الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
من معاني الربيع في مولد الحبيب المصطفى
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
7/4/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
من معاني الربيع في مولد الحبيب المصطفى
الحمد لله الذي أنعم علينا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وخليله، خير نبي اجتباه، وهدى ورحمة للعالمين أرسله.
اللهم صل على سيدنا محمد حبيبك المحبوب، وعلى آله وصحبه وسلم تسلميًا، أوصيكم عباد الله وإياي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولًا قولًا سديدًا ؛ يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطعه الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا.
أما بعد:
ها نحن بين يدي شهر الربيع الذي فيه أشرقت الدنيا بوجه سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ومع إطلالة الربيع وشوق القلوب إلى لقاء وجه من ولد فيه، كنت أجول بفكري متسائلًا:
ما معنى الربيع؟.
وما الصلة بين الربيع ومن ولد في الربيع؟.
والعرب تقول فيمن ولد في الربيع: رِبْعِي.
ولهم اهتمام كبيرٌ بلفظة الربيع ودلالاتها. فساقني هذا إلى اعتماده موضوع بحث.
وأختار من دلالات كلمة الربيع في لغة العرب، خمس دلالات.
فلفظة الربيع أيها الإخوة تفيد في لغة العرب الاعتدال.
فهم يسمون الزمان المعتدل في السنة ربيعًا، صادف ذلك وقت الخريف أو وقت الربيع، وثمة إجماع عند العرب على أن الخريف يسمى ربيعًا، وما هذا إلا لاعتدال جوه بين الحرارة والبرودة.
فإذا قالوا ربَعَ يومُنا فهو اليوم الذي لا يكون فيه حر ولا برد.
والربْعَةْ والرَبَعَه: الرجل الذي لا يوصف بالطويل ولا بالقصير.
أما الدلالة الثانية فهي الغيث، وأكثر بلاد العرب كانت كما تعرفون بادية وصحراء، فكانوا يسمون غيث السماء ربيعًا.
فإذا أبصروا في الشتاء الندى سموه ربيعًا.
وإذا نزل الغيث والمطر قالوا جاء الربيع.
ويطلقون على الجداول التي يسير الماء فيها ربيعًا، فالربيع اسم للجدول والنهر.
وإذا قالوا أرْبَع القوم أي وصلوا إلى محل الماء والنبات.
والربيعةُ الروضة.
والمَرْبَع الذي جمعه مرابِع، فهو المكان الذي يقيمون فيه وقت الربيع، حيث الماء والنبات والخصب،.وكم كان شعراؤهم يتغنون بالمرابع.
أما الدلالة الثالثة من لفظة الربيع في لغة العرب فهي التعميم وانتفاء التخصيص، ففي حديث الاستسقاء الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء:
(اللهم اسقنا غيثًا مَرِيعا مُرْبِعًا)
أما المَـريع فهو المخصب، وأما المرُبِع فهو العام في كل مكان، فإذا نزل الغيث على أرض بعينها ولم يتجاوز ذلك فاضطر بسبب ذلك القوم إلى الانتقال من مكان إلى مكان لا يسمى مربعًا، وإذا نزل عامًا على كل أرض فيسمى مربعًا.
فالمربع العام المنتشر في كل مكان.
وأما الدلالة الرابعة في اللغة من لفظة الربيع فهي الأولية: فرِبْعِيُّ كل شيء أوله، والرِّبعي كما تقدم نسبة إلى الربيع.
أما الدلالة الخامسة فهي: الراحة، ومنه ما ورد في دعائه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:
(اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي)
والمعنى اجعله راحة قلبي وسكينته وطمأنينته وسروره.
وقلت لابد أن يكون بين هذه الدلالات اللغوية ومن ولد في الربيع صلوات الله وسلاماته عليه مناسبات كثيرة، لأن الله سبحانه وتعالى اختار زمن ولادته، فكان زمن ولادته في شهر نيسان أبريل، في مثل هذا الشهر من الدورة الشمسية، وفي شهر الربيع القمري، الربيع الأول، فلابد أن يكون هنالك مناسبات.
وإذا بدأت من حيث انتهيت، من الدلالة الخامسة صاعدا إلى الدلالة الأولى أقول:
كانت الراحة كل الراحة في مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأن البشرية عند مولده صلوات الله وسلامه عليه كانت متخبطة في حالة من التعب الشديد، فالشرق متخبط بين عبادة النار وعبادة الأصنام وعبادة الكواكب، وعبادة البهائم، وعبادة الغريزة...، والغرب متخبط في خلط المسيحية بالوثنية خلطًا يصل معه الإنسان إلى حالة من الحيرة وهو يجد كومة من التناقضات.
وقد أضافت الإغريقية وثنيتها إلى المسيحية، واختلطت أوثان الرومان بالعقيدة التي كان أصلها صافيًا صرفًا.
وبين الشرق والغرب كانت اليهودية، وكان أبنائها يعبدون المصلحة، ومن أجلها يُحرفون كلام الله...
فكان مولده صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بداية عصر راحة الأرض من الاضطراب الفكري والسلوكي.
فإذا رحلنا إلى الدلالة الأخرى دلالة الأولية: وجدنا أن مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يمثل ولادة أول الخلق منـزلة عند الله.
جاء في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد القوم يوم القيامة).
وفيما رواه أبوا داود:
(أنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ وَأَوّلُ مَنْ تَنْشَقّ عَنْهُ الأرْضُ وَأَوّلُ شَافِعٍ، وأَوّلُ مُشَفّعٍ)
فإذا انتقلنا إلى الدلالة الثالثة دلالة العموم أو التعميم وانتفاء القيد والحصر فإننا نجد أن مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الشهر كان يمثل مولد أول رسول يرسل إلى كل الخلق.
وقال الله سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) الأعراف: 158
فانتفى التخصيص الذي كان بإرسال كل رسول إلى قومه، أو إلى أرض بعينها.
وجاءت رسالته صلى الله عليه وآله صحبه وسلم عامة إلى جميع الناس شرقيهم وغربيهم إلى كل قوم وإلى كل لسان.
وليس من عجب أن يسوق الله سبحانه وتعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفارسيّ سلمان ليكون عند قدميه، ليكون إمام أهل الشرق من أمة الإسلام، وليسوق إليه صهيبًا الرومي ليكون إمام كل غربي من أمة الإسلام، وليسوق إليه بلالًا الحبشي ليكون إمام أمة الإسلام في إفريقيا السوداء، فاختُصر العالم في رموز، وجلسوا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين له.
روى البزار والطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(بعثت للناس كافة الأحمر والأسود وكان كل نبي يبعث إلى قريته).
فإذا انتقلنا إلى دلالة الغيث والإغاثة نجد أن مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو مولد من يستغيث الناس به يوم القيامة، فهو غيث الناس يوم القيامة، وذلك حين يلجئون إلى كل الرسل والأنبياء ثم تكون محطتهم المنجدة والمنتِجة بين يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .
جاء في صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم:
(إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
ووردت في روايات أخرى مفصلة تصف جولة الناس من آدم إلى نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد صلى الله عليهم جميعًا وسلم تسليمًا كثيرا.
ومعلوم من الروايات الأخرى أن الذي أغاثهم بشفاعته هو محمد صلى الله عليه وسلم.
أما إذا انتقلنا إلى الدلالة الأولى التي ذكرناها وهي دلالة الاعتدال: فإننا نجد أن مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يمثل ولادة من كان الاعتدال في خَلْقه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ومن كان الاعتدال في خُلُقِه صلوات الله وسلاماته عليه، ومن كان الاعتدال في شريعته صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
وآتي ببعض الأمثلة والنماذج فمن الأمثلة على اعتدال خَلْقه صلى الله عليه وسلم وبنيته الجسمانية ما ورد في الحديث المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم:
كان  ربعة من القوم: ليس بالطويل البائن، ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق ولا بالآدم (شديد السمرة) وليس بالجَـعْدِ القطِطِ ولا بالسَبِط.
فلم يكن شعره صلى الله عليه وسلم جعدًا ولا مسبلًا ناعمًا إنما كان معتدلًا بين هذا وذاك ولم يكن لون بشرته صلى الله عليه وسلم شديد البياض ولا شديد السمرة، وكان الاعتدال في لون بشرته، وكان الاعتدال في طوله.
وهو أنموذج يعطي رمزًا وإشارة فالاعتدال وصف عام له وهو مع ذلك يصل إلى بنيته الجسدية صلى الله عليه وسلم.
فإذا انتقلت إلى خُلُقه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كنت تجده صلى الله عليه وسلم يضحك، لا تراه عابسًا لكنك لا تراه مقهقهًا إنما كان ضحكه اعتدالًا فكان ضحكه صلى الله عليه وسلم تبسمًا.
روى الترمذي في الشمائل من حديث هند بن أبي هالة: (جل ضحكه صلى الله عليه وسلم التبسم)
وروى الترمذي من حديث عبد الله بن الحارث: (ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسمًا)
وأخرج الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين تقول: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعًا ضاحكًا إنما كان يتبسم.
ولئن صح أن أقول أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يغلب عليه العبوس والحزن، وإن عيسى عليه الصلاة والسلام كان يغلب عليه التبسم فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمثل الاعتدال بين هذا وذاك.
فكان الاعتدال في خلْقه الجسدي وكان الاعتدال في خلُقه أيضًا.
فإذا انتقلت إلى الاعتدال في شريعته صلى الله عليه وسلم فإنك ترى أحكامًا كثيرة لا حصر لها ولا عد وتقرأ نصوصًا من الآيات والأحاديث كلها تصب في معنى الاعتدال الشرعي:
اقرؤوا قوله تعالى:
(وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الأعراف: 31
فهو يأمر بالاعتدال في العادات.
ومن نماذج الاعتدال في العبادات قوله تبارك وتعالى:
(لاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا) [الإسراء: 29] وهو الاعتدال في الإنفاق.
وكذلك قوله تعالى:
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل: 20]
وهو الاعتدال في قيام الليل.
أي اجعلوا العبادة متوازنة مع المعاملة, فهناك من يريد الرزق, وهناك من يريد الجهاد, فليس لون العبادة واحدًا ممثلًا في قيام الليل.. فالرزق حين يطلب من طريقه الحلال عبادة, والجهد الذي يُبذل في سبيل الله عبادة, والمريض الذي يتحامل على نفسه ليقف بين يدي الله في الصلاة؛ تُضاعف له العبادة أضعافًا؛ لأنه يتمنى أن يكون بدنه معينًا له ليؤدي فوق ذلك.
وهكذا تظهر في الأحكام الشرعية في المعاملات والعبادات والعادات, ظاهرة الاعتدال.
حتى في القتل الذي هو قصاص, حين تقرأه في القرآن, تقرأه فيه معنى الاعتدال.
(وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ) [الإسراء: 33]
لأن القصاص ربما يختلط بالانتصار للنفس, وشتان بين من يقيم حدًا من حدود الله أوحكمًا, ومن ينتصر لنفسه.
وتقرأ بعد ذلك قوله تعالى في نفس معنى القصاص والاعتدال فيه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [البقرة: 178]
فقد يعفو صاحب الحق, وإذا عفا صاحب الحق أدى من يقابله إليه إحسانًا, فتتجلى الأخلاق في مثل هذا الموقف العصيب.
ونقرأ في حديث البزار, عن جابر مرفوعًا إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
(إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق، فإن المنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرا أبقى)
فالذي يريد أن يعجل بما لا تتحمله طاقته, ولا طاقة مَركوبه؛ لا يقطع في سفره الأرض, ولا يبقي مركوبًا.
ونقرأ في صحيح البخاري, في معنى الاعتدال أيضًا, في ديننا الإسلامي وشريعتنا السمحاء الغراء الذي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب المولد.
يقول صلى الله عليه وسلم:
(سَدِّدُوا وَقَارِبُوا..)
اتجهوا إلى الاتجاه المستقيم, لكن على مبدأ قاربوا؛ لأنكم لا تستطيعون ادعاء العصمة.
(وَاغْدُوا وَرُوحُوا..)
اجتهدوا في العبادة والمعاملة وفق أمر الله سبحانه وتعالى, غدوًا ورواحًا, صباحًا ومساء.
(وَشَيْءٌ مِنْ الدُّلْجَةِ..) أي اغتنموا وقتًا من الليل.
(وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا) يعني الهوينا الهوينا, فإياكم والإفراط.
وفي حديث أخرجه البزار عن طلحة, يقول صلى الله عليه وسلم:
(من اقتصد أغناه الله..) أي من تعامل في ماله بالاعتدال, في ملبسه, وفي مأكله, وفي مسكنه, وفي علاقاته..
(ومن بذَّر؛ أفقره الله) وهو حديث عجيب يمثل عنوانا في علم الاقتصاد.
فالذي يتعامل في حركة المال باعتدال, يقوده ذلك إلى الثراء المحمود, والذي يُبذِّر, فيخرج ماله ويحرِّكه حركة لا ضابط لها, ولا توظيف لها؛ فإنه يصل إلى الفقر, والله سبحانه وتعالى جعل المال سببًا من أسباب قيام الأمة.
(وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا) [النساء: 5]
فكما أن الإيمان والعمل الصالح مطلوب, فإن الأسباب المادية مطلوبة أيضًا, ولابد للمؤمن من البحث عنها والأخذ بها.
وروى ابن ماجة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ, فقال:
(ما هذا السرف؟) أي لماذا تسرف في وضوءك؟
فقال سعد: أفي الوضوء إسراف؟
أي أنا أبالغ في تطهري يا رسول الله, فكيف أكون مُسرفًا, إنني أريد أن يزداد نوري بالوضوء يا رسول الله.
قال: (نعم, وإن كنت على نهر جارٍ)
فالأمر لا يتعلق بشُح الماء, إنما ليعلِّمنا الاعتدال في كل فعل, حتى ولو كنا قرب النهر الجاري..
أنت مسؤول عن سلوكك, فينبغي أن يكون سلوكك الشرعي معتدلًا.
وروت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري رحمة الله عليه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الأعمال أحب إلى الله؟
قال: (أدومها وإن قل واكلفوا من الأعمال ما تُطيقون)
أي لا تدخلوا في عمل لا تطيقونه.. فليكن الاعتدال منهجكم.
ومن تخرَّج من مدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم, حين نسمع ما قالوه؛ نجد أنهم قد اتخذوا الاعتدال منهجًا, وأضرب لكم مثالًا:
روى الترمذي في سننه, عن سيدنا علي رضي الله تعالى عنه, وهو التلميذ النجيب في مدرسة الحبيب صلى الله عليه وسلم:
(أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا.) اعتدل حتى في حبك وبغضك.
بعد كل هذا, كيف يجرؤ أعداء الله على وصف الإسلام بالتطرُّف!!
بعد كل هذا, كيف يخطر لبال جاهل لا يعرف من هو محمد صلى الله عليه وسلم, ولا يعرف ما هو دين محمد صلى الله عليه وسلم, ولا يعرف خَلقه وخُلقه.. أن يصف الإسلام بالتطرف أو العنف!!
لا.. إن كل حكم شرعي في إسلامنا يُمثِّل قمة الاعتدال.
فإذا نظرت إلى أحكام الإسلام في العبادات؛ رأيت اعتدالًا.
وإذا نظرت إلى توجيهه في العادات؛ رأيت اعتدالًا.
إذا نظرت إلى أحكامه في الاقتصاد والمال؛ رأيت اعتدالًا.
إذا نظرت إلى أحكامه في السياسة الشرعية؛ رأيت اعتدالًا.
إذا نظرت إلى أحكامه في الأسرة والمجتمع؛ رأيت اعتدالًا..
فكيف يُوصف إسلامنا بالتطرف!
إسلامنا هو مظهر الاعتدال الإنساني, وينبغي على من يدَّعي محاربة العنف؛ أن يبحث عمن يفهم الإسلام؛ ليكون مظهر قدوة وأسوة.
فلن تحاربوا العنف من خلال الوسائل الغبية الجاهلة, التي تعتمد العنف, فالعنف لا يُقابَل بالعنف؛ إنما يُقابَل جهلُ الجاهل بعلمِ العالم.
لكن متى سيفهمون؟
هذا إن أرادوا أن يفهموا.
أما إن كانت القضية مجرد لعبة سياسية قذرة, يُراد من خلالها التضييق على الإسلام والمسلمين, ويُراد من خلالها إقصاء المسلمين, ويُراد فيها ألا يكون للإسلام والمسلمين كيان مرموق..؛ فالأمر عند ذلك مختلف؛ لأن أصحاب الأهواء والمصالح لا دواء لهم حتى يتخلوا عن أهواءهم إلى عبوديتهم لله سبحانه وتعالى.
يا هؤلاء أينما كنتم, يا من هو قريب أو بعيد:
افهموا إسلامنا, واعرفوا من هو محمدنا, تجدون أن سعادتكم وراحتكم هي في دينه، وسيأتيكم عندها كل خير من كف سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
فكفاكم جهلًا وغباءً وطغيانًا وعدوانًا..
آن لمن يدَّعي أنه ينصر الإسلام, أن ينصره فعلًا, لا من خلال الشعارات, ولا من خلال العبارات, إنما من خلال السلوك.
فنحن اشتقنا.., والأمة كلها اشتاقت, إلى رؤية الإسلام سلوكًا,واشتاقت إلى رؤية الإسلام تطبيقًا, في السياسة, وفي الاجتماع, وفي الاقتصاد...
لا تخافوا.. فالإسلام لا يُصدِّر إلا الخير.
ولا يُصدِّر إلا النور.
فافهموا إسلامنا, وبعد هذا قولوا ما تريدون.
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًا جميلًا, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة