الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الاعتكاف دراية وأثرا
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
28/10/2005
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها كما في الحديث المتفق عليه في صحيحي البخاري ومسلم:
(كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره, وأحيى ليله, وأيقظ أهله).
إذا دخل العشر: أي العشر الأخير من شهر رمضان.
شد مئزره: أي اجتنب النساء.
وأحيى ليله.
وأيقظ أهله.
وجدت في هذا الحديث عناوين ثلاثة، لموضوعات ثلاثة، نحتاج إليها ونحن في نفس الوقت والمناسبة الزمانية التي كان صلى الله عليه وسلم يحيي مضموناتها.
أولاً : كان إذا دخل العشر شد مئزره: وهي رهبانية مؤقتة في الإسلام.
فلا يتبنى الإسلام الرهبانية التي يكون فيها الإنسان من غير زوجة ولا ولد إلا في وقت قصير. فقد تبنى الرهبانية المؤقتة في مكان خاص أو في زمان خاص.
أما المكان الخاص فهو بيت الله الحرام حينما يتوجه الإنسان إليه حاجًا أومعتمرا قال تعالى:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ)[ البقرة: 197]
وقوله تعالى: (فَلاَ رَفَثَ) يتضمن فيما يتضمنه وجوب اعتزال النساء, فهي رهبانية مؤقتة مدةَ إحرام الإنسان بالحج أو العمرة.
وفي شهر رمضان في عشره الأخير رهبانية مؤقتة في الزمان، فالله سبحانه وتعالى الذي قال لعباده: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ) [البقرة: 187] مدة شهر رمضان استثنى العشر الأخير فقال: (وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)
فمن جملة أحكام الاعتكاف في العشر الأخير من شهر رمضان الرهبانية المؤقتة هذه.
والاعتكاف في العشر الأخير من شهر رمضان سنة مؤكدة لم يتركها النبي صلى الله عليه وسلم طيلة حياته.
إذًا فالرهبانية المؤقتة تكون مرة كل سنة، وإذا أردنا أن ندخل إلى معناها الذي هو الجزء الأول من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها نجد فيها تخلقًا بخلق الفرد سبحانه, الذي تَنـزَّه عن الزوجة والولد.
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) [الإخلاص: 1-4]
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا {3}الجن
فالرهبانية المؤقتة في عشر شهر رمضان الأخير فيها تَخَلُّق بخلق الفرد سبحانه، وفيها تَخَلُّق بالصمدانية, لأن الصمد لا يحتاج إلى أحد، والمعتكف في العشر الأخير من شهر رمضان لا يحتاج إلى الخَلق.
ثم إن في هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان متفردًا وفردًا, تخلقًا بالحال التي يكون عليها يوم القيامة, لأنه يومها سيأتي ربه فردًا, قال تعالى:
(وَيَأْتِينَا فَرْدًا) [مريم:80] ليس معه أحد، لا زوجة ولا ولد.
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وأَبِيِه، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ،لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس 34-37].
فيكون المؤمن متذكرًا أنه سيأتي يوم القيامة فردًا متفردًا, لا يتذكر زوجة ولا أمًا ولا أبا ولا ولدًا، يدعوه ربه وحده، فيكون في اعتكاف العشر الأخير مُتخلقًا بهذا الخلق ومتحققًا بمعناه.
إنه خروج عن المألوف, فهو طولَ السنة مع زوجته وأولاده، ومع الخَلق، لكنه في العشر الأخير من رمضان يكون فردًا, متوجهًا إلى الفرد المطلق سبحانه وتعالى وحده.
أما العنوان الثاني في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها:
الذي تقول فيه: (وأحيى ليله) فهو: الروحانية المُرَقِّية.
وكم يحتاج الإنسان وهو في معمعة المادة التي يجول فيها ليل نهار, وصباح مساء, إلى أيام يرتقي فيها بروحانيته فوق نفسه ورغباتها, وجسده وما يطلبه.
فيحيي ليله بذكر الله وعبادته، وقيام الليل، ومعنى (أحيى ليله) يعني أحيى غالب ليله.
قال تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل: 1-4] أي رتِّل القرآن في قيامك لليل (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل: 4].
فلا يمكن للإنسان أن يتحمل مسؤولياته والتبعات التي ينبغي عليه أن يحملها إلا إذا كان له إعداد في الليل.
كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسانَ النهار رهبانَ الليل، وكنتَ في المدينة تسمع دويًا كدوي النحل.
إذا كان وقت السحر ومررت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت تسمع دوي بيوتات أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كدوي النحل من قراءة القرآن في قيام الليل.
فهل هذا هو حال أمتنا اليوم؟
وهل هذا حالنا في أوقاتنا المعتادة؟
أو هل هذا حالنا في العشر الأخير الذي يخرج فيه الإنسان وقد أعتقه الله تعالى من النار؟
وقال سبحانه وتعالى:
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) [الإسراء: 89].
فإذا أخذ قسطًا في الليل من النوم, ثم قام بين يدي ربه في قيام الليل يتدبر آيات القرآن, يقرؤها بين يدي مولاه؛ فإنه يسمى في هذا الحال متهجدًا.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً) أي زيادة لك في الخيرات وارتقاءً, وهنا يأتي معنى ترقية الروح من خلال معنى الزيادة؛ لأن الزيادة هنا هي عروجُ روح.
(نَافِلَةً لَّكَ) معراجًا تعرج به في روحانيتك.
(عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) الذي هو نهاية المعراج.
(وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) [الإسراء: 80]
وانظر في السورتين حيث فيهما قيام الليل والتهجد, كيف كان بعد قيام الليل: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) [المزمل: 4].
وكيف أُمر أن يطلب بعد التهجد: (وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا)
ففي الحالتين يهيئ قيام الليل وعروج الروحانية للتبعات؛ ليقوم بها أحسن قيام بأمر الله سبحانه وتعالى، وليكون خليفة في الأرض عن ربه سبحانه.
وأخرج ابن ماجة عن جابر مرفوعًا
(من كثرت صلاته بالليل حسنت صلاته بالنهار)
قال العلماء: وإن كان هذا الحديث ضعيفا, لكن النصوص تعضده وتشهد له التجربة ، فما رؤي قائم في الليل إلا وقد استنار وجهه بأنوار الله.
العنوان الثالث في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها المستفاد من قولها:(وأيقظ أهله): هو المسؤولية الملازمة التي لا تنفك عن الإنسان.
فمع كونه صلى الله عليه وسلم كان معتكفًا في العشر الأخير, كان يرسل إلى أهله يأمرهم بالقيام, وعدم تضييع الأوقات, وعبادة الله سبحانه حتى لا تُحرم نساؤه بركة الليل, وبركة العبادة, والقيام.
إنه مع كونه فردًا في الرهبانية المؤقتة؛ لكن هذه الرهبانية المؤقتة لم تلغ مسؤوليته الملازمة له.
فما بالنا حتى ونحن مع أهلينا لا نستشعر هذه المسؤولية الملازمة؟
في وقت العبادة التي يكون فيها المؤمن منقطعًا عن جميع الخلق لا تنفك عنه مسؤوليته عن أسرته، فكيف بالذي يكون مع أسرته ثم لا تكون المسؤولية حاضرة عنده؟
(قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)[التحريم: 6]
(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132].
إنها مسؤولية في كل الأوقات عن الأسرة.
فأين نحن يا أمة الحبيب المصطفى صلى الله عليه من هذه المسؤولية؟
كم نُضيع اليوم من الأُسر!
يتزوج الشباب ولا يدركون أن الزواج هو دخول في مسؤولية جديدة.
(كُلّكُمْ رَاعِ وكُلّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيّتِهِ, فالرّجُلُ رَاعٍ في بَيْتِهِ, ومَسوؤلٌ عن رَعِيّتِهِ ، والمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ في بَيْتِهِا ومَسؤولَةٌ عن رَعِيّتِها)
أين نحن من تربية الأسرة؟
وأين نحن من معاني الإسلام داخل الأسرة؟
وأين نحن من التذكير بالله داخل الأسرة؟
وأين نحن من التذكير بالآخرة داخل الأسرة؟
أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم:
(إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ أهله..) وهذا في كل أوقات السنة.
(... فصليا ركعتين، كُتبا من الذاكرين اللَّه كثيرًا والذاكرات)
والحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين دخل معتكفه, لم يكن يريد أن يُحرم في هذه العَشر، ممن يكتب عند الله من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات مع أزواجه !
فهل هذا من مقاصدنا اليوم يا أحباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟
هل من مقاصد الأسر في هذه الأيام أن تكتب من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات؟
أم أن المقاصد لا تتعدى الأمور المادية؟
نقضي أوقاتنا في الليل على ما يصل إلينا من الفضاء، من المضحك أو المبكي!!
أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى, وأيقظ أهله فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل وأيقظت زوجها فصلى فإن أبا نضحت في وجهه الماء)
أين هذا الحال الذي يتعاون فيه الزوج مع زوجته ليتكاملا في طريق القرب إلى الله, فإذا رأى الأبناء حال الأب والأم كهذا الحال؛ تبعاهما في التَقرّب إلى الله سبحانه وعمَّ النورُ البيت.
إنها عناوين ثلاثة يا إخوتي في العشر الأخير من شهر رمضان, ينبغي لنا أن لا نفوتها وشهر رمضان يلوِّح لنا مودعًا.
علينا أن نودعه ونحن حاضرون مع هذه العناوين الثلاثة, لأن أوله رحمة وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
هاهو يلوح لنا بالوداع، فبماذا نقول له وداعًا, إن لم يكن عندنا تَفرُّد وإقبال على الله.
بقيت أيام قليلة، ولعلنا لا نُفوِّت هذه الأيام, ولا نُفوِّت بركة ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر.
اللهم لا تحرمنا بركات شهر رمضان, ولا تحرمنا بركة ليلة القدر، واجعلنا من عتقائك من النار يا رب العالمين, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة