الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الحِكَمُ الغائيَّةُ للعبادات وآثارُها السلوكية
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
13/10/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الحِكَمُ الغائيَّةُ للعبادات وآثارُها السلوكية
ها أنتم أيها الإخوة الأحبة في مبتدى العشر الثالث من شهر رمضان، هذا الشهرِ العظيمِ الذي يتوجَّه فيه القلبُ إلى الله، فإن كان صاحبَ شهورٍ أقبل على خيره، وإن كان صاحبَ معصيةٍ تاب وأناب، وإن يُعظِّم هذا الذي يدرك شهر رمضان برحمته ومغفرته وعتقه من النار للشهر، ثم يخرج بعدها دون أن يُغفر له، فقد خسر خسرانًا عظيمًا.
شهر رمضان الذي كدنا أن نودعه هو شهر العبادات كلها: فهو شهر الصيام، وهو الشهر الذي يُكثِر أهلُ الإيمان فيه من الصلاة، وهو الشهر الذي اعتاد الناس أن يُخرِجُوا فيه زكاة أموالهم، وهو الشهر الذي يتهيأ الناس منذ بدئه لحج بيت الله.
إذًا، فشهر رمضان هو شهر عبادات الإسلام كلِّها.
لهذا أحببت في عجالة أن أقف وقفة سريعة مع المقصود أو الحكمة الغائيَّة لكلٍّ من هذه العبادات الأربعة، والأثرِ السلوكيِّ الذي يدل على أن الإنسان قد قام فعلاً بهذه العبادات، لأن العبادة مقدِّمةٌ تنتج أثرًا.
1- أما الصلاة التي نكثر منها في هذا الشهر العظيم، وتمتلئ مساجدُنا بالمصلين فيه، فإن المقصود (أو الحكمة الغائيَّة) منها أن يكون قلبُ الإنسان مفعمًا في كل أوقاته بذكر الله.
يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] أي: حينما يقف الإنسان ليصليَ في حضرة ربِّه، فالمقصود أن يغلب ذكرُ الله تعالى في قلبه على ذكر الأشياء كلِّها، حتى يستديم هذا الحال، وحتى يكون غالبًا عليه.
* أما الأثر السلوكي الذي يدل على أننا فعلاً صلَّينا فميزانه قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]
فإذا رأينا بعد كثرة الصلاة، وامتلاء المساجد، وصلاة التراويح ... أننا ننتهي عن الفحشاء والمنكر، فقد صلَّينا.
وإذا رأينا بعدها أننا لا نرتدع عن الفحشاء والمنكر بكلِّ أنواعها: القولية والفعلية والخلقية والمالية ... فما صلَّينا، إنما تحركت أجسادنا، لأن المقصودَ والحكمةَ الغائيَّة التي هي: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} لم تتحقق، ولم تنتج ذلك الأثر.
2- فإذا انتقلنا إلى العبادة الثانية التي هي الزكاة، والتي نكثر من إخراجها في هذا الشهر المبارك، فإن المقصود والحكمة الغائية منها أن يتطهر الباطنُ من التعلُّق بالمال الذي تمسكه اليد، فالمال جُعل لليد لا للقلب، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] وما قال: تطهر أموالهم، لكنه قال: تطهرهم.
فبقاء المال في القلب إنما هو نجاسة عليه، لهذا قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} فتطهيرُ القلب من المال الذي أمسكَتْ به اليد قبل تطهير المال.
* وأما الأثر السلوكي لعبادة الزكاة فإنه منع الحرمان، حتى لا يبقى في المجتمع محروم، يقول تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] فكانت الزكاةُ سببَ إلغاءٍ للحرمان في المجتمعات الإسلامية، إن هي تحققت حقيقةً بالإسلام.
3- وإذا انتقلنا إلى العبادة الثالثة التي تُنسب إلى شهر رمضان ويُنسب إليها وهي الصيام، فإن المقصود والحكمة الغائية إنما هي التقوى، والتقوى نور في القلب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]
والتقوى إذا وجدت في القلب لم يقدر صاحبها على اقتحام حدود محارم الله، وهي نور إذا وجد في القلب يجعل صاحبه كارهًا للمعصية محبًّا للطاعة {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فإذا وجدت التقوى في القلب كَرِه المعصيةَ بأنواعها، وأحبَّ الطاعةَ والقرباتِ بأنواعها.
* أما الأثر السلوكي الذي يدل على أننا صُمنا فعلاً، فهو التحوُّل إلى الخيرية العامة، يقول تعالى: { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 184]
فينتقل الإنسان من التلبُّس بوصف الشرير إلى التلبس بوصف الخَيِّر، فهو منبع الخير إن هو صام.
وإذا لم يكن متلبسًا بهذا الوصف فما صام، وما حظُّه من الصيام إلا الجوع والعطش.
4- أما العبادة الرابعة التي نتهيأ في هذا الشهر لقضائها والتوجُّه إليها، والتي هي عبادة الحج، فإن المقصود والحكمةَ الغائيَّة منها أن تجعل فخرَك بربِّك فوق فخرِك بِنَسَبِكَ، بأن تقول: "أنا عبد الله"، ليكون هذا عندك أحبَّ إليك من أن تقول: "أنا ابن فلان، أو ابن العائلة الفلانية"، وأن تتحول دعواك من دعوى الجاهلية والعصبية إلى النسبة إلى الله.
ورحم الله من قال:
لا تدعُني إلاَّ بِـ: يَا عبدَها
فإنها أشرفُ أسمائي



وقال آخر:
ومما زادني شَرَفًا وَعِزًّا
دُخولي تحت قولك: يا عبادي
وكِدْتُ بأخمصي أطأُ الثُّرَيَّا
وأن صيَّرْتَ أحمدَ لي نبيّا

فهذا هو مقصود الحج، يقول تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] أي انتسبوا إلى العبودية لله، بدلاً من أن تنتسبوا إلى انتماءاتكم.
وهل يحاول عدوُّنا اليومَ أن يستثمر إلا هذه النسب الجاهلية التي ينتسب بها الإنسان إلى قومه وعِرقه؟
وهل يجد أعداؤنا اليوم ما يفرقوننا به إلا هذا؟
* وأما الأثر السلوكي للعبادة الرابعة والأخيرة فهو قيامُ أمَّة، فحينما يحضر من فجٍّ عميقٍ أسودُ وأحمرُ، عربيٌّ وعجميٌّ ... يظهر مفهوم الأمة، فهذا هو الأثر السلوكي الذي عبَّر عنه قوله تعالى: {جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ}[المائدة: 97] أي جعلها مركزَ أمَّتِهم، وجعل هذه العبادة سببَ ترابطِهم لأنَّها تُنتج أمَّةً لا تمييزَ فيها، وتنتج أمَّةَ مساواة.
فما أعظمك يا شهر رمضان وأنت ظرفٌ للعبادات الثلاثة، ومنطلقٌ للعبادة الرابعة.
المحرومُ من حُرم بركتك.
اللهم لا تحرمنا أنوار شهر رمضان، ولا تحرمنا أسرار شهر رمضان، واجعلنا من عتقائك من النار.
أقول هذا القول وأستغفر الله.

أعلى الصفحة