الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى}
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
18/8/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الحاجة إلى النصر داخليًّا قبل النصرِ خارجيًّا
أعداء الإسلام والإنسانية يخطِّطون ليلَ نهار لتمزيق جسد الأمة الإسلامية، وقد علموا أنَّ وحدةَ الأمَّة هي سرُّ قوَّتها، وأن اعتصامَ هذه الأمة بحبل الله وعدمَ تفرُّقها يعني وجودَ قوَّةٍ للحقِّ، ووجودَ قوَّةٍ تحمي قِيَمَ الإنسانيَّة ومبادئها, ويعني سلطانَ العدالة ...
ومثل هذا لا يحلو لأصحاب المطامع والأهواء, الذين لا يدينون دين الحقّ، والذين دينُهم شهواتُهم ومطامِعُهم، وديدَنُهم ظلمُ العباد واحتقارُ الضعيف ونهشُ القويِّ له.
فسلطانُ العدالة المنبعثُ عن وحدة الأمة الإسلامية يلغي نهش القوي للضعيف، ويساوي بين الفقير والغني, ليكون الشعارُ المعلَنُ: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
من هنا, ومنذ اللحظة التي انطلقت فيها خناجرُ السبئية، ومنذ اللحظات الأولى في تاريخنا, تلعب اليهودية وأعوانها ومن هم على شاكلتهم لعبةَ التمزيق والتفريق.
ومما مارسته في حربها على هذه الأمة, أنها استهدفت قلبها ومركزها:
- فتوجَّهتْ إلى العاصمةِ الأولى للأمة الإسلامية: الحجازِ. فأوجدت فيها نِحلةً شاذَّةً متمرِّدةً على ثروة الأمة العلمية, والتي دامت قرونًا طويلة, فظهرت نـزعةُ اللامذهبية، وظهرت المصادَرَةُ لقول الآخر واجتهادِه، ورفضُه والتشبُّثُ بالرأي ... ودعم الغرب تلك الظاهرةَ دعمًا كبيرًا, حتى أصبحت سَرَطانًا يستشري في كلِّ بلاد العالم ويُدعَّمُ بالأموال.
- ووجَّهت أيضًا سهامها إلى عاصمة الأمة الإسلامية الثانيةِ: بلادِ الشام. فأوجدت فيها كيانًا صهيونيًّا باغيًا معتديًا لا علاقة له بالإنسانية من قريب أو بعيد, وأثارت الحروب والفتن، وها نحن نعيش من آنٍ لآخرَ ونرى ونسمع أعاجيب الفتن في بلاد الشام على أرض فلسطين أو الجولان أو أرض لبنان أو سَيناء ... وكلُّها بلادُ الشام.
- ووجهت سهامها إلى العاصمة الثالثةِ: العراق. وابتلعت ذلك البلد المسلم, وأثارت فيه النعرة القومية والنعرة الطائفية, ورسّخت من خلال الاحتلال المَقيت ظواهرَ إفساديَّة لإخراج هذا البلد الإسلاميِّ من موقفه الثابت على مبادئ الإسلام.
- وفي العاصمة الرابعةِ عاصمةِ الخلافة العثمانية. أثاروا النعرة القومية التي وقف من خلفها الدونما اليهود بحجة التـتريك، وحاربوا الإسلام حربًا معلنة، ومنعوا كلَّ المظاهر الإسلامية، ورفعوا شعاراتِ العلمانيَّة, حتى كاد هذا البلد المفعم بالإسلام والإيمان أن يكون غريبًا في موطنه.
ويريدون اليومَ, مع كلِّ المناورات التي تُسمعُ, إلحاقَ هذا البلد المسلم إلحاقًا تامًّا بالغرب ليكون عضوًا في اتحادهم، ولهذا ثمنٌ كبيرٌ من أكبر شروطه أن لا يبقى للإسلام صولة، وأن لا يبقى له حسبةٌ على أرضه، وأن يكون التحلُّلُ الأخلاقيُّ سائدًا، وأن يكون الإنسان فيه عبدًا لهواه.
وكل هذا هو من الحرب الدائرة في قلب الأمة الإسلامية.
وإذا نظرنا إلى أطراف الأمة: على أرض أندونيسيا أو باكستان أو أفغانستان أو البوسنة أو بلاد المغرب ... رأينا العَجَبَ العُجاب {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8].
الإسلام لا يحمل البغي ولا العدوان لكنه يدعو إلى المساواة والعدالة والأخلاق، ومثلُ هذا لا يروق لأصحاب الأهواء {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27].
ولكن هل ارتقينا كأمة إسلامية وكمجتمعات إسلامية إلى معايشة الحدث؟ فالمصيبةُ من الخارج نعرفها، ونتذكَّرُها, ونُذكّر بها، لكننا نعاني من الداخل أكثر مما نعاني من الخارج.
فسيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينما أوجد أمَّةً صحيحةً سليمةً من داخلها لم يقدر أحدٌ على اختراقها.
وأزمتُنا في الحقيقة اليوم هي من الداخل، وهي أكبرُ من أزمتنا من الخارج.
طبيعيٌّ وبدَهيٌّ أن يخطِّط أعداؤنا لنا, وأن يريدوا تمزيقَ صفوفنا، وتقسيمَ بلادنا, والاستيلاءَ على كلِّ ما نملكه حسًّا ومعنىً ...
لكن على مستوى الساحة الإسلامية أين نحن من معايشة هذه المعاني؟ وأين نحن من فهم المعادلة التي من خلالها نستطيع أن نوجد من الداخل قوَّةً؟
قال تعالى بنصٍّ صريحٍ: {إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] فهل هذه الآية تتوجه إلى الأفراد وحسب أم أنها تتوجه إلى المجتمعات ككل أيضًا؟
أقول: إنَّ الأمَّة المهزومة داخليًّا مستعدَّةٌ بالقوَّة قبل أن تكون مستعدَّةً بالفعل للهزيمة خارجيًّا، حتى قبل أن يدهمها عدوُّها.
فهل تطنُّون أنَّكم بمنأى؟
هل يظنُّ بلدٌ إسلاميٌّ في الأمة الإسلامية أنه بمنأى؟
إذا توهَّم هذا فهو مخطئ، فكل البلاد الإسلامية مستهدفة، وإذا بقينا نراقب ما يجري في لبنان وفلسطين فينبغي أن نعلم أننا على هذه القائمة، فهل ننتظر؟
وقبل أن نُعِدَّ أنفسنا إعدادَ السلاح علينا أن نعلم أن استعدادنا الآن هو استعدادٌ هشٌّ.
إذًا: فالأمَّة المهزومة داخليًّا مستعدَّةٌ بالقوَّة، أي بالكمون, فهذا الاستعداد للهزيمة كامنٌ فيها قبل أن يدهمها العدوُّ، فإذا دهمها ظهر ما كان كامنًا من الاستعداد للهزيمة فهُزِمت.
هذه حقيقة ..
والأمَّة المنصورة داخليًّا مستعدَّةٌ بالقوَّة قبل أن تكون مستعدَّةً بالفعل للنصر خارجيًّا.
وهكذا استطاعت قِلّةٌ قليلةٌ منصورةٌ من الداخل في الجيل الأول أن تزلزل القوى الكبرى التي كانت مهزومةً من الداخل.
لكن هل نعيش اليوم حالة الهزيمة أم حالة النصر في الداخل؟
وهل معنى النصر في الداخل أن ننادي بشعاراتٍ أم أنها معادلة ينبغي أن ننظر فيها من خلال تدقيقٍ وتشريحٍ عليمٍ لواقعنا، ومن خلال وضع حالتنا على الميزان لنتساءل: هل نحن مهزومون قبل أن يدهمنا العدوُّ أم أننا منصورون؟
هل الاستعداد الكامن فينا استعدادٌ للهزيمة أم استعدادٌ للنصر؟
وأذكر لكم من علامات الهزيمة الداخلية, على سبيل المثال لا على وجه الحصر, أربع مفردات.
وأنا لا أتحدث فيها على مستوى الأفراد، فقد توجد في أفرادٍ, مع عدم وجودها كظاهرة عامَّةٍ في المجتمع, وفي تلك الحالة يكون ذلك الفرد شاذًّا عن مجتمعه، ويبقى المجتمع منتصرًا, لكن حينما تصبح هذه العلامات الأربع علاماتٍ كبرى في المجتمع وظاهرةً اجتماعيَّةً عامَّةً فهذا يعني أن المجتمع مهزوم داخليًّا قبل أن يهاجمه العدوُّ, فإذا هاجمه ظهر عليه هذا الاستعداد.
هذه العلامات هي:
1- الخوف.
2- التشرذم.
3- الضبابية.
4- التظالم.
فإذا أصبح الخوف ظاهرة عامة, وإذا أصبح التشرذم ظاهرة عامة، وإذا أصبحت الضبابية ظاهرة عامة، وإذا أصبح التظالم ظاهرة عامة, فاحكم على المجتمع بأنه مهزوم من داخله مهما جعجع وقال: سأنتصر.
وإذا تحرر المجتمع من هذه العلامات الأربع يكون منصورًا بالقوة قبل أن يكون منصورًا بالفعل.
1- مفردة الخوف:
نقرأ في القرآن الكريم خطابَ كليمِ الله موسى عليه الصلاة والسلام لقومه حين قال لهم:{يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 21-22].
كان سيِّدنا موسى عليه الصلاة والسلام يخاطب مجتمعًا ولا يخاطب فردًا، ويجيبه المجتمع، إذا هي ظاهرةٌ عامَّة.
{قَالُوا يا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} فقد أكل الخوفُ قلوبَهم وهم ينظرون إلى بشرٍ، فيه ما فيهم، صفاته هي صفاتهم، ويملك الجوارح التي يملكونها ... لكنهم مصابون بالخوف منه.
إنَّ القيمة الإيمانية التي ربَّانا الله سبحانه وتعالى عليها أن لا نخاف إلا جبَّارًا واحدًا، وأن لا نرهَبَ إلا جبَّارًا واحدًا، فلا نخاف جبَّارين، كان هؤلاء الجبَّارون أصحابَ أموال، أو أصحاب سلطان ...
فالذي يتربَّى على خوف جبَّارين مهزومٌ من الداخل، والذي لا يخاف إلا الجبَّار الواحد منصورٌ في الداخل.
قال الصحابيُّ: يا رسول الله, مَا يُضْحِكُ الرَّبَّ مِنْ عَبْدِهِ؟ قَالَ: (أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْعَدُوِّ حَاسِرًا), أي: أن يدخل بين صفوف العدوِّ من غير درع.
وما كان منه إلا أن دخل بعد أن رمى الدرع فقاتل حتى قتل.
ومن رمى الدرع فإن شهادته محقَّقة, لأن السهام والرماح ستأتيه من كلِّ جانب.
شتَّان بين من يقول: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ} وبين من يدخل لأنه يطلب الجبَّار الواحد.
والجبَّارُ اسمٌ له وجهان: وجهٌ جماليٌّ يعني جبر الكسر، ووجهٌ جلاليٌّ يعني قصم الجبابرة.
إذًا إنَّ المجتمع الذي يعيش الخوف، ويخاف الضعيف فيه القوي، ويخاف القوي فيه الأقوى، مجتمعٌ مهزومٌ من الداخل.
أما المجتمع الذي تقف فيه امرأةٌ لتقول لخليفة المسلمين والحاكمِ الأعلى للأمة الإسلامية: أخطأتَ يا عمر, فيقول عمر: أخطأ عمرُ وأصابت امرأة، فهو مجتمعٌ لا يُهزم.
المجتمع الذي يقف فيه سيِّدنا عمر على المنبر ويقول: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا، فيقف أعرابيٌّ فيه ويقول: لا نسمع ولا نطيع، ميَّزْتَ نفسك علينا بكذا وكذا، فيفصِّل له سيِّدنا عمر ويشرح له, فيقول له: الآن نسمع ونطيع, هو مجتمعٌ لا يُهزم.
مجتمعٌ يقول فيه سيِّدُنا عمر: ماذا تصنعون إذا رأيتم اعوجاجي؟ فيقولون: نقوِّمك بالسيف، فيقول: الحمد لله الذي جعل في أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم من يقوِّمُني بالسيف إذا اعوججتُ, هو مجتمعٌ لا يُهزم.
مجتمعٌ كهذا هو منصورٌ من الداخل لا يُهزم, لأنه ليس مجتمعَ الخفافيش ولا مجتمعَ الأرانب.
أما أن يعيش مواطنٌ على أرضه حالة الخوف في كل لحظة من أن يأتي العدوُّ الخارجي إليه، لأن قيمة الشهادة غائبة عنده, فهو مواطن في مجتمع مهزوم.
ومجتمعٌ يخاف فيه الأعزلُ المجرَّدُ من سلاحه من السلطان الذي يملك السلاح ويريد إذلاله, مجتمعٌ مهزومٌ.
والأسرة التي يعيش فيها الولد خائفًا من استبداد أبيه الذي لا مرجعية لاستبداده ولا منطقية في هيمنته, أسرةٌ مهزومةٌ.
ومجتمعٌ فيه موظَّفٌ يخاف من مديره المنحرف، ويخاف أن يستعمل صلاحياته لإرهابه فتراه خائفا منه، مجتمعٌ مهزومٌ.
كاتبٌ يخاف من كلمةٍ يكتبها..وعالمٌ يخاف من كلمةٍ يقولها..ومثقَّفٌ يخاف من حوارٍ يحاور به..
مجتمعٌ فيه شعبٌ هذه تركيبته يعيش على الدوام عقدة الخوف، من أجهزة الأمن، أو الاستخبارات، أو السلطان ... مجتمعٌ مهزومٌ.
فإذا لم يعش من الداخل حالة التحرُّر من الخوف، حتى يكون كلُّ مواطنٍ فيه حرًّا من داخله لا يخاف إلا الله، فليس مجتمعًا قويًا.
فرنسا لم توجِد الجمهوريَّةَ الفرنسيَّةَ إلا عندما ثارت على الخوف، وكلُّ المجتمعات التي نالت حرِّيتَها استطاعت أن تشهد ولادتها حينما تحرَّرت من الخوف ، فصارت منصورةً من الداخل.
أما أن نُصِرَّ على مماثلة الأرانب ومشاكلتها, أومماثلةِ القنافذ ومشاكلتها, فسنبقى في الهزيمة الداخلية قبل أن يدهمنا عدوُّنا الخارجي, مهما جعجعنا بالشعارات, فالشعارات لا تصنع إنسانًا.
2- مفردة التشرذم:
قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ} ربٌّ واحدٌ {فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92], وقال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] فصار لكلِّ واحدٍ منهم دعواه، فبعضهم يتشرذم تشرذمًا قوميًّا، وبعضهم يتشرذم تشرذمًا عرقيًّا, وبعضهم يتشرذم تشرذمًا مذهبيًّا، وبعضهم يتشرذم تشرذمًا طائفيًّا ...
نحن أمَّةٌ منفتحةٌ فكريًّا، ولا تمنعنا ثقافتنا من اللقاء مع الجميع، حتى وإن خالَفَنَا في المعتقد أو في الرأي أو في الثقافة ... فلدينا الاستعداد للتعايش معه لأننا نَكِلُ حسابه إلى الله، طالما أنه منضبط معنا سلوكيًّا، وطالما أنه لا يعتدي علينا {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].
هذه هي ثقافتنا: ثقافة الانضباط السلوكيّ.
ندعو المخالِفَ ونحاوره بالتي هي أحسن, لكننا في النتيجة أصحابُ تعايشٍ معه، طالما أن الذي يضبطنا إنما هو السلوك المشترك الذي يحترم فيه كلٌّ من أفراد المجتمع خصوصيَّةَ الآخر {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 21-22] .
وهكذا كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدةَ الضبط السلوكيِّ والتعايشِ, أوَّلَ ما وصل إلى المدينة المنورة مع اليهود، وكان في المجتمع المنافقون أيضا.
نحن كأمة لا نعاني في ثقافتنا من التشرذم الثقافيّ بل نحاربه، ونحارب كذلك التشرذم الطائفيّ، ونحارب التشرذم القوميّ, ونعيش الشعور الإنساني، لكنَّ عدوَّنا يحاول أن يؤطِّر التشرذم ليصل إلى المخطَّط الذي وضعه, الذي فيه كردستان وشيعستان وسنّستان و الخ... في تقسيماتٍ يُستـثمَرُ فيها أصحابُ العقول الضعيفة، الذين لم يرتقوا فوق ذلك التشرذم.
3- مفردة الضبابية:
والضبابية تعني عدمَ الوضوح، وهي غريبةٌ عن ثقافتنا معاشرَ المسلمين، فالله سبحانه وتعالى ذمَّ المنافقين واليهود لأنهم عاشوا تلك الضبابية ولم يكونوا أصحاب وضوح، قال تعالى: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: 14].
وقال: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ قَالُواْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} [البقرة: 96].
وقال سبحانه: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِيَ أُنـزلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ} [آل عمران: 72].
منهج وضوحنا مُعبَّرٌ عنه بقوله سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] حيث أعلن عن هويته، وعن مبدئه، وعن التزامه ...
ألا يعيش عددٌ كبيرٌ في ظاهرة الضبابية؟
فمثلاً: أستاذٌ جامعيٌّ له مركزه المرموق يخجل أن يعلن عن انتمائه للإسلام.
وموظَّفٌ أو مسؤولٌ أو صاحبُ منصب أو ذو مكانة مرموقة يخاف أن يعلن عن هويَّته، فهو يعيش الضبابيَّة، ويقول: دعوني مع ربي, فلا أحبُّ أمام الناس أن يُعرفَ أنني صاحبُ التزامٍ بالإسلام، لاسيما وأن العالم المادِّيَّ يشير اليوم بأصابع الاتِّهام إلى كلِّ مسلم ويقول فيه: إنه أصوليّ وإرهابيّ ورجعيّ.
إنه امتحان.
ولم يكن واحدٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخجل من هذا الانتماء.
4- مفردة التظالم:
إن المجتمع المتراحم منصورٌ من الداخل، أما المجتمع المتظالم فمهزوم.
المجتمعُ الذي يحمل فيه أميرُ المؤمنين على كتفه كيسًا من الطحين إلى عجوزٍ هو مجتمعٌ متراحم لا متظالم.
والمجتمع الذي يقف فيه أميرُ المؤمنين سيِّدُنا عليٌّ رضي الله تعالى عنه أمام القاضي وخصمُه يهوديٌّ، فيقول القاضي لليهوديّ: ما تقول في هذا الأمر يا يهودي؟ ويقول لسيِّدِنا عليٍّ: ما تقول يا أبا الحسن؟ فيقول سيِّدُنا عليٌّ: أنت لا تصلح للقضاء، إذ لم تسوِّ بيني وبين خصمي إذ قلتَ له: يا يهوديّ, وكنَّيتني فقلتَ لي: يا أبا الحسن ... مجتمعٌ هذا وصفُه هو مجتمعٌ منصور.
ويرى سيِّدنا عمر رضي الله عنه يهوديًّا كبيرًا في السنِّ يسألُ الناس، فيقول له: ما شأنك؟ يقول: تطلبون الجزية، وأنا لا أملك دفعها، فأنا أسأل الناس حتى أعطيَكم الجزية، فيبكي سيِّدنا عمر، ويقول: ما أنصفناك.
هكذا يكون التراحم وانتفاء التظالم.
فحين لا يكون التاجرُ في المجتمع ظالمًا، ولا يكون البائعُ ظالمًا، ولا يكون الصانعُ ظالمًا، ولا يكون متعهِّدُ البناء ظالمًا، ولا يكون شرطيُّ المرور ظالمًا، ولا يكون الحاكمُ الأعلى ظالمًا، ولا يكون المسئولُ أو الوزيرُ أو صاحبُ المنصب ظالمًا، وحينما تُخَفَّفُ عن الناس الضرائب ... يكون المجتمع منصورًا.
شتَّان بين نظام الزكاة والضرائب، فمتى يفهم هذا مَنْ يفرض الضرائب على الناس؟
الزكاة تؤخذ ممِنَ يملك المال، أما الضرائب فتؤخذ ممن يملك وممن لا يملك، وأيُّ ظلمٍ أشدُّ من هذا؟
ويتحدَّثون عن فضائل نظام التأمين، والتأمين الحقيقيُّ في المجتمع هو وجودُ التكافل الاجتماعيّ فيه، لكننا ننعق ونصيح كما تصيح الببغاء مقلِّدين ما يُفعَلُ في الغرب، ولو وُجد نظام التكافل الاجتماعيِّ سنجد أن الفقير حين يقع في مصيبة يقوم كلُّ المجتمع بإنقاذه، فهذا هو التأمين الحقيقي.
شركات التأمين اليوم هي عبارةٌ عن مؤسسات استثماراتٍ مالية خسيسة، ومع الأسف يبحثون عن بعض الوجوه الإسلامية التي تبرِّر مثل هذا، ويأخذون منها فتاوى شرعيَّة.
أصلِحِ المجتمعَ وسترى أنَّه يملك التأمين، الغارم، والمَدين، والفقير، والمسكين، وابن السبيل ... وكلهم أمانةٌ في عنق المجتمع.
حتى النقابات, التي كانت في الماضي تُشكَّلُ للدفاع عن أصحابها, أصبحت تمارِسُ دور الدولة، ويَقرأ المـنـتسبون للنقابات من آن لآخر: "يُشطب اسمُ فلان إن لم يفعل كذا"، وما هذه إلا لغةٌ تدلُّ على انحدارنا وانحطاطنا، وتدلُّ على أننا لا نفقه معنى التكامل ولا التكافل ولا الرقيِّ الإنسانيِّ الذي ارتقى بنا من خلاله ربُّنا سبحانه.
أقول بصراحة ووضوح على شبكة الإنترنت الدولية العالمية, وليسمعها كلُّ إنسان محليًّا وخارجيًّا: إذا أردنا أن نتهيَّأ لعدوِّنا، وإذا أردنا أن ننتصر, فعلينا أن ننتصر داخليًّا قبل أن ننتصر خارجيًّا، وعلينا أن نتغيَّر، وحينما نتغيَّر وينتفي الخوفُ والتشرذمُ والضبابيةُ والتظالم .. أتحدَّى أن يقدر أبناءُ صهيون على اقتحام بلادنا، وأتحدَّى أن يفكِّر مَنْ يقبع في البيت الأسود في التخطيط لتقسيم بلادنا، وأتحدَّى أن يوظفوا أُجَرَاءَ لتقسيم هذه البلاد لو أننا تماسكنا وتغيَّرْنا.
حربُنا الحقيقيَّةُ هي الآن، وقبل أن تهاجمَنا طائراتُ "F- 16" لا قدَّر الله, وهي الحرب في الداخل.
وذلك حينما نقولُ كلمةَ الحقّ، ونفعلُ ما ينبغي أن يكون...
لِنَعُدْ إلى قِيَمنا, وإلى سُمُوِّنا, وإلى مقاصدنا التي ربّانا عليها الإسلام، وهي التي تجعلنا أصحابَ الإنسانيَّة رغمًا عن أنف الذين يخاطبوننا بغير ذلك.
نحن الذين نُصدِّرُ مبادئ الإنسانية إليهم، ونحمل الرحمة في قلوبنا، ونحمل الأخلاق في سلوكنا، ونتَّسع لمن لا يتَّسع لنا ...
سون ننـتصر إذا تغيَّرنا، وإذا أوجدنا مشروع تغيير، لا شعارات تغيير، فشعارات التغيير لا تغني شيئًا، أما مشروع التغيير فإنه يُنتِجُ نصرًا.
وعندها نكون منصورين من الداخل, ومستعدِّين للنصر إذا داهمنا عدوُّنا, وإلا فنحن مهزومون حتى وإن لم يداهمنا عدوُّنا.
رُدَّنا اللهمَّ إلى دينك ردًّا جميلاً, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
أعلى الصفحة