الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
مفردات البيعة
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
8/12/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
مفردات البيعة
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 12]
ربَّما يتصور المؤمن وهو يقرأ هذه الآية أنها مفرداتٌ تخصُّ بيعة النساء للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكن الذي يقرأ سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يجد أنه بايع الرجال والنساء بنفس المفردات.
وربما يتساءل متسائل: لماذا خصَّ القرآن الكريم النساء؟
إذا كان فعلُه صلوات الله وسلاماته عليه لا يخصُّ بهذه المفردات النساء فقط، فلماذا خصَّ القرآنُ النساءَ، ولم يورد في نصوصه بيعة الرجال إلا بأمر واحد خصَّ الرجالَ به، وهو ما ورد في سورة الفتح في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] وفي نفس السورة: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنـزلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 10]؟
فكانت البيعة في هاتين الآيتين خاصَّةً بالرجال، لأن بعضهم قال يوم الحديبية: بايعنا رسول الله على أن لا نفرّ، وقال آخرون: بايعنا رسول الله على الموت.
فكانت تلك البيعة المذكورة في سورة الفتح دالَّةً على بيعة الرجال على الوقوف مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حالةٍ كانت ربما تقتضي قتالاً.
أما مفردات البيعة التي كان بها تكوينُ المجتمع، وتكوينُ الأمة، وارتباطُ الجماعة بالمحور، وعهدُ المحور مع الجماعة، فإنه ورد في سياق بيعة النساء.
والمفردات مستعملةٌ في كلِّ بيعة، وذلك للتأكيد على أنها بيعةٌ لا يُستثنى منها أحد، وأنَّ النساء جزءٌ لا ينبغي نسيانه ولا تهميشه في تلك البيعة، التي كانت تُشكِّل بدايةَ الجماعة والمجتمع، والجماعةُ والمجتمعُ لا يمكن استثناء المرأة منهما أبدًا، لأن هذا ينفي عمومها.
وهكذا اكتفى القرآن الكريم بإيراد مفردات البيعة في سياق بيعة المؤمنات.
لكن عندما ننتقل إلى ما ورد في الأحاديث النبوية في مناسبات متكرِّرة، نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرِّر هذه المفردات بعينها في كل مناسبة وهو يبايع الناس.
على سبيل المثال نقرأ الحديثَ المتَّفقَ عليه الذي رواه البخاري ومسلم وأغلب أصحاب السنن عن عبادة بن الصامت، وهو يوثّق مناسبة بيعة العقبة وما أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أولئك القوم من المفردات في تلك البيعة.
يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم:
(تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ، وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوني فِي مَعْرُوفٍ؟).
وفي بيعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، نقرأ الحديث الذي روته الصحابية الأنصارية أم عطية رضي الله عنها، قالت: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ جمع نساءَ الأنصار في بيتٍ فقال:
(تبايعنني على أن لا تشركن بالله شيئًا، ولا تسرقن، ولا تزنين، ولا تقتلن أولادكن، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن، ولا تعصين في معروف، قلن: نعم).
فيتَّضح مما تقدم أن المفردات التي وردت في نص بيعة النساء في سورة الممتحَنة، هي نفسُها المفردات الستة التي بايع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال يوم العقبة، وكانت بيعة العقبة في مكة لكنها كانت تؤسس للمجتمع الجديد في المدينة.
وكانت بيعة نساء الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بنفس المفردات.
إذًا هذه المفردات الستة وردت في القرآن، ووردت في بيعة الرجال والنساء لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأخذها عليهم جميعًا.
وهذا يقتضي أن نتأمل في بُعْدِها وما ترمي إليه، فربما نستفيد نحن الذين أصبحنا في ضياع وشتات.
فالجماعة أو المجتمع من غير مفرداتٍ واضحةٍ تحدد هويته شتاتٌ، وفوضويةٌ، وضياع.
هذه المفردات الستة هي:
1- مفردة العقيدة وهي المفردة الأولى التي تؤسس لصلة الإنسان بربه، ووردت بلفظ:
(أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا)، (أن لا تشركن بالله شيئًا).
2- مفردة المسؤولية المالية: والتي وردت بلفظ:
(وَلا تَسْرِقُوا)، (ولا تسرقن).
3- مفردة المسؤولية الخلقية: التي وردت بلفظ:
(وَلا تَزْنُوا)، (ولا تزنين).
4- مفردة المسؤولية الأسرية: التي وردت بلفظ:
(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ)، (ولا تقتلن أولادكن).
5- مفردة المسؤولية الاجتماعية: والتي وردت بلفظ:
(وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ)، (ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن)
6- مفردة الانضباط والطاعة في نظام الجماعة: التي وردت بلفظ:
(وَلا تَعْصُوني فِي مَعْرُوفٍ)، (ولا تعصين في معروف).

فهذه هي المفردات الستة التي قام عليها مجتمع الإسلام، وكانت البيعة بها بينه وبين مركزه، فأُسس مجتمعٌ متكاملٍ في عقيدته وخلقه وعلاقاته المالية وعلاقاته الاجتماعية وانضباطه وطاعته وتناغمه وانسجامه..

1- المفردة الأولى:
(أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا)، (أن لا تشركن بالله شيئًا) وهي تؤسس للعقيدة وصلة الإنسان بربه:
وهذه المفردة هي المنطلق لكل سلوك، فكل سلوك لا يستند إليها لا قيمة له، والسلوك الذي لا ينطلق منها سلوكٌ مذبذبٌ متلوِّنٌ يعتمد مبدأ تبرير الغايات للوسائط، وقد اعتمد عليه المادِّيون الغربيُّون اليوم.
أما المجتمع النظيف الذي بناه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهو مجتمعٌ ينطلق في كلِّ سلوك من العقيدة.
لماذا أُخرِجُ المال؟ ولماذا أستقيم؟ ولماذا أحافظ على الأمانة؟ ولماذا أحافظ على الفضيلة؟ ولماذا أحافظ على العفاف؟ ولماذا أنضبط؟ ولماذا لا أكون مصدر فوضى؟
ما الذي يثبِّتُني على كلِّ هذه المفردات ويجعلني عليها مستقيمًا ومستمرًّا ودائبًا؟
إنها الصلة بالله. حينما أعلم أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يثيب إلا الله، ولا يعاقب إلا الله، ولا يعطي إلا الله، ولا يمنع إلا الله، ولا يرفع إلا الله، ولا يخفض إلا الله، ولا يقدِّم إلا الله، ولا يؤخر إلا الله، وأن الذي بيده قلوب العباد هو الله، وأن خالقَ كلِّ حركةٍ في الكون هو الله، وأن الموفق للخيرات والخاذل للمعرضين هو الله.
وهكذا أربط بالعقيدة كلَّ سلوكٍ في كلِّ خطوةٍ أتحرَّكُها، و كل فكرة أُفكِّر بها، و كلِّ عملٍ أبنيه، وأجعل كل ذلك منطلِقًا من توحيد الله.
وقد يظن بعض الناس أنَّ التوحيد مقدِّمات منطقيَّة تنتج عنها النتائج. لا.. التوحيد شعورٌ في الباطن، وحالٌ يتفاعل الإنسان معه، فتتفجر عنه الطاقات، وهو الذي يجعل من الإنسان صادقًا في ظاهره وباطنه، لا مُجامِلاً ومُداهِنًا، ويجعل منه منبع إشعاعٍ للصدق، لأنه وضع أمام عينيه: "إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي".
فحينما ينتفي من باطنه أيُّ استنادٍ أو اعتماد على أحد، عندها ينتفي الشركُ الجليُّ والخفيّ، وعندها يولد المؤمن الحقّ.
ولا قيمة لمجتمعٍ تكثر فيه المداهنات والمجاملات، والمجتمع الذي يُرجى منه قيام نهضة، مجتمعٌ قامت أسُسُه على أصل العقيدة والصلة بالله والتوحيد.
2- المسؤولية المالية: والذي عبَّر النصُّ عنها بقوله: (وَلا تَسْرِقُوا)، (ولا تسرقن).
وهل السرقة هي الشكل التقليديِّ المعهود فقط، حين تمتدَّ اليد لتأخذَ كمًّا معلوما من المال؟
لا، فالله سبحانه وتعالى جعل كلَّ شيءٍ نملكُه أمانةً، بل جعل ما في الكون كله أمانة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ} [الأحزاب: 72] فالإنسان مؤتمَنٌ على الكون كله، والذي يسعى من أجل إخلال توازن الكون مُخِلٌّ بالأمانة، والمخلُّ بالأمانة سارقٌ.
والذي يتلاعب باسم الدين ليأخذ الدنيا، سارق..
والذي يتلاعب باسم الوظيفة والمنصب ليأخذ من الناس، سارق..
وأشكال السرقة لا حصر لها، ولا ينضبط المجتمع بعد العقيدة بالله إلا حينما تؤسَّسُ فيه الأمانةُ بكل مصداقية، وذلك يكون حين يُرَبَّى الولدُ على مفهوم الأمانة، وتُرَبَّى البنتُ على مفهوم الأمانة، ويُرَبَّى الكبير على مفهوم الأمانة، ويُرَبَّى العلماء على مفهوم الأمانة، ويُرَبَّى الحُكَّام على مفهوم الأمانة، ويُرَبَّى أصحاب المناصب على مفهوم الأمانة...
عندها تستقيم الأمور، وعندها لا تنهب الثروات.
الحروب العالمية التي يشهدها العالم في هذه الأيام باعثها السرقة، ونهب الثروات، والاستعمار الذي دخل البلاد، والإمبراطوريات التي تحرَّكت شرقًا وغربًا، كان الدافع لها السرقة.
إلا الفتوحات الإسلامية فإنها ما كانت تنظر إلى الأموال، بل كانت تتركها لأصحاب البلاد، فقد كانوا يعفُّون عن المال، ويعطون فقراءهم من أموال أغنيائهم، ويشترون البضائع التي يحتاجونها بأموالهم وهم الفاتحون.
وأتحدَّى أن يكون في التاريخ كفاتحينا، من يدخل فيشتري ولا ينهب.
وليعرض علينا من يدّعون الحضارة في الشرق والغرب تاريخهم، الشرقيُّون خرجت منهم جيوش التتار فأحرقت وأهلكت وسرقت ونهبت..
والغربيُّون الذين ما تركوا شيئًا في مستعمراتهم إلا نهبوه.
ودعا ديننا إلى بناء الإنسان فيه على الأمانة.
لكن أين منهجنا لبناء الأمانة؟
أين منهجنا في مدارسنا؟
أين منهجنا في جامعاتنا؟
تحولت الأمانة إلى كلمات تقال في المناسبات.
المنهج الذي يربي جيلاً أمينًا ضائع، ومفقود، وغائب...

3- المسؤولية الخلقية: (وَلا تَزْنُوا)، (ولا تزنين).
ثقوا يا شباب أن العفاف والفضيلة عنوانٌ على الأخلاق، فحينما يوجد خُلُقُ العفاف في شابٍّ لا بدَّ أن الأخلاق الحميدة ستكون تابعة لهذا الخُلُق.
والشابَّ الذي يؤسِّسُ خُلُقَه على أساس: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور: 30]..
والفتاةَ التي تؤسِّسُ سلوكَها على أساس: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور: 31] سوف أثق بهما، لكن عندما ينتفي هذا المنطلق في الأخلاق: العفاف، الفضيلة، غض البصر، فسيكون الأمر مُريبا...
كان السلف الصالح إذا مشوا يغضون البصر، وينظر أحدهم إلى موضع قدميه.
هذا ما كان يُرَبَّى عليه الشباب والأطفال والبنات..
فأين هذا السلوك؟
وجد اليوم مستأجَرون يخرجون إلى الناس عبر القنوات الفضائية ويكذبون على الله ورسوله، ويتحدثون بما هو مُكَفِّر، ومعلوم أنَّ إنكار معلومٍ من الدين بالضرورة مكفر، ومنه الحجاب الشرعيُّ، وإنكاره مكفِّرٌ بإجماع العلماء.
من أنكر أن الحجاب فريضةٌ كافرٌ بإجماع العلماء، لأنه معلومٌ من الدين الإسلامي بالضرورة.
ويخرج المستأجَرون ليُشيعوا الفاحشة، ويشيعوا السلوك المهيئ لها.
وهل تظنون أن الزنى هو المعاشرة الجنسية فقط؟
لا ... فكلُّ متسبِّبٍ أو صانعٍ لأسباب الزنى فهو زانٍ.
اقرؤوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه:
(أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، ثُمَّ خَرَجَتْ، فَمَرَّتْ عَلَى قَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيْحَهَا، فَهِيَ زَانِيَةٌ).
وهذا هو كلام الصادق المصدوق سيِّدِنا محمَّدٍ عليه الصلاة والسلام.
كلُّ شابٍّ يصنع أسباب الزنى فهو زانٍ، وكل فتاة تصنع أسباب الزنى فهي زانية، وكل إعلام يصنع أسباب الزنى فهو زانٍ، وكل مسؤول يصنع أسباب الزنى فهو زانٍ...
واليوم أصبح من علامات حضارتنا، ومن علامات تطورنا، ومن علامات انفتاحنا... أن تَكثُر الإعلاناتُ شبهُ العارية، فإذا وُجِدَتْ هذه الإعلانات فنحن منفتحون، ومتطورون..
اضطربت فضيلتنا.. وأوجدنا بين الناس الألفةَ لصورةِ متبرِّجةٍ خلعت فضيلتها، واستُخدمت بما يشبه العُرْيَ لترويج البضائع.
فهل هذا الوصف من سمات المجتمع النظيف الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وأين نحن من هذا المجتمع؟
الوصول إلى الزنى والإباحية يكون بخطوات:
أولى هذه الخطوات أن نوجد الأُلفة للسفور، واستقرؤوا كتب المدارس، لتجدوا أنَّ الحجاب يُنسَبُ في صور الكتب المدرسية الابتدائية للخادمة أوالجدة، أما الأم فصورتها في مخيِّلة الطفل عصرية تخرج إلى السوق والمكتبة وتقف في المكتبة.. من غير حجاب.
وينطبع في ذهن هذا الطفل أن الصورة المثالية للمرأة المثالية هي صورة هذه الأم، التي تقف في المكتبة مع طفلها من غير حجاب لتشتري له كتابًا.
وهذا شيء مستخدم أيضا في المسلسلات المرئية التي تُبَثّ للناس.
نحن مقتحَمون، ويُصنَعُ لنا ولحضارتنا ولمبادئنا.. قبرٌ كبيرٌ ونحن نصفق، ونقول: ما أحلاه من قبر.
هذا هو ما يُصنَعُ لنا يا أحفاد المجتمع الذي بناه سيدُنا محمَّدٌ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

4- المسؤولية الأسرية: التي دل عليها في النص لفظُ: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ)، (ولا تقتلن أولادكن).
أوجد الله سبحانه وتعالى الأسرة لحفظ الأولاد، لأن ضدَّ قتلهم وإفنائهم وإهلاكهم... حفظُهم.
وفيما يسمى عند أهل العلم بمفهوم المخالفة، كأن النصّ يقول: "احفظوا أولادكم".
وهل يقصد من "احفظوا أولادكم" أي بالأجساد فقط؟
لا، بل احفظوا أولادكم في عقولهم، وفي سلوكهم، وفي أخلاقهم، وفي رعايتهم، وفي مراقبتهم، وفي توجيههم، وفي محبتهم، وفي إشباع العاطفة فيهم، وفي إيجاد علاقة الحبِّ بينكم وبينهم...
اسألوا في المدارس:
كم هي نسبة تداول أشرطة الفيديو أو الأقراص المدمجة (CD) التي تحمل أفلام العهر والدعارة؟
كم هي منتشرةٌ هذه الظاهرة بين الفتية الصغار الذين يخرجون أوَّلَ مرة إلى الدنيا؟
وهذا يدل على أننا نقتل أولادنا، لأننا حين نهملهم نقتلهم، بل القتلُ المعنويُّ أشدُّ من القتل الحسِّيّ.
وظاهرة تبادل التنادي إلى العلاقات بين الأنثى والذكر من خلال الهواتف المحمولة ظاهرةٌ منتشرةٌ جدًّا مع الأسف في مدارسنا – وأنا لا أتحدث عن الجامعات بل عن المدارس – وذلك عبر وسائل البلوتوث.
هذا هو مجتمعنا.. فَلْنَصْحُ..
نحن نملأ المساجد في شهر رمضان و صلاة التراويح، وكلٌّ منّا يبدأ بختم القرآن من أوله إلى آخره، ونظن أننا أمّة يَقِظَة، وأن هناك صحوة إسلاميَّة، ونقول: ما أحسن إقبالنا على الدين، وما أحسن ما نتبناه من المبادئ...
ولا ندري أنها ظاهرةٌ تُخفي تحتها نَتَنًا وعَفَنًا وجِيَفًا، وأن المجتمع في حالةٍ من الانحدار والانحطاط الخُلُقيِّ، والنموذجُ فيه مدارسنا.
لا بدَّ من إعادة نظر، لتأسيسٍ وتدعيمٍ للأخلاق من خلال المسجد والمدرسة، سواء كانت هذه المدرسة خاصَّةً أو عامَّة، ونحن في حالة تقتضي الإسعاف.
أولادنا يتجرَّعون السموم الطائشة الشاردة عبر القنوات، وإذا لم يكن الظرفُ مناسبًا داخل البيت عبر القنوات، فهناك وسائل الإنترنت، ومقهى الإنترنت، والأقراص، والأشرطة... إلى آخر ما هنالك.
والآباء والأمهات مشغولون بشؤونهم المالية، وتراكمية الوقت، وهم يقتلون أولادهم دون أن يشعروا بما يفعلونه.

5- المسؤولية الاجتماعية: التي وردت بنصّ: (وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ)، (ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن).
والبهتان معناه: إلقاءُ التُّهَمِ الباطلة على بريءٍ في حال غيابه.
ولو تأملنا قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ}، ولفظَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة الرجال: (ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم)، وفي بيعة النساء: (ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن)، نلاحظ التأكيد على لفظ الأيدي والأرجل، فلِمَ هذا التأكيد؟ وما هي الدلالة في اللغة؟
إنَّ التُّهَمَ قد تتوجَّه إلى المعاملة وقد تتوجَّه إلى العِرض، فهي تقلب الحقَّ باطلاً والباطلَ حقًّا في المعاملة وفي الأعراض، فيصبح العفيفُ خائنًا والخائنُ عفيفًا.
يصبح الخائن عفيفًا لأنه يملك منـزلاً كبيرًا، ويصبح العفيف خائنًا لأنه لا يملك منـزلاً.
وحين يذهب الخائن إلى خطوبةٍ يصبح عفيفًا بسبب ما يملك، ويصبح العفيف خائنًا لأنه لا يملك.
وفي المعاملة يتقدَّم المستقيمُ للوظيفة فيُردّ، ويتقدم المنحرف إلى وظيفة فيُقبل، أليس هذا هو واقعٌ نعيشه من خلال أحكامٍ يطلقها بعض الموظفين؟
والمعيار الذي يُنظر منه إلى طالب الوظيفة معيارٌ ضيِّقٌ، يُرفَض فيه المستقيم ويُقبَل المنحرف.
إذا ألسنا نعيش البهتان بين أيدينا وأرجلنا، في المعاملة والأعراض؟

6- الانضباط والطاعة في نظام الجماعة والمجتمع: (وَلا تَعْصُوني فِي مَعْرُوفٍ)، (ولا تعصين في معروف): لأن الجماعة لا بدَّ لها من تناغمٍ وانسجام، ولا يتم ذلك إلا بوجود محور يضبط حركتها، ويرعى تكاملها.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإِنهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ، خَيْرٌ مِمَّا تُحِبُّونَ فِي الْفُرْقَةِ".
وقال صلوات الله وسلاماته عليه:
(عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ).
هذه هي مفردات البيعة الستة التي ثبتت في القرآن ونصِّ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلِه وسلوكِه.
فإذا أردنا أن نبنيَ نوعًا إنسانيًّا متميزًا، وإذا أردنا أن نوسّعَ دائرة هذا النوع المتميِّز ليكون نواةً للمجتمع الصالح، فعلى هذه المفردات الستة ينبغي أن نبنيَ تجمُّعَنا، ولعل التجمع النظيف ينْتِج مجتمعًا نظيفا.
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة