الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
إلى الحوار كبديل عن التلقين
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
16/12/2005
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
تحدثنا كثيرًا عن تركيبة المجتمع التي تطمح إليها النفوس، وعن بنائه وعن مفهومات التعايش فيه، وعن المواطنة.. وعن الحاكم والمحكوم...
وآن لنا أن نتحدث عن بناء أركاننا الداخلية.
فالحديث الأوَّل مطلوب لكنه لن يجدي شيئًا إذا لم تكن لنا هوية واضحة، ومنهج يمكن من خلاله أن تتصحح أمورنا الظاهرة والباطنة.
ولعل من القضايا التي أعتبرها أولوية، في ساحتنا الإسلامية، موضوعُ أسلوب الدعاة، أو من يَتسمَّون باسم الدعاة.
ومن هذا الموضوع أختار قضية لتدرس بعناية، ولتعالج علَّتها بعد نظر سديد.. وهي ما غلب على الوعاظ في ساحتنا الإسلامية، وعلى المعلمين فيها، وعلى من يسلك فيها طريق الدعوة من أسلوب التلقين، الذي يريدون من خلاله أن يُسمعوا ولا يَسمعوا، والذي يكون فيه آمرٌ ومأمور، ويكون فيه صوت يصيح، وصوت يبحث عن كهف، لأنه لا يملك إلا أذنًا تحتمي بذلك الكهف.
أقول هذا لأن منابرنا في مستويات الساحة الإسلامية المتعددة تعاني من هذا.
ولما كان حديثنا هذا يسمعه من يصلي في المسجد، ومن لا يصلي فيه، ويُبَث إلى العالم الإسلامي وغير العالم الإسلامي عبر الوسائل، أحببت أن أؤصِّل هذا الموضوع، وأن أضع بعض اللمسات على الجرح فيه.
أولًا: الدعوة إلى الله تعالى التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بها، قد تكون من رسول وقد تكون من تابع لرسول، فإذا كانت الدعوة من رسول فإنه يستطيع الجزم بأمرٍ ما ويستطيع إلزام أتباعه بذلك، لأنه في ذلك الأمر مبلغ عن ربه، فيكون الآمر عندها حقيقة هو الله تعالى.
من نماذج دعوة الرسول التلقينية، الجازمة الآمرة قوله تعالى:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً) [البقرة: 67]
ومن نماذج ذلك قوله تعالى في سورة الشعراء:
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء: 123-126].
وهو إلزام بالطاعة، وتوقيفٌ للسامع عند الأمر، والمنطق لا يستغرب مثل هذا، لأن هذا الرسول يبلِّغ عن ربه.
فإذا لم يكن المبلغ أو الآمر أو الداعية رسولًا يكون تابعًا لرسول:
- فإما أن يكون من ولاة الأمر حاكمًا
- وإما أن لا يكون من ولاة الأمر، أي غير حاكم.
ففي الحالة الأولى حين يكون الداعية أو الآمر حاكمًا أو ولي أمر، يطاع حين يأمر إذا وافق أمره هذا أمر الله ورسوله، ولا يطاع حينما يخالفُ في أمره أمر الله ورسوله، ويُردُّ الاختلاف بين الراعي والرعية والحاكم والمحكوم إلى أمر الله ورسوله ليحكم في ذلك الاختلاف والتنازع .
قال الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ) [النساء: 59].
أي إذا تنازع الحاكم والمحكوم، لأنه لا مجال للنـزاع بينك وبين الله ورسوله.
(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)
فإذا لم يكن تابع الرسول وليَّ أمر وهو يدعو إلى الله، وهي الحالة الثالثة وتنسحب على ساحتنا الإسلامية كلها، التي فيها خطيب منبر، أو معلم صف، أو داعية يدعو في ساحة من ساحات الإسلام، فطريقها محدد ومبين بقوله سبحانه:
(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[النحل: 125].
وهي أمور ثلاثة ينبغي أن يعيها كل من يدعو إلى الله.
1- الحكمة التي هي ملكة في الإنسان، يستطيع صاحبها بسببها أن يكون في دعوته متلطفًا بالناس، يخاطبهم من حيث يقبلون، ومن حيث يفهمون، منطلقًا من قناعاتهم، ومرتقيًا بهم.
2- الموعظة الحسنة وفيها التذكير بثواب الله، والتحبيب بالله، وهي لا تحمل سوط التخويف، لكنها تحبب وترغّب.
3 – الجدال الحسن المعبَّر عنه بقوله: (وَجَادِلْهُم) ولفظة (جادلهم) تقتضي طرفين يحاوران كل منهما يَسمع ويُسمع.
و"جادل" صيغة في اللغة من "فاعَلَ"، ولا تكون إلا بين طرفين، كلفظة "قاتل"، التي لا تصح إلا من طرفين ينفعل كل منهما للآخر ويفعل فيه، ويؤثر كل منهما في الآخر ويتأثر منه.
لهذا نص علماء التوحيد على منع أن يقال في الدعاء "شافِ مرضانا"، بل يقال "اشف مرضانا"، لأن الذي يشفي واحد وهو الله تعالى، ولفظة شافِ تقتضي في الفعل اثنين وليس في الأمر اثنان.
(وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) والجدال الحسن هو المعبر عنه في موضع آخر في القرآن الكريم بالحوار:
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ) [الكهف: 34]وهو الجانب المخطئ.
أما الجانب غير المخطئ الداعية في الحوار:
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ) [الكهف: 37].
إذًا ينبغي أن يُفهم أن التلقينَ هو وظيفة رسول، أو معلم ينقل بأدب عن رسول ليتعلم المتعلم، في ظرف يقتضي ذلك.
أما في ساحة الدعوة المستمدة من: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ) فلا بد أن يكون فيها (وَجَادِلْهُم).
وفرقٌ بين ظرف خاص يطلب فيه المتعلم تلقين المعلم، وبين أسلوب الدعوة الذي نتحدث عنه ، في منابر، أو في عرس أو مأتم ، ومن المؤسف فيها أن ترى شخصًا يلبسُ زيًا يقول الناظر إليه إنه زي إسلامي فيهيئ هذا الناظر السامع نفسه للجَلد، بصيغة الأمر والنهي، والتلقين، والفوقية....
وبين التلقين والحوار تباين...
فالتلقين فيه طرفان:
- طرفٌ يتلقى ويقلد دون أن تكون له فرصة تعليق أو مشاركة، فلا يشارك في صناعة الناتج المعرفي.
- وطرفٌ يُلقي ويلقِّن دون أن يَسمع أو يَسمح بمشاركة في تلك الصناعة المعرفية.
أما الحوار فيشترك فيه طرفان، قد يكون أحدهما مصيبًا وقد يكون الآخر مخطئًا، وقد يكون الطرفان مصيبين لكن أحدهما أكثر صوابًا، وقد يكون الطرفان مخطئين لكن أحدهما أكثر خطأً، والحوار يمثل صناعة ناتج معرفي، وما أحوجنا ونحن نتحدث عن التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية ودور المؤسسات في التنمية الاقتصادية والمادية أن نتحدث عن الصناعة المعرفية التي ينبغي أن تنـتجها المؤسسات لا الفرد، فقد سئمنا من الشتات المعرفي، وسئمنا من الضياع والفردية، فلو أن اشتراكًا حصل بين مصيب وبين من هو أكثر صوابًا، أو بين مصيب ومخطئ، فلابد أن الناتج المعرفي سيكون أعلى في النوعية، وسيصل إلى نوعية راقية .
إنني أخاطبكم وأخاطب نفسي وأخاطب كل من يدعو إلى الله بهذا الموضوع الذي يمثل رغبةً في انقلاب إلى الرقي في ساحة الدعوة إلى الله وقد أصبحت مع الأسف الشديد بُؤر كثيرة منفرة، الشكل فيها جميل والمضمونُ سيء، يُخرج ولا يُدخل، ويُبعد ولا يُقَرِّب، ويُنَفِّرُ ولا يُبَشِّر.
ومن شروط الحوار وكونه مفيدا وثريًا:
أولًا: وضوح الهدف:
كمثالٍ أسوقه: بعد أن طوَّرنا الموقع على الشبكة الحاسوبية؛ فتحنا صفحة خاصة للزوار, من أجل أن يقترحوا اقتراحًا, ومن أجل أن يقدِّموا أفكارًا يُستفاد منها, وخلال مدة قصيرة رأينا ما يزيد عن الأربعين مشاركة,كلها في التهاني والتبريك!!
مع أنها زاوية فُتحت لسماع اقتراح, ووُضع في أعلاها: للمشاركة والاقتراح.
لكننا ما رأينا إلا التهاني والتبريك!
إذًا هناك مشكلة, وهناك حاجة للتحفيز, فالسامع ينتظر التلقين, وقد تعوَّد منذ زمن طويل على التلقين, وأنا أقول له: أريدك مُشاركًا, ولا أريدك مُتلقيًا.
أريدك مُقترِحًا نافعًا وصاحب فكرة, ولا أريدك مجرد مُستقبِل.
وقلت: إذا الهدف غير واضح.
فمن شرط إثراء الحوار: وضوح الهدف.
وكنا نضع حاجزًا بين المشاركة وظهورها على الشبكة الحاسوبية, ربما يتأخر ظهور المشاركة مدة ساعتين أو ثلاثة, لأن هناك من يراقب هذه المشاركة, ثم اتهمنا أنفسنا وقلنا: لقد شابهنا غيرنا, فنحن ندعو إلى حرية التعبير, ونضع القيود على التعبير.
فليرَ كُلٌّ بحسب مستواه, وليعبر كلٌ عما فيه, فالإناء ينضح بما فيه, فمن كان كريم النفس؛ سيعبر عما فيه..
ولن أخجل بعد اليوم من مشاركة تصدر عن وعاء لا يحمل طيبًا.
وإذا وجدت فليرَ العالم أن هناك حاجة للتطبيب.
ولترسيخ وضوح الهدف قلت لإدارة الموقع: بعد كل خطبة جمعة افتحوا المجال للتعبير الآنيِّ دون أي مراقبة, ليظهر مباشرة على الشبكة الحاسوبية؛ لأن الهدف واضح, ولأنَّ الموضوعَ مطروحٌ في خطبة الجمعة ولمدة أسبوع.
فهو نوع من التدريب, وهي محاولة لتحفيز المشاركة العامة, ليخرج الإنسان عن كونه مُستقبِلًا.
ولا أدَّعي أنني أُحفِّز العالم؛ لكني أقدم أنموذجًا.
ولماذا أتحدث عن جزئية من الجزئيات في موضوع عام؟
لأنني لا أريد أن أكون نظريًا ..
نريد أن ننتقل من النظرية إلى التطبيق.
ثانيًا: الإدارة التي يحصل معها الترتيب والتنظيم, بحيث تتناوب الفرص لكل الأطراف المشاركة, وهو شيء يثري الحوار, ويجعله متجها نحو الهدف.
ثالثًا: في الحوار الارتجالي لابد أن تُمنع الفوضى.
ومنع الفوضى من مظاهره: ألا يتكلم اثنان في وقت واحد, وأن يسمع كلٌ وأن يفهم, ثم يحلل ما سمعه ليجيب عليه.
ونماذج الحوار في السنة النبوية كثيرة..

منها ما ورد في قصة الإعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, يشكُّ في زوجته, ويتَّهمها بالزنى ولو بشكل غير مباشر, قال: يا رسول الله, وُلِد لي ولد أسود. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذه إلى ساحة الحوار, وقال: ألك إبل؟ قال: نعم. قال: ما لونها؟ قال: حمراء. قال: هل فيها جمل أورق. (يعني رمادي اللون) قال: نعم. قال: من أين جاء هذا الجمل. قال: لعله نزعة عرق. أي لعلَّ في أجداد أجداده يوجد جملٌ أورق, أي بحسب الصفات الوراثية ظهرت الصفة . قال صلى الله عليه وسلم: ولعل ولدك هذا نزعة عرق.
فخرج وهو في غاية السرور..
إنه صلى الله عليه وسلم أخرجه إلى الحوار, وحرَّك عقله, وبدلًا من أن يمسك السوط ليقول له: إنَّ القواعد الفقهية تقول: (الولد للفراش, وللعاهر الحجر..) أخذه وحرَّك فهمه وقناعاته.
أما نماذج الحوار القرآني فمنها, ما نقرأه في سورة الأنبياء, يقول سبحانه وتعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ..)
وإبراهيم عليه الصلاة والسلام هو نموذج معصوم ورسول يَعدِل عن التلقين إلى الحوار!
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ..) أي ما قضيتها, ولماذا تعبدونها..؟
(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟..)
وهو سؤال يُحرِّك في الإنسان إجابة..
(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ..) [الشعراء : 51-54]
أي نحن نُقلِّد في هذا آباءنا. فحصل السؤال والجواب.
وبعد ذلك أراد سيدنا إبراهيم –كما تعرفون- أن يجعل الدرس عمليًا؛ فكسَّر أصنامهم, وبعد أن كسَّر أصنامهم؛ انتقل بهم إلى رتبة أعلى في الحوار.
(قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ..)
وهكذا يفعل الجاهلون المقلِّدون الذين لا يسلكون منهج العقل, فهم يحكمون بسرعة, ويطلقون الأحكام دون تروي (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ..)
إنها حَميَّة وعصبية للتقليد.
(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ..) أي كان إبراهيم يسأل عن الأصنام, ويُثير البلبلة فينا حولها.
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ..)
إنه ينتظر هذا السؤال, وكل ما فعله هو لنقلهم إلى هذا الحوار.
(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ..)
ما معنى هذا ؟
إنه يبدأ بالحوار معهم من حيث قناعاتهم, لأنهم كانوا يتداولون فيما بينهم أن الآلهة تتنازع وتختلف وأن الأقوى فيها يستطيع أن يسيطر على الأضعف, وأن الصنم الأكبر له الهيمنة على الأصنام الصغرى..
فانطلق في الحوار معهم من حيث قناعاتهم.
(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا..) بلغتهم ومعتقدهم..
وعندما بدأ معهم من حيث قناعاتهم؛ أنتج ذلك نتيجة فاعلة سريعة؛ لأنهم يحملون مقدمات خاطئة, وستُنتج بسرعة النتائج الخاطئة, وهذه المقدمات مُكتـنـزة لديهم, وحاضرة بسبب المألوف, والمعتاد.
(فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ..)
يقولون: ليس إبراهيم هو الظالم, بل أنتم الظالمون.. لأننا على الدوام نتحدث ونقول: كبير الآلهة يهيمن على الآلهة الصغيرة..
فما كان مُدَّخرًا من المعتاد والمقدمات الخاطئة عندهم, ؛ قادهم بسرعة إلى النتيجة.
وقبل أن أتابع, أقول:: الإنسان في تفكيره جانبان, جانب سلبي وجانب إيجابي.
فالجانب السلبي: ما لديه من ميل بشري لقبول الفكرة التي يسمعها لأول مرة, أو التي تلوح لذهنه لأول مرة؛ فيقبلها على أنها حقيقة مطلقة.
فهو الجانب السلبي الموجود في كل واحد, الذي ينبغي أن يتنبه إليه الإنسان في تفكيره.
أما الجانب الإيجابي فهو: الميل لتحليل الموضوع والفكرة, ولنقدها, وللتفكير فيها بعمق.
والقرآن هنا يُظهر الجانب الأول الذي هو: قبولهم لما سمعوه وقلَّدوه على أنه حقيقة مطلقة, وحكموا على أنفسهم بسببها, أنهم هم الذي أخطؤوا في حق إبراهيم, ثم ما لبث أن تنبَّه فيهم الجانب الإيجابي, وبدؤوا يفكِّرون: الأصنام حجارة ونحن الذين صنعناها, وهي لاتنطق, ولا تسمع, ولا تنفع, ولا تضُر... وإبراهيم يسخر منا حين يقول: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا..)
وهذا هو ما أراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يوصلهم إليه.
إنه يريد أن يسمع منهم هذا, وأن يوصلهم إلى محاكمة صحيحة وتفكير سليم, وأن ينبِّه الجانب الإيجابي فيهم..
فرقٌ بين من يقف ليقول لهم: أيها الجهلة... يا من يعبد الأصنام التي لا تنفع..
وبين من يسوقهم بالحوار والجدال بالتي هي أحسن إلى أن ينطقوا هم بما هو يريد من الحق.
فمتى نفهم هذا يا إخوتي..ويا أيها الدعاة إلى الله..
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ، قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) [الأنبياء: 59-66]
وقد وصل إلى النتيجة.
وأختم بمزايا الحوار على التلقين, لعلنا نعدل عن التلقين إلى الحوار.
أولًا: الحوار حين يكون بين المتحاورين يتسبب في نمو الفكرة.
فالفكرة حينما تكون لديك فهي كطفل صغير, لكن حينما يشترك في صناعتها متحاورون؛ تنمو وتكبر.
وهي كالعمل الصناعي, فحينما تريد أن تكون صانعًا وحدك؛ سيكون المصنوع صغيرًا, وحينما يشترك كثيرون في صناعتك؛ سيكون معتبرًا أكثر.
ثانيًا: الحوار ينبِّه التفكير العميق؛ لأنك ستعيد النظر مرات ومرات في الفكرة, فينتقل الإنسان من تفكيره السطحي إلى تفكيره العميق.
وهو يساعد في الناتج المعرفي الذي نبحث عنه.
أيها الأخوة, أيها الشباب, أيها المثقفون, أيها العلماء.. نحتاج إلى نتاج معرفي ينهض بأمتنا, فهناك أزمة معرفة على كل الأصعدة, لأن الإنسان غُيِّب, فأصبح على مستوى السياسة مُتلقيا, وعلى مستوى المسجد مُتلقيا, وعلى مستوى المدرسة مُتلقيا..
لذلك لابد من إعادة بناء هذه الشخصية.
ثالثًا: الحوار هو فرصة ينظر من خلالها الإنسان إلى نفسه في مرآة إخوانه؛ لأنهم سيشتركون في الحكم على ما يقدمه, فهي فرصة من أجل أن ينظر فيها إلى نفسه في مرآة إخوانه.
رابعًا: تنمو ثقة الإنسان بإمكانياته في التأثير, وأنه يمكن أن يفعل شيئًا ما؛ لأنه حين يعرض ما لديه على الآخرين ويلقى الاستحسان؛ تنمو ثقته بهذه الإمكانات التي وهبه الله إياها.
خامسًا: فائدة الانتباه والتركيز.
أما نرى مساجدنا في خطب الجمعة؛ أما نرى النائمين فيها بسبب التلقين.
الخطيب يخطب وعدد لا يُحصى مستغرقٌ في النوم.
إذًا الحوار يُخرج الإنسان إلى الحيوية والنشاط, عن الكسل والخمول والنوم..
لعل أمتنا تخرج من نومها, وخمولها, وكسلها, ويأسها, وإحباطها..
اللهم ردنا إلى دينك ردًا جميلًا, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة