الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
خصوصيتنا الإسلامية في إعداد المجتمع المدني
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
18/11/2005
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
التحول في مجتمعاتنا إلى ما يسمى بالمجتمع المدني، لم تعد قضية تحتمل الاختلاف، إنما هي قضية وقت، وذلك لاعتبارات عديدة:
- منها أن دور الإنسان في المجتمع وكونه مؤثرًا فيه، حاجة إنسانية في كل المجتمعات، ومنه المجتمع في بلادنا فنحن لا نخرج في جنسنا البشري عن الجنس البشري العام.
- وأما الاعتبار الآخر فهو أن الذين يملكون مقاليد الأمور في بلادنا بدؤوا يفكرون في هذا الأمر، وبدأت الرغبة لديهم في ذلك.
- وأما الاعتبار الثالث فهو ما يوجد عند القوى الكبرى في العالم من الرغبة الاقتصادية التي تتطلب انفتاحًا وأسواقًا تستطيع المجتمعات فيه أن تصل إلى المجتمعات، ولا يمكن وصولها إلا حينما يكون في كل المجتمعات تكوينات ذات رغبة مستقلة، وذات إرادة مؤثرة..
لكني أقول: إن المجتمعات خارج بلادنا أدركت هذا قبل أن ندركه بزمن طويل، وحينما فتحنا عيوننا عليه رأينا أن الوقت جاء متأخرًا.
ونحن نرى حاضرًا وأمسًا يُشعرنا بهذا التأخر.
والذي لفت انتباهي إلى هذه القضية، ما رأيته على أرض مصر، حينما حُيدت الجهات الأمنية الحامية لما يسمى بالعملية الديمقراطية، فرأيت ظواهر تدل على نقص الإعداد، وكان نقص الإعداد على المستوى الاجتماعي والشعبي إنذارَ خطر ينبه الحكماء والعلماء، فقد ظهرت ظواهرُ غريبة – هي موجودة في بلادنا وإن كانت بدرجة أقل- فالإنسان الذي دُعي ليعبر عن رأيه وليدلي بصوته وليكون فاعلًا ومؤثرًا:
- من جهةٍ لَعِب في توجيهِ صوتِه طابعٌ عشائري ، فإذا قررت العشيرة،أو قرر وجهاؤها، أو قرر بعض كبرائها شيئًا ما تحرك الجميعُ إليه وهي سياسة القطيع.
- ومن جهةٍ ثانية فإنَّ ضعفَ التكوين البشري على المستوى الإنساني جعل الإنسانَ يُشترى بالمال، وهكذا استطاع المال أن ينتج ما يريد، وكان الإنسان الجائع الذي يَرى ما يُلَوَّحُ له من المال منقادًا خلفَ المال تاركًا تكوينه وثقافته مع أنَّ ثقافته أصلًا هي في غاية الضآلة.
- إذًا لن نفيق في صباح يوم لنسمع تحول المجتمع السوري إلى مجتمع مدني، فثمةَ عنصرُ الوقت..
- وأن نكون من المنتظرين هو تضييع لثروة إنسانية تتميز بمزايا لا يملكها غيرها، فالتكوين البشري في بلادنا تكوين متميز.
من هنا أحببت أن اشير إلى أن لنا خصوصيةً يمكن من خلالها.. من خلال ثقافتنا، وحضارتنا ومبادئنا..أن نُعِدَّ لمجتمعٍ مدني يتميز عن غيره من المجتمعات من غير أن نكون منتظرين، ودون أن نضيع ساعة واحدة في الانتظار.
سيكون المجتمع المدني.. نعم .. سيكون.
لكن أن يكون هذا المجتمع من غير إعداد فهي مصيبة كبيرة.
لهذا تأملت فيما نحتاج إليه في بلادنا هذه، وبدت لي أمور سبعة أقدمها بين يدي حضراتكم، وأقدمها بين يدي من يسمع عبر الشبكة الحاسوبية:
- أولًا: ينبغي أن لا ننسى وإن كنا نعيش في المدينة، والطور المتحضر، ونتمتع بوجود الجامعات، وندخل إلى المصانع، ونتبادل مع الآخرين التجارات، وجود الطابع العشائري الذي لا يزال موجودًا في المدينة وفي الريف، والطابع العشائري لا يمكن أن يوجد مجتمعًا مدنيًا لأنه لا يعبر عن إنسانٍ، ولا يعبر عن فكرة، ولا يعبر عن مبدأ.. لكنه يعبر عن عرق، أو يعبر عن انتماء عصبي.
وحينما أنشأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المتماسك في مدينته المنورة، ما الذي حصل في ذلك المجتمع؟
هل بقيت الروابط العشائرية تحكم ذلك المجتمع أو تؤثر فيه؟
أم أننا رأينا مهاجريًّا يرد من مكة ضيفًا على أوسيٍّ أو خزرجي!!
ورأينا كيف انزاح بعض من كان يعتنق اليهودية حتى صار فردًا في الإسلام مع انتفاء كل روابط العشيرة لديه.
ورأينا الفارسي الذي الذي سار من أقصى فارس يبحث عن منبع النبوة حتى جثا بين يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
ورأينا أعراقًا مختلفة.
ورأينا كيف يترك مصعب بن عُمَير أمه، وكيف يقف أبو بكر رضي الله تعالى عنه المؤمن قريبًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعيدًا عن أبيه المشرك، وكيف يقف عمرانُ الصحابي مبغضًا لأبيه حُصين الذي يدخلُ على النبي  مشركًا، وحينما يتنور قلب حصين ويدخل في الإسلام يقوم إليه عمران ليعتنقه وليضمه، لا لأنه أبوه، بل لما تجدد من المشترك المعرفي بينهما.
فاستطاع المبدأ، واستطاعت الفكرة أن تحرر الإنسان من رابطة العشيرة، والعرق، والقومية، ووجد المجتمع المستقر.
وقال الله تعالى في القرآن:
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)[المجادلة: 22].
إذًا الإعداد الأول: أن ندرب الإنسان على نبذ الطابع العشائري، لأنه يتناقض تناقضًا تامًا مع تأثير الإنسان في مجتمعه وفي حضارته ونهضته.
- ثانيًا: وحتى لا يُشترى الإنسان لابد من نبذ الطابع النفعي، الذي يجعل الإنسان مسرعًا نحو نفعه المالي، وهذا الطابع النفعي أطلق القرآن عليه اسم النفاق.
واقرؤوا في القرآن الكريم كيف عالج هذه الظاهرة:
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ) [التوبة: 42].
إنها تدل على أن ذلك الإنسانَ النفعيَّ ضعيفٌ، وليست الفكرة لديه أقوى من نفعه المادي.
وبناء الإنسان بتكوينه الإنساني لا يكون إلا حينما يتبنى فكرة هي أقوى من نفعه المادي، فإن توافقتا فليس لديه من مانع.
واقرأ في القرآن قوله تعالى:
(وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ)أي يثبط الهمم (فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا، وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) [النساء: 73-73].
وقال الله تعالى سبحانه:
(مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء) [النساء: 143].
لن يكون المجتمع المدني الذي نحلم به نافعًا مع دوام هذا الاستعداد النفعي النفاقي الذي يباع ويشترى.
يظهر الإنسان حينما لا يصفق إلا لما يعتقد به، فلا يصفق لمن يمنحه مالًا، ولا لمن يسخر من عقله.
التكوين الإنساني يتحقق حينما تخرج انفعالات الإنسان صادقة من باطنه، ثم يذهب إلى صناديق الاقتراع ليعبر عما في باطنه.
أقول هذا لأنني أرغب أن تكون لنا خصوصية وأن يكون مجتمعنا فائقًا وسابقًا للمجتمعات التي تتحدث عن المجتمع المدني لأننا نملك خصوصية إنسانية.
ما الذي يميز مجتعاتنا؟. الآلة..لا، التقانة ؟... لا.
الذي يميزها هو بقية أخلاق، وبقية إنسانية، وبقية ثقافة، وبقية حضارة، فإذا لم نوظف هذا وذهبنا إلى المجتمع المدني بصورته الموجودة في المجتمعات المادية المحضة، فإننا نكون قد فقدنا كثيرًا، ونحن نريد أن نحصل أولًا ثبات هويتنا، وسيكون المجتمع الأمثل حين تكون ثقافتنا مؤثرة فيه.
- ثالثًا: التدريب على حرية الكلمة، ليقول الإنسان الحق بشجاعة من غير خوف، وهذا هو جزء من خصوصيتنا، فلا ينفرد الغربي بالوصف حين يقف في الساحات العامة ويقول ما يعتقده، فهذا موجود في أصولنا ومبادئنا، واقرؤوا قوله تعالى:
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152].
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ). أي فليكن قولكم مطابقًا لحقيقة العدالة، حتى ولو كان الذي بينكم وبينه صلة ما قد خرق العدالة، لكنكم مطالبون بقول الحق لتعبروا تعبيرًا متحررًا من كل علاقة إلا علاقة مع العدالة.
واقرؤا قوله تعالى:
(وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ) [غافر: 28].
قرأت هذه الآية وأحببت أن أنبه إلى أمر قد يغيب عن الأذهان. فقد قال الله تعالى يكتم إيمانه وما قال يكتم قوله. وفارق كبير بين أن تكتم إيمانك وبين أن تكتم قولك، فكتم الأقوال يعني إخراجك عن كونك مخلوقًا ناطقًا كما يقول المناطقة, وهو يعني إخراجك من دائرة البشرية, إذ حينما عبروا عن الإنسان قالوا: ناطق. فإذا ألغي نطقك وتعبيرك؛ ألغيت بشريتك.
قال: (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) هي كلمة الحق التي يقولها أمام الفرعون المتغطرس الطاغية.
قال القرطبي في تفسيره, قال عمر رضي الله عنه: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية, فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال.
عمر الخليفة يقف على المنبر, وتعرفون منصب الخليفة الذي هو فوق منصب السلطان, وفوق منصب الملك, وفوق منصب الرئيس؛ لأن الخليفة هو رأس الأمة, وليس هو رأس الإقليم أو القطر, أو القومية, وقف هذا الخليفة الذي يمثل أكبر سلطة في العالم يومها من البشر, وأصدر مرسومًا من الخلافة, يقول فيه: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية, فمن زاد ألقيت زيادته في بيت المال. فقامت امرأة من صوب النساء, وكانت النساء يصلِّين خلف الرجال في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم, قامت امرأة من صوب النساء طويلة, فيها فطس- يعني أنفها أفطس- فقالت: ما ذلك لك. أي هذا الأمر ليس لك يا عمر, ولا تملكه!!
يصدر عمر مرسوم خلافة, وتقوم امرأة طويلة, ذات أنف أفطس, لا رتبة لها, وليست في الوزارات, وليست ذات منصب في الدولة، هي مواطن من النساء, ونحن لا نهمل رأي النساء, ولا قول النساء, ومن اتهم الإسلام بذلك؛ لم يفهم تاريخ الإسلام, الذي اشتركت فيه المرأة مع الرجل في كل مراحل بناء المجتمع.
وقفت تلك المرأة فقالت: ما ذلك لك. قال: ولم؟
قالت: لأن الله عز وجل يقول:
(وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا) [النساء: 20]
الله يعطي بالقنطار, وأنت تحدد وتقول: أربعون أوقية.
الله يفسح الفرصة للقنطار.
فسكت عمر, وألغي المرسوم, وقال كلمته التي يرددها التاريخ:
"امرأة أصابت ورجل أخطأ".
ولم يصف نفسه بوصفه ولا باسمه, ولم يقل: الخليفة أخطأ. ولم يقل: عمر أخطأ. إنما قال: امرأة أصابت ورجل أخطأ.
هذه هي خصوصيتنا, وعلى هذا ينبغي أن نُعِدّ, وألا ننتظر من غير إعداد.
- الأمر الرابع: مراعاة المصلحة العامة, وتقديمها على المنفعة الفردية.
ليكون العمل من أجل مجتمع, ومن أجل وطن, لا من أجل صنم, ولا من أجل الأنا.
واليوم سقطت الشيوعية التي تدعو إلى الملكية العامة وتلغي الفرد, وتلغي الأنا إلغاءً تامًا, وهاهي المادية بشكلها المجرد من القيم تجعل الأنا مفترِسة للآخرين.
وخصوصيتنا أننا نملك حضارة وثقافة تأمرنا أن نقدم المصلحة والمنفعة العامة على المصلحة والمنفعة الخاصة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج أحمد وابن ماجة والدراقطني:
(لا ضرر ولا ضرار.)
وقال الله سبحانه وتعالى في كتابه:
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الفتح: 25]
لو أنكم دخلتم مكة محاربين, فإنَّ فيها رجالا ونساء, وأطفالًا مؤمنين, ولو أنكم ألقيتم بحجارة المنجنيق عليها, فستصيبون الأبرياء من غير إثم.
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ) فيموتوا ويقتلوا.(فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ) أي تقعون في الضرر, إذ يُنـزل الله سبحانه وتعالى بكم العذاب.
وهكذا كانت المصلحة العامة مُلزمة للسلوك الخاص, حتى حينما يكون هذا السلوك الخاص جماعيًا, كما هو ظاهر في هذه الآيات.
- المفردة الخامسة في الإعداد: الارتقاء في الثقافة والانفتاح المعرفي.
لأن مجتمعًا مدنيًا أو ديمقراطية تتكون من جهل؛ لن تكون في صالح البلاد، لكن حينما تنبثق من أرض المعرفة والاطلاع والخبرة؛ فلابد أنها ستكون نافعة.
هذا التعليم والتثقيف انحصر اليوم, حتى صار لا يُؤخذ في المجتمعات المتقهقرة إلا من بعض الينابيع الضحلة, أما تعليم الإنسان للإنسان, ونشر المعرفة على أنه من الأساسيات التي ترتقي بالمجتمعات, فهذا يغيب عن أكثرنا في مجتمعنا خاصة وهو يعنينا الآن.
وحتى يتعلم الإنسان فهو بحاجة إلى الحصول على الشهادة الثانوية ثم يدخل إلى الجامعة, ثم ينتظر الدراسات العليا, ثم ثم ثم.. فصارت سواقي المعرفة ضيقة, الانفتاح المعرفي حسن, واليوم تُعقد كما تعرفون قمم من أجل المعلوماتية المنفتحة عبر الشبكة الحاسوبية، إنما لا بد من ترشيد، ونحن ينبغي أن ننشر المعرفة وان نقوم بترشيد من لا يقدر على الوصول إلى هذه المعرفة، وهذا ما أعنيه في الإعداد.
واسمعوا ماأخرجه ابن راهويه، وابن السكن، والبارودي، وابن منده عن ابن أبزى قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرًا ثم قال:
(ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم، ولا يأمرونهم، ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم، ولا يتفقهون، ولا يتفطنون، والله ليعلمن أقوام جيرانهم ويفطنونهم ويفقهونهم ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفطنون ويتفقهون أو لأعاجلنهم بالعقوبة في دار الدنيا).
وهو يعني أنَّ التعليم إلزامي بالتعبير المعاصر.
كأنَّ سيدنا رسول الله يقول للمجتمع: التعليم إلزامي ولا خيار لكم في الأمر، ولا يسمح لكم بالبقاء في الجهل.
(ثم نزل  فدخل بيته، فقال قوم من تراه عنى بهؤلاء ؟ فقالوا نراه عنى الأشعريين هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب).
أين رغبة المثفين في تعليم الأعراب؟
ربما يظن الأستاذ أنه يُعلِّم لأنه يعلم في المدرسة أوفي الجامعة لكن أين هذا الرقي المعرفي الذي يدعوا إليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه عالمًا ليعلم أعرابيًا.
- المفردة السادسة: التدريب على احترام الآخر واعتبار إنسانيته حتى ولو خالف في المبدأ، وبهذا تنتهي الخصومات مع رقي الإنسان.
إنَّ ضرورة التعايش سمحت حين كوَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع في المدينة أن توجد فيه فئات ثلاثة:
- فئة أهل الإيمان الذين أشرق الإيمان في قلوبهم.
- وفئة المخالفين تمامًا في الدين وهم اليهود.
- وفئة المنافقين والنفعيين والمذبذبين.
وكان التعايش محققًا في المجتمع الواحد.
ولما شتم عبد الله بن أبي بن أبي سلول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعز منها الأذلّ، وقال الأصحاب فلتأذن لنا يارسول الله حتى نقتله قال:
(لا حتى لا يقول الناس إن محمدًا يقتل أصحابه).
لم يبق أكثر من هذا الصدام في المبدأ، فهنا شخص يتهم سيد الكائنات محمدًا عليه الصلاة والسلام الذي هو أفضل خلق الله بأنه الذليل، ويصف نفسه بأنه الأعز منه، ورسول الله  يمنع قتله.
إنها مدرسة التعايش، لأننا نعلم أن الخصومة لن تنتهي في هذه الدنيا، وعند الله تجتمع الخصوم.
قدّم ما تعتقده، وانفتح بمعرفتك، وقدم كل ما لديك (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ).
هذه هي مواثيق التعايش التي إذا لم ندرب مجتمعنا عليها سيحصل الذي حصل في مصر وهو شيءٌ لا يعبر عن حضارتنا إنما يعبر عن خروج إلى ما يسمى بالمجتمع المدني من غير إعداد.
واقرؤوا هذه الآيات التي تتحدث عن حوار بين الإسلام واليهودية والمسيحية: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ)وما قال اضرب رؤوسهم
(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [البقرة: 135].
(قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ) قال للنبي  قل وقال للمجتمع قولوا.
هم قالوا:( كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ).وجاء الجواب قل، وقولوا.
(قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ) [البقرة: 136- 137]
أين هذه اللغة يا من يزعم إقصاء الآخر وأنه من حضارتنا وثقافتنا!!
يا من يشكل أحزابًا يدّعي أنها المعبرة عن الإسلام ثم يقصي الآخر.. إنني أحب للمسلمين أولًا قبل الآخرين أن يقرؤوا فقه السياسة الشرعية، ليتعرفوا إلى أحكامنا الشرعية وكيف يقرأ في كتبنا الشرعية إمكان وجود وزير ذمي في الدولة الإسلامية.
هذه هي ثقافتنا، إنها ثقافة التعايش، وثقافة الموثق الاجتماعي.
المفردة السابعة والأخيرة: التدريب على السماع من الناس والقبول بما يقوله الغالبية، وكنت أميل إلى أن عمر رضي الله عنه هو من أوائل من فعل ذلك، ثم وجدت بعد ذلك أن النسبة إلى عمر نسبة ثانوية، فالذي فعل ذلك هو سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام في حادثة كبرى شهيرة هي أصلٌ تشريعي استطاع عمر من خلالها أن يَفهم شيئًا فرسخ هذا المفهوم.
بعد غزوة بدر، وبعد أن انتصر المسلمون فيها، زحفت مكة تريد الثأر من المدينة المنورة وأهلها؛ فرأى رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم رؤيا منامية وقال لهم :
(رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر فأولت –يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأولت هذه الرؤية أن الدرع الحصينة المدينة- أي هذه المدينة التي نحن فيها هي درع حصينة- وأن البقر نفر – يعني من أصحابنا من سينحرون ويقتلون - والله خير - يعني لنا في الله استغناء عما سواه وعمن سواه .
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنا أقمنا بالمدنية فإن دخلوا علينا فيها قاتلناهم، قال ذلك المهاجرون هناك روايتان الرواية الأولى رسول الله يقول لهم:
(لو أنا أقمنا في المدينة، فإذا وردوا علينا نقاتلهم).
والرواية الثانية: المهاجرون قالوا: (لو أقمنا في المدنية فإن دخلوا عينا فيها قاتلناهم)
فقالوا يعني قال الأنصار الذين هم أهل المدينة الأصليون: (والله يا رسول الله مادُخل علينا فيها في الجاهلية) أي هذه المدينة لا نسمح أن يدخل إليها أحد، ونريد أن نخرج خارجها لنرد كيد الأعداء قبل أن يصلوا إلى المدينة.
النبي عليه الصلاة والسلام كان يريدها حرب شوارع، فإذا دخلوا المدينة سيقضى على الجيش المشرك، والأنصار يقولون لا نسمح بدخول المدينة، قالوا:والله ما دخل علينا فيها في الجاهلية فكيف يُدخل عينا فيها في الإسلام، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (شأنكم إذًا).
وهذه الحادثة التي أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول غالبية أصحابه يمثل تشريعا ًلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أصل لكل التشريعات، فإن أخذ صلى الله عليه وسلم في بعض المواقف بما أوحى الله سبحانه وتعالى إليه وتركهم فهذه ترجع إلى قوله تعالى:
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ)[البقرة: 159].
وهنا أخذ بقول غالبيتهم وقال: (شأنكم إذًا).
سامحوني على الإطالة لكننا في هذه المرحلة بحاجة ماسة إلى إعدادٍ حقيقي لا على مستوى الجامع وحسب إنما على مستوى المجتمع.
وهذه مفردات سبعة تمثل فيما أراه خصوصيتنا التي نعد مجتمعنا من خلالها قبل أن تظهر صورة المجتمع المدني.
وأعيد باختصارٍ لأذكركم:
أولًا: أن ندرب مجتمعنا على نبذ العشائرية، ليعبر الإنسان عن فكرته ومبدأه.
ثانيًا: التدريب على نبذ الطابع النفعي.
ثالثًا: التدريب على حرية الكلمة.
رابعًا: مراعاة المصلحة العامة، وتقديمها على المنفعة الفردية الخاصة.
خامسًا: الارتقاء بالثقافة والانفتاح المعرفي.
سادسًا: التدريب على اعتبار الآخر ولو خالف في المبدأ.
سابعًا: التدريب على سماع الناس وقبول الغالبية.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه البلدة في حرزه وأمانه وأهلها وسائر بلاد المسلمين.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة