوبها كل الممارسات البشعة، بمعنى أنه لا يوجد لتلك المادية الغربية دينٌ ، فدينها يستند إلى قاعدة ميكافيلية معروفة تبرر كل شيء، فالغاية تبرر الواسطة.
وهكذا يا إخوتي اُعتمدت تلك الشعارات البراقة واستخدم الإعلام المملوك ملكاً تاماً لتلك المادية الغربية من أجل الترويج لتلك الأفكار و المضامين التي تلوح للشعوب بأن حريتها وخلاصها إنما هو بيد تلك المادية الغربية .
يلوح للأنظمة حتى تكون مطيعة ، ويلوح للشعوب بالحرية ..
ويستسلم المغفلون في الأنظمة أو في الشعوب، وتتعطل الواجبات ويعمى الإنسان عن منهجه وطريقه إلى مصيره، ويتحول عالمنا إلى لعبة أو حجر شطرنج، ويراد من هذه اللعبة الإعلامية أن تكون تمهيداً لما يمارس بعدها، ويراد منها أن تشلّ ذهنية الإنسان ليستسلم لهذا الواقع المرير.
وقبل ن نتحدث عن واجباتنا حتى لا نقع في الشلل الذهني والسلوكي أقول:
لا بد لنا أن نقف وقفة سريعة مع الواقع الذي يعيشه الفرد الملتزم في هذا الواقع المرير، حين يتمسك بعقيدته وخلقه ومبدأه .
أولاً - على مستوى ما يرسم لنا في الخارج:
- يراد أن يطغى الفكر المادي على العقيدة والمبادئ، وأن تهمش العقيدة والمبادئ في معمعة المادية.
- ويراد كما قلت إحداث تبعية اقتصادية بقوة الاقتصاد ينتج عنها تبعية ثقافية. وإذا حصلت التبعية الثقافية لم يعد للمبادئ التي لا يوجد لها دعمها الاقتصادي والمادي- بحسب ما يرسمون - وجود معتبر.
ثانياً - على المستوى المحلي الرسمي :
- وانفعالاً لما يراد ، أو بقية من بقايا ذيول الماضي، تشل الشعوب ويحجّم ما فيها من إرادة، ويحجم كل نشاط فيه مبادرة يقظة أو نهضة.
- وتجد أن الثقافة تُرْبَطُ بالإدارات الرسمية، وهذا خطأ فاحش؛ لأن الثقافة إذا لم تكن في بحثها منطلقة من كل القيود على المستوى العلمي والاجتماعي والأدبي وعلى جميع المستويات الثقافية ... إذا لم تتحرر من كل القيود فلا نهضة للمجتمع إذاً فمن أكبر الأخطاء أن تُرْبَطَ الثقافة بموافقات رسمية من إدارات رسمية ..
لابد أن تتحرر هذه الثقافة حتى يظهر الإبداع العلمي والأدبي والثقافي بكل أنواعه.
- وتجد بعد ذلك خوفاً وحذراً شعبياً عاماً ، وهو من بقايا الماضي فيضاف إلى ما يراد من الخارج وما يحصل في الداخل عنصر آخر يزيدنا شللا ..
ثالثاً - إذا انتقلنا إلى المستوى الشعبي خاصة بما يسمى بالقطاع العام :
وهذه معلومة لم تعد خفية على أحد- تجد أن الأمر قد وصل إلى درجة من الفساد الإداري والمالي يندى لها الجبين.
حدثني صديق في إدارة من الإدارات فقال: تأتيني الاتصالات والتهديد بالقتل والإيذاء لأنني أرفض الرشوة ..
وهذه ظاهرة متكررة ، لأن عصابات الفساد أصبحت تصول وتجول، دونما أي حساب.
والذي يستقيم، ويريد أن يكون في إدارته صالحاً يتبرأ من الفساد الإداري والمالي تأتيه الاتصالات من عصابات الفساد ليتم تحجيمه فلا تكون له كلمة ..
قلت له : ألا تستطيع أن تفعل شيئاً ؟ فقال: إنني محاط من كل الجهات بالتهديد.
وهكذا من خلال هذه الأمور الثلاثة نخلص إلى أن الواقع واقع مرير ..
ولكن إذا كان الواقع مريراً ألا ينبغي لنا أن نضع في عقولنا منهج تقرير للمصير؟.
هل الواقع المرير يمنع الحكماء والعقلاء من أن يضعوا لأنفسهم ولمن بقي من الصلحاء معهم منهجاً واضحاً من خلاله يخرج الإنسان عن شلله السلوكي وشلله الفكري؟.
نعم يا إخوتي لابد من منهج واضح يخرجنا عن هذا الشلل ..
لقد سألني واحد من إخواني فقال: تحدثت عن فوضى المال وتحدثت عن قضايا ساخنة كثيرة ، ولما رجعتَ من العُمرة سمعنا في الخطبة حديثاً عن معاني الجمعة وعن ثقافة العبدية فهل هذا تحول؟
فقلت لا .. انتظر .. فهذا مقطع له ملحق.
والمنهج الذي ينبغي لنا أن نشيعه في مجتمعاتنا ونعتمده ولا يكون ضبابياً ظلامياً بل واضحاً يتحرك به أفراد المجتمع الصالح هو منهج الجمعة الذي تحدثت عنه في الأسبوع الماضي، حديثاً مجرداً.
واليوم أربط الحديث بالمنهج الذي هو منهج العقلاء والحكماء والصلحاء .
أم يقل ربنا سبحانه كما قلت في الأسبوع الماضي :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ‏)الجمعة:9-11
إنه منهج واضح يرتب للإنسان أولوياته ..
والمعركة القادمة معركة ثقافية اقصادية، وينبغي لنا إن نحن فهمنا مفردات المعركة أن نقابلها بإعداد ثقافي واقتصادي أيضاً.
حين نتحدث عن الثقافة نتحدث عن ثقافة تتقدمها ثقافة الروح وتتبعها ثقافة المادة، لا كما تريد المادية الغربية التي تهمش المبادئ وتهمش الروح وتهمش العقيدة.
ثقافتنا هي ثقافة الجمعة، ومنهجنا هو منهج الجمعة الذي تتقدم المعاني فيه على المادة ، وتكون المادة فيه تابعة للمعاني
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
يا من ارتبط بالغيب ، يا من ارتبط بحقائق الإيمان ..
(إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ)
إذا دعيتم للإجتماع, والجمعة رمز اجتماع .
والله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة تحدث عن جمعة كونية:
(يسبح لله ما في السموات وما في الأرض)
ثم تحدث عن جمعة ثانية هي جمعة الأمة كلها
(وآخرين لما يلحقوا بهم)
فألحق من عاشوا في زمن رسول الله بمن تبع سيدنا محمداً إلى يوم القيامة.
وهي الجمعة الاختيارية التكليفية التي فيها اجتماع الأمة على مفرادات واحدة إمامها محمد صلى الله عليه وسلم.
والجمعة الثالثة هي الرمز المتكرر كل أسبوع ، والذي نعيش مناسبته ، وينبغي لنا أن نفهم المراد منه
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا من تعلق بالغيب، ويا من آمن بالله، ويا من علم أن الذي يغير هو الله.
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنـزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء)
إذا أرادت المادية أن تغير، وأراد الله أن يغيرها فإن الذي يكون هو إرادة الله..
هذه حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن الحكماء والعقلاء والصلحاء، وهذه هي أول مفردة تخرجنا من الشلل، حين نعلم أن مقاليد ألأمور في الشرق الأوسط وغير الشرق الأوسط هي بيد الله..
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) يا من صدق بحقائق الغيب
في يوم من الأيام قال فرعون :
(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ)
وقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى , فَأَخَذَهُ اللَّهُ)
لكن لم يكن ذلك الأخذ إلا عند وجود المنهج المستقيم، وعند وجود المنادي الذي ينادي إلى الجمعة..
لما وجد موسى مع الثلة التي تبعته ، هوى فرعون .
بدون منهج الجمعة لن يكون تغيير ولا تأييد ، وستكون مخططات المادية منفذة, لكن بوجود منهج الجمعة يختلف الأمر.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ) : إذا نودي لتكون قلوبكم موصولة بالله سبحانه وتعالى ومتآلفة ومجتمعة, لا تفرقها النفوس
( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)
وهنا تظهر الأولويات؛ فالمادة تبعت الروح ، ولم تكن المبادئ والعقيدة تابعة للمادة .
وهكذا .. إن نحن رسخنا في نفوسنا وقلوبنا ونفوس الشباب, وقلوب من يريد صلاحاً, هذه الثقافة بمضامينها..أن المادة تابعة للروح وليست الروح والمبادئ والعقيدة تابعة للمادة نكون قد نشرنا ثقافة الجمعة .
فالذي يُراد منا أن تكون العقيدة والمبادئ مُهمشة وتابعة للاقتصاد, لكن منهج الجمعة يجعل الاقتصاد تابعاً للعقيدة.
(فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)إذا ارتقيتم إلى سدة العلم.. ولا يمكن للإنسان أن يرتقي إلى سدة العلم حتى يأخذ من الذي علم الإنسان ما لم يعلم.
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)
إنه التأكيد على تبعية المادة للمبادئ ..
ينبغي أن نسعى إلى ذلك سعياً جاداً وأن نوضِّحه, فالمعركة كما قلت معركة ثقافية اقتصادية..
وإذا رأينا تجارنا وصناعنا وأصحاب الأموال يُتبعون اقتصادهم للمبادئ ويخدمون المبادئ عندها يتحقق فينا منهج الجمعة..
وإذا رأينا تجارنا وصناعنا وأصحاب الأموال يتبعون اقتصادهم لمجرد المصلحة الخاصة, ولا يلتفتون إلى العقيدة والمبادئ, فسيجرفنا السيل الذي يريد تغيير عالمنا..
لكن ألم يقل ربنا: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء)
حتى بوجود السيل..
(وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)
فإن وُجد الذين ينفعون لن يجرفهم السيل أبداً, حتى ولو جاء السيل..
(لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق, لا يضرهم من خذلهم)
لا تغتروا بالمظاهرات الكثيرة, ولا تغتروا بالكمية .. انظروا إلى النوع.. ولو كان قليلا
(وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)ص: 13
كونوا من النوع القليل الموصول بالله سبحانه, وتذكروا:
(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً)البقرة: 249
لم تَغلب بالكم..
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا)التوبة: 25
فالمنهج منهج نوع, فإذا تحقق النوع وإن كان قليلاً غَلَب, ومكث في الأرض وتحرك السيل وزال.. (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)
إذا تحققت لكم صلة القلوب بالله فابْنوا حضارتكم على أساس العقيدة والمبادئ التي تحققت في بواطنكم, فحضارتنا تُبنى بعد تحقق الرسوخ في الإيمان .. واقتصادنا تابع لا مَتبوع ..
حضارتنا المادية تابعة لعقيدتنا, وليست عقيدتنا تابعة لاقتصادنا..
متى يفهم العقلاء هذه الحقيقة التي يقررها الله العلام العليم...
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) وأنتم في مادتكم.
إذاً : كانت المادة تابعة, وكانت مختلطة بذكر الله ..
فكان للمبادئ سبقها وإمامتها ، وكان لها حضورها في المادة.
ثم عَابَ أولئك الذين تخاذلوا وكَسِلوا, ولم يلاحظوا أولوية المبادئ, ولم يلاحظوا أولوية الصلة بالله, وأولوية الاجتماع, فقال:
(وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ)
حتى حينما تتساوى المادة بقوة جذبها مع الروح والمبدأ لا ينفع ذلك, فلابد أن تكون التبعية الاقتصادية للمبادئ والروح... لنكون تابعين لله..
وكيف لا يكون العبد تابعاً لسيده..
متى نتحرر من نفوسنا.. ومتى نتحرر من العلائق والأغيار لنكون حقاً عبيد الله؟..
أخيراً : نخلص إلى المنهج العملي, ليكون ورقة عمل لمن يرى أويسمع.
فلابد من إيجاد النماذج الصالحة مجتمعة.
وهذه النماذج لها مواصفات.
والمنهج الذي يخرجنا من شللنا إليه هو:
أولاً- أن نوجد في نفوسنا وفي الآخرين الاستقامة الشرعية.
انطلاقاً من ثقتنا بالشارع سبحانه وتعالى:(أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ)النحل: 17
كيف نثق بمن لا يخلق ولا نثق بالذي يخلق؟ هذا عجيب..
فالاستقامة الشرعية ينبغي أن توجد عن قناعة, لأن الآمر هو الله, والله هو الأعلم, والله هو الذي وضع لنا هذا المنهج.
فإيجاد الاستقامة الشرعية ينبغي أن يكون بعد قناعة نبيِّنها, لا كما يفعل السذج..
الذين لا تكون في خطابهم لغة تلامس النفوس, وتبلغها..
(وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا)النساء: 63
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ)الأنعام: 83
فينبغي أن يكون الخطاب في بيئة إقناعية محببة, ليس فيها تنفير, بل تحوطها الأخلاق..
ثانياً- إيجاد العقل المنفتح المتفاعل مع الواقع المعاصر.
فلا نريد صلحاء في صوامع فوق الجبال.
فالاستقامة الشرعية ينبغي أن يكون معها عقل منفتح فاهم, يفهم الواقع المعاصر, ويفهم ما يدور من حوله بدقائقه.
ثالثاً- المشاركة الفاعلة الاجتماعية والعلمية في كل الأصعدة.
فالعقل المنفتح إذا كان منفتحاً ولا يتبعه انفتاح سلوكي ما قيمته ؟
ما قيمة أن نفهم وأن تنفتح عقولنا ثم نكون انعزاليين في السلوك..؟
فلابد من انفتاح سلوكي على المستويات العلمية والاجتماعية, حتى نخرج من الانغلاق الذي يعاني منه بعض من لا يفهم الدين حقيقة, ويتصور أن الدين أن يغلق على نفسه الباب, لا..فالدين حياة, والدين حركة وبركة.
رابعاً- الحال الصفائي.
فلو كان العقل منفتحاً, والسلوك منفتحاً, مع الاستقامة الشرعية من غير حال صفائي, سيكون منفراً..
الحال الصفائي يجعلك تتحمل الآخرين, ويجعلك تحب الآخرين, ويجعلك تُحَبَّبُ للآخرين..لأن الحال الصفائي يهذب النفوس, ويلطف الأرواح..
الحال الصفائي يأتي من خلال اجتماع تمحى فيه النفوس ويتجلى فيه القدوس, وأنت تنكسر لربك, وتستشعر معنى العبدية التي أشرنا إليها في الأسبوع الماضي, تكون فيك (ثقافة العبدية) التي أشرنا إليها في الأسبوع الماضي..
ما نراه الآن من انفعالات الشعوب فوضوية مطلقة..
يخرج الآلاف في مظاهرات ويرفعون الشعارات, ويضحك الناس عليهم, وأصبح ذلك عنواناً لنهضة الشعوب, لا..
إن المنهج منهج نوع, وليس منهج كم.
خامساً- المرونة في التعامل.
وكفى جموداً .. كما يقال في المثل الحلبي: صَدُّكَ واقف, لا..
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت الاجتماع؛( في الحج ) , كلما سُئل عن شيء: قدمت السعي على الطواف.. قدمت الطواف على السعي .. قدمت الحلق على الذبح.. قدمت الذبح على الحلق.. كان صلى الله عليه وسلم يقول: (افعل ولا حرج).
إنه منهج المرونة..
كنت في زيارة لدولة الإمارات, وحدثني داعية, فقال لي:
كانت قنصل فرنسية أحبت الإسلام, وعشقته في باطنها, وكانت تأتي إلى المطوعين, فتقول لهم: أريد أن أدخل في الإسلام لكني لا أستطيع أن أخرج عن الزي الذي ألبسه. ولا أستطيع أن أتخلى عنه..
إنني أعشق الإسلام, وأريد أن أدخل فيه , وكانوا يجيبونها: لا..
لا نقبل إلا إسلاماً كاملاً.
لا.., حتى تلبسي الزي الأسود.
فكانت ترجع وتبقى على الكفر.
حتى اجتمعت برجل من أهل الفهم والتربية, فقال لها: يا بُنية ومن يمنعك من الدخول في الإسلام, إذا أسلمت روحك وأسلم قلبك ؟
ادخلي في الإسلام, والذي يبقى في ظاهرك معصية, ستتوبين في المستقبل منها, ودخلت في الإسلام, وصلّت لله, وذكرت ربها, ودخل النور إلى قلبها, ثم بعد ذلك تبع كل هذا سلوكٌ مستقيم.
هذه المرونة ليست تخلياً عن المبادئ, لا.. إنما هي حكمة, ومرونة تربوية ..
كانت خالدة في النار قبل أن تدخل في الإسلام, فلما دخلت في الإسلام انتقلت من الكفر إلى المعصية.
فمتى يفهم الدعاة.., ومتى يتعلمون الحكمة.., ومتى يتعلمون المرونة..؟
سادساً- أن نتعلم التكامل والتنسيق فيما بيننا, وأن نعلمه الناس حتى نخرج عن الفردية..
يقال : فلان مستقيم ورجل صالح وذكي ومنفتح.. لا يكفي..
فلابد من التكامل, أُكَمِّلُكَ وتكمّلني، فعندك شيء ليس عندي, وعندي شيء ليس عندك..
ومن الذي يوجد فيه كل شيء.
ومنهج التكامل, هو منهج الجمعة الذي ينبغي لنا أن ننشر ثقافته, وأن نحوله إلى سلوك.
سابعاً- الاستعداد.لتقديم الدعوة والدين في كل الظروف والأحوال على المادة.
فحين يطلبنا الدين وتطلبنا المادة في وقت واحد, نقدم الدين, نقدم الدعوة.
(فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)
قرأت في الإنجيل, في نسخه الموجودة الحاضرة بين أيديهم, مقولة للسيد المسيح: فقد سأله واحد من تلامذته وقال: أتأذن لي يا سيدي أن أذهب لأدفن أبي ثم أعود إليك وأتبعك؟
فأجابه المسيح: دع الموتى يدفن بعضهم بعضاً واتبعني.
أنت معي في حياة والذي لا يكون معي ميت القلب فاترك الميت يدفن الميت.
ثامناً - أن نوسع هذه الدائرة ما استطعنا
وأن يكون ذلك حاضراً في عقولنا ومقاصدنا بقوة لا أن نكتفي ونقول أنا وخمسة من إخواني اجتمعنا على الله.
وأخيراً - أن لا يكون في قلوب واحد منا ولا في ذهنه أي احتمال للإنجرار مع وعد الأجنبي الطامع الذي يريد أن يسخر الشعوب لخدمته من خلال شعارات براقة .
ينبغي أن لا يحصل هذا الحلف المذموم الذي وقع فيه بعض الذين ينتسبون إلى الإسلام في أفغانستان والعراق ، فهذا الحلف لا ثمرة له ..
فلنسع لاجتماعنا لا للتحالف معه

اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه
أقول هذا القول وأستغفر الله


أعلى الصفحة