الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
لماذا أنزل إلينا القرآن؟
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
20/10/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
لماذا أنزل إلينا القرآن؟
قال ربنا تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] فقد أنزل الله سبحانه وتعالى هذا القرآن العظيم في رمضان، وها نحن نودع رمضان.
ولا بد للعاقل أن يتساءل: ماذا أخذنا من هذا القرآن الذي أنزل إلينا في رمضان؟
نعم، اختار الله سبحانه وتعالى أشرف الأزمنة التي يكون فيها الإنسان وعاءً نظيفًا مستعدًّا في روحه وجوارحه، فأنزل إليه في هذا الظرف المتميِّز القرآنَ العظيم، حتى يكون باستعداده هذا مهيَّأً للانفعال تلاوةً وفهمًا وتدبُّرًا وعملاً وأدبًا وخُلُقًا وحقيقةً وإحسانًا ... ليكون في مثل هذا الظرف منفعلاً للقرآن.
وباختصار يستطيع الإنسان إذا أراد أن يُقَيِّم أو يُقَوِّم فائدتَه من شهر رمضان من خلال هذا التساؤل:
ما الذي فعل القرآن بي في شهر رمضان؟
ما الذي ظهر من نتائج نزول القرآن إليَّ في حياتي، وفي عباداتي، وفي معاملاتي، وفي أخلاقي ..؟
هل فهمت أن القرآن نزل إلي في شهر رمضان لأجعل منه بعد شهر رمضان منطلق رسالتي في الحياة، ولأكون بعد شهر رمضان تلميذَ القرآن، وحاملَ الدعوة التي تنوِّر العالم بالقرآن ..؟
إذا كان حظي في شهر رمضان من القرآن أنني تلوت حروفه، فهذا يشترك فيه من صام بجسده، ومن صام بقلبه وعقله.
أما الذي فهم من قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} أنه نقطة الانطلاق كما كانت نقطة انطلاقٍ للإنسان الكامل سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، كان القرآن في شهر رمضان منطلقَ رسالته ومنطلقَ دعوته.
إن تأملاً بسيطًا في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الإِنسَانَ} [الرحمن: 1-3] يكفي ليجعل هذا الإنسانُ رسالتَه وحياته ومماته للقرآن وحده.
{الرَّحْمَنُ} الذي على العرش استوى، والذي برحمانيَّتِهِ يرعى الكون كله، لما أراد رعاية الكون بعد أن خلقه {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، ثم {خَلَقَ الإِنسَانَ} ليحمل هذا القرآن، وليكون السيد على الكون بحمله للقرآن.
هذه هي الرسالة التي ينبغي علينا أن نعيدها على قلوبنا في شهر رمضان خاصَّةً صباحَ مساء:
- لنفهم أن فائدة شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ارتقاء في العلم، لأن القرآن يقول: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114]، ويقول: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]
- ليفهم أن فائدة شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن عمل: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]
- ليفهم أن الفائدة من شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن أن يكون في عمله هذا مخلصًا: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5]
- ليفهم أنه في عمله هذا وإخلاصِه مطالَبٌ أن يكون مع الله صادقًا: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]
هذه هي فائدة شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن.
القرآن الذي يحوِّلنا من الاعوجاج إلى الاستقامة إن نحن استفدنا وانتفعنا واهتدينا واقتدينا به: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]
فَلَئِنْ كان العالم يعيش اليوم حالة انحرافٍ خلقيٍّ عن المسار الإنساني، ويعيش حالة الاعوجاج السلوكي، فإنه لن يستقيم إلا بالقرآن: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
العالم الذي يعيش غياب العدالة، ويعيش حالة الظلم، ويعيش حالة البغي، ويعيش الإفساد ... هو بحاجة إلى القرآن، لأن القرآن يقدم إليه العدالة: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] أي ليتحقق العدل، وليكون منهجَ كلِّ الناس، وهذا العدل يشرحه ويوضحهُ القرآن ويضع له ضوابطه.
قال الحبيب المصطفى كما أخرج أبو داوود في سننه: (مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا؟‏)
فمن قرأ القرآن وعمل بما فيه تعدَّى أثرُه إلى أصوله وفروعه، فما بالك بالذي يتبنّى منهج القرآن؟ وما بالك بالذي يتخلّق بالقرآن؟
إذا كان الذي يقرأ القرآن ويعمل به، ينتفع أصلُه البشري وفرعُه من هذه القراءة: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} فعلينا إذًا أن نُصحح العلاقة مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من خلال التزامنا بالقرآن, لأن علاقتَنا وصِلَتَنا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ستكون علاقة حميمية حُبِّيَّة حينما نقرأ القرآن فنعمل به ونتخلّق به.
وحينما لا نكون مُنتفعين في شهر رمضان بالقرآن تلاوةً وفهمًا وعملاً وتدبُّرًا وتخلقًا وتحققًا ... فإننا سنجعل بيننا وبين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم خصومةً, لأنه سيقف عند الله يشكونا إليه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]
فلا يكفي عند ذكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نمسح وجوهنا وصدورنا متبرّكين بذكره, لأنه سيقف في موقفٍ يشكونا فيه إلى ربّه, ويقول: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي}
وهذه العبارة حُجّةٌ علينا نحن العرب أولاً, لأنه صلى الله عليه وسلم يشكو العرب: {إِنَّ قَوْمِي}
فيا من يتحدَّث بالقومية, سيشكوكم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إن لم تجعلوا قوميَّتَكم هذه سببًا لحمل القرآن.
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي} أعرضوا عن القرآن في سياستهم, وفي معاملاتهم, وفي مجتمعاتهم وتطبيقاتهم، وفي سلوكياتهم ...
يا أمة العرب, ويا أمة محمد صلى الله عليه وسلم, ويا من يفهم لغة القرآن, أليس عيبًا أن تُعْرِضوا عن هذا القرآن؟
أليس عيبًا أن تستوردوا مناهج تتناقض مع هذه القرآن؟
أليس عيبًا علينا على مستوى الأفراد والجماعات والمجتمعات, خصوصًا في البلاد العربية، أن لا يكون القرآنُ إمامَنا؟
إنه ظلمٌ لإنسانيتنا.
القرآن هو الذي يعيد العرب إلى السُدَّة.
وقد قال ابن خلدون رحمه الله في مقدّمته: العرب لا يجمعهم إلا الدِّين.
اجتمع الغرب على المصالح, لكننا لا نستطيع باستعداداتنا وعنفواننا وجاهليتنا الجديدة القديمة أن نجتمع، حتى نجتمع على حبل الله الذي هو القرآن.
نُنادي منذ أزمنة طويلة بالوحدة, ونكذب على أنفسنا، لأن سبب الوحدة هو القرآن ولا نأخذ به: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] وحبلُ الله القرآنُ.
هذه فائدة شهر رمضان.
فلا يكفي في إعلامنا أن نُشعر الناس بشهر رمضان من خلال المسلسلات التي أكثرُها يُشوّه القرآن ويُشوِّه بيئة القرآن.
ولا يكفي أن نهُزَّ في الإعلام بالفوانيس.
ولا يكفي أن نُشعر الناس بشهر رمضان من خلال مُمثِّلةٍ أو مُطرِبةٍ أو صاحبة طهيٍ وطَبخٍ تجيد الطبخ وصنعَ الأطعمة في شهر رمضان, فتُعلِّمُ الناس ذلك..
يمرُّ شهر رمضان وكأنه فرصة ترفُّه, وكأنه فرصة لزيادة المحسوس, وكأنه فرصة من أجل أن يُسلِّيَ الإنسانُ نفسَه عن جوعه وعطشه, فهو في مصيبة: لقد تَرَكَ الطعام، أنقذوا هذا المسكين الذي يصوم ويترك طعامه، إنه بحاجة إلى أن يُسلِّي نفسه في هذا الشهر الذي يصبر فيه على الطعام، فليسلِّ نفسه بما يشهده من الساخر، وبما يشهده من سبب الانحطاط.
هذا واقعنا في شهر رمضان, فهل تستفيدون يا شباب من شهر رمضان؟
وهل تستفيدون يا ساسة من شهر رمضان؟
وهل تستفيدون يا تُجّار من شهر رمضان؟
وهل تستفيدون يا أساتذة من شهر رمضان؟
وهل تستفيدون يا طُلاب من شهر رمضان؟
وهل تستفيدون يا رجال من شهر رمضان؟
وهل تستفيدون يا نساء من شهر رمضان؟
هذا هو السؤال..
فشهر رمضان يُلوِّح لنا بالوداع, وما بقي منه إلا أيام, نستطيع فيها أن نُعيد موثقنا وعهدنا.
لنقل: يا شهر رمضان، عهدًا أن تكون منطلقنا من القرآن الذي أُنزل فيك, لنكون حَمَلة رسالة القرآن إلى أُسَرِنا ومجتمعاتِنا والعالمِ من خلال رُقيٍّ إنساني ينهض بالإنسان إلى مستواه الحضاري الذي أراده الله تعالى له.
اللهم إنَّا نسألك يا حيّ يا قيّوم، يا بديع السموات والأرض, يا ذا الجلال والإكرام, أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا.
فهِّمنا القرآن, وخلِّقنا بالقرآن, ووفِّقنا للعمل بالقرآن, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة