الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
الحج فرصة سلام عالمي لكنها لا تستثمر
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
6/1/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الحج فرصة سلام عالمي لكنها لا تستثمر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: وَالْفَجْرِ ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ، هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ ، أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ،الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) الفجر: [1-13].
إذا قرأنا هذه الآيات، دون ملاحظة المناسبات بين الآية والآية ، لن ندرك حكمة خطاب الله سبحانه وتعالى لنا فيها.....
وتدبُّر القرآن والوصول إلى معانيه التي تتحول في الإنسان إلى تطبيقات لا يكون بفهم الآيات مقطعة، إنما بفهم معناها موصولاً.
فما الذي يربط بين الفجر والليالي العشر والشفع والوتر، والليل إذا يسر؟.
ما الذي يربط بين هذه التي يقسم الله سبحانه وتعالى بها تأكيدا وإقناعا لكل صاحب عقل، أو"لكل ذي حجر"يتأمل بعقله.؟.
ما الذي يربط بينها وبين الآيات بعدها: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ)
(وَالْفَجْرِ) هو انفجار ضياء بعد ظلمة.
والظلمة والضياء في الفجر حِسِّيان فهو نور يأتي بعد ظلام.
والظلمة منها ظلمة حسية ومنها ظلمة معنوية.
أما الظلمة الحسية فتأتي بعد غياب الشمس وإقبال الليل، وأما الظلمة المعنوية فتكون حين تغيب شمس الهداية، وإذا غابت شمس الهداية عاش الإنسان في ظلام البغي، والباطل متخبطاً في الضياع لا يهتدي إلى طريقه ولا يتعرف إلى منافعه..
) وَلَيَالٍ عَشْرٍ)
وهي ليالي ذي الحجة، أو ليالي العشر الأخير من رمضان.
والمقصود فيها هو انفجار النور المعنوي في القلوب وذهاب الظلمة المعنوية منها ، فالقلوب في هذا العشر تتوجه إلى الله سبحانه وتعالى وتقبل عليه، فإذا توجهت إلى الله تعالى انزاحت ظلمة الأكدار، وزال تأثير وهم الأغيار، واستشعر الإنسان وهو في هذه الخصوصية الزمانية بقربه ووصاله، وإقباله على الله ، وإقبال الله تعالى عليه.
فهو فجرٌ أيضا لكنه معنوي في الفرد الإنساني يكون بزوال ظلمة معنوية وإقبال نور معنوي.
فالقسم الأول بفجر حسي، والقسم الثاني بفجر معنوي.
وانتقل بعدها في القسم من الفرد إلى الجماعة فقال سبحانه وتعالى:
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)
أما الشفع فإنه كل ما خلق الله سبحانه، لأن الله سبحانه خلق المخلوقات على نظام الشفع، والزوجية.
قال تعالى:
(وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات: 49].
فالشفع كل المخلوقات، أما الوتر فإنه الله.
ولماذا يذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات الشفع والوتر؟.
إنه يبين لنا أن الخلق ظلمة إن نحن استندنا إليهم، فمصدر النور هو نور السماوات والأرض.
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)[النور: 35].
فإذا أردت أن ترى الشفع فانظر إلى السماوات والأرض، وإذا أردت أن تنظر إلى الوتر انظر إلى من نوَّرهما، الذي تستمد المخلوقات كلها منه.
الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهور الحق فيه.
الخلق كلهم ضعف وفاقة.
(يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
فالذي يستند إلى الشفع ناسيا الوتر سيبقى في ظلمانيته وظُلمه، والذي لا يلاحظ الشفع إلا مع الوتر فإنه يكون منوراً ومؤيداً.
الذي يريد الدخول بين الناس في الوظائف ، والمسؤوليات، دون أن لا يلاحظ أنه محتاج إلى الوتر سبحانه فإنه ظلماني، ولا تزول ظلمة جهالته حتى تدخل إلى باطنه أنوار المعرفة ، فلا يلاحظ الشفع إلا مع الوتر.
قال أبو بكر رضي الله عنه في الغار: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما).
ما ظنك باثنين ؟. هما شفع، الله ثالثهما الذي هو الوتر.
وفرِّقوا في العقيدة بين من يقول: (الله ثالث ثلاثة) وبين من يقول: (الله ثالث اثنين).
فقوله: (الله ثالث ثلاثة) يعني إدخال الله تعالى في العدد، أما قوله: (الله ثالث اثنين)، فهو تأييدُ مفردٍ واحدٍ للشفع، ولا يندرج في العدد.
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ).
يعني إذا ذهب وسار، كما قال سبحانه وتعالى في موضع آخر:
(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ) [المدثر: 33-34] فذكر الفجر حين يقبل ، و الليل حين يدبر.
ثم قال بعدها:
(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ)
أي أليس في هذا تأكيد وإقناع لصاحب عقل، يفهم المراد!!
ولماذا ذكر بعدها قصة عاد وثمود وفرعون؟.
ليقول لك يا أيها الإنسان كل فساد في تلك القصص كان ظلمة عارضة، لا يمكن لها أن تدوم، وحينما يستمد الشفع المؤمن من الوتر الناصر ستزول ظلمة البغي والعدوان والطغيان..
وهي سنة الله تعالى.(اشتدي أزمة تنفرجي)
فلا يوجد ليل إلا وبعده نهار، لكن لماذا يطول ليل ويقصر ليل؟
إنه سبحانه أشهدك الفصول الأربعة، فالصيف الذي هو وقت الجد يقصر فيه الليل ، والشتاء الذي هو وقت الخمول والخمود والنوم يطول فيه الليل.
وما أكثر الحيوانات التي تنام الشتاء كله، كما في علم البيولوجيا .
إذا فالجدَّ يقصر معه الليل، والكسل يطول معه الليل.
أمة فيها الكسل سيطول ليلها، وأمة فيها جد وهمة وإقبال سيقصر ليلها.
والأمة التي تستند إلى غيرها لتفرِّج كروبها أمة ذات كسل.
والأمة التي تتحرك حيويتها من داخلها لتتغير أمة ذات همة.
ولا تكون الهمة في الشعارات التي لا مضمون لها، إنما تكون في الجد والعمل والنهضة والعلم، وكسر كل المعوقات..
ولئن كان الله سبحانه وتعالى ذكر عاداً التي أرسل إليها هود، وثمود التي أرسل إليها صالح ، وفرعون الذي أرسل إليه وإلى قومه موسى، فإنه أخرج للعالم كله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو يعني أنه أخرجنا نحن أيضا للعالم، لأننا بانتمائنا واتباعنا لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، نمثله .
والذي يميز دعوة الإسلام عن غيرها من دعوات الرسل الذين كانوا قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يُرسلون إلى أقوامهم، أما رسالة الإسلام التي جاء بها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فإنها رسالة لم تأتِ إلى قوم ، لكنها جاءت للناس كافة.
قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: وعد منهن: وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة) أخرجه البخاري.
وقد قال الله سبحانه وتعالى على سبيل المثال:
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ)[الأعراف: 59].
وقال:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[إبراهيم: 5].
وقال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ)[الصف: 5].
وقال سبحانه: (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم)[الصف: 6].
فكل الرسل قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كانت رسالاتهم تتوجه إلى أقوامهم فلا تحمل في طياتها ما خُبِّئ في الرسالة العالمية الخاتمة التي هي رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وخاطب الله سبحانه حبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله:
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ)
وما قال قل يا أيها العرب
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)[الأعراف: 58]
من هذه النقطة يكون الحج، الذي نعيش أيامه ونحن في عشر ذي الحجة، المشهد التطبيقي العملي لعالمية الإسلام، التي من خلالها يجتمع في مكان واحد ، وصعيد واحد، عربي وعجمي، يجتمع من هم من دول الشمال بمن هم من دول الجنوب، يجتمع الأمريكي بالإفريقي، يجتمع القادم من أوربا بالصيني والياباني، يجتمع أسترالي بأرجنتيني، ويجتمع الجميع في مكان جعله الله للعالمين.
لكن مع الأسف لا تظهر معاني هذا الاجتماع، ولا تظهر أسرار هذا الاجتماع، إنه اجتماع ثري بفقير، لكن لا يعود الفقراء رسلاً إلى أقوامهم بأسباب الثراء.
من أطعمك سمكة فقد أجاعك، ومن علمك كيف تصطاد السمكة أشبعك.
يجتمع الثري المتطور الخبير بأسباب المصالح والمنافع بفقير جاهل، لكن لا يستفيد هذا من ذاك.
يتصل في مكان واحد الشرق بالغرب، والإسلام في هذا المشهد في تعليمه وتوجيهه، يُشبع ذلك الموطن عالمية وإنسانية، لكن لا يحصل على مستوى التطبيق هذا.
ومن أمثلة تشريع الحج: الهدي.
والهدي طعام يقدِّمه الغني المالك للمال، فماذا قال القرآن فيه؟.
قال:
(وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) [الحج: 36]
وهذه الآية دليل على أن البدن هي الإبل ، لأنه الحيوان الذي ينحر واقفاً.
فمعنى قوله تعالى: (فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) أي سقطت على الأرض.
فالأغنام تضجع وتذبح، والأبقارتضجع وتذبح، وليس من الأنعام ما ينحر واقفاً قائما إلا الجمل أو الناقة.
(فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا) سقطت حتى لاصق جنبها الأرض بعد نحرها.
(فَكُلُوا مِنْهَا) يا أصحاب المال.
(وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ) فعلى مائدة الطعام قانع فقير
(وَالْمُعْتَرَّ) وهو الذي وصل إلى الإلحاح الشديد من شدة فاقته وفقره.
على مائدة واحدة يشرعها القرآن في الحج ثلاثة أنواع ثري منفق وفقير صاحب قناعة، لم يوصله الفقر إلى الإلحاح. ومعترٌّ أوصلته الفاقة إلى أشد درجات الإلحاح..
واليوم بدلاً من أن يأكل الثلاثة ماذا يحصل؟
الثري القادم من أمريكا وسويسرا.. لا يأكل إلا في أفخر وسائل الطهي، والمائدة التي يجلس عليها يحضَّر معها ما يحضَّر..
ولما فقد الحج ارتباطه بالنصوص ، وازدرى ذلك الثري ما يذبح ، ذبحه ، وتركه كما تصنع السباع حينما تترك ما تصطاده للضباع، والذئاب والثعالب، و في أحسن الأحوال قالوا: حولوا اللحوم إلى معلبات، فتحول الأمر إلى مفهوم مادي صرف كما هو حال من ينظَّر لمجتمعاتنا.
فالأصل أن يجلس الثلاثة ليأكل الفقير على مائدة الثري، أو يكون بين هذا وذاك حالة من التوازن. ويكون طعام نظيف مضبوط الوصف يقبل ذلك الثري أن يأكل منه.
إنها حالة تواصل اجتماعي, حين يجلس على مائدة واحدة إفريقي أو هندي مع أمريكي أو أوربي؛ وسيحصل بينهما تواصل إنساني, لكننا نتعلم من الغرب ونقلده؛ دون أن نُعلِّمه, قائلين: نحن أسرة إنسانية واحدة.
ويُصرف في القصور ما يصرف, وتُوضع الموائد المفتوحة, أما عموم الحج فهو محل الوفيات!!
لو كان الحج في نيويورك.هل يكون هذا ؟
حضرت مؤتمراً في البلاد المقدسة, وقالوا: لقد قُدمت مخططات كثيرة حتى لا يبقى حول الكعبة من الأبنية أي شيء, حتى يكون ما بين الجبال ساحة طواف, ويبتعد الناس..
وأصبح من الممكن أن توجد الوسائل التي تنقل الناس عبر المترو وغيره..
وقد قُدمت مشروعات كثيرة جداً..يمكن أن تصبح فيها مكة أعلى في تقانتها من نيويورك وواشنطن!!
لكننا ما نزال نعيش حالة القناعة والسذاجة, لا نرى ما يكون في القصور, ونرضى بسُكنى القبور, ونترك للظَلَمة أن يفعلوا كما يشاؤون.
أين التواصل الإنساني, والعالم يجتمع في مكان واحد؟
وهذا المثال هو تواصل اجتماعي على مستوى الطعام.
واقرؤوا بعدها في القرآن:
(ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) [البقرة: 199]
فقديما كان القُرشيون يتركون لأنفسهم مكاناً خاصا, إنها الطبقية..
فالقُرشيون كانوا يُفيضون من مكان, والناس من مكان آخر, وهكذا يُُفعل اليوم, فالطُرق الخاصة تفتح للأمراء والوزراء وأرباب الأموال.
(بِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ) [الحج: 45]
انعدمت المساواة, وانعدم مفهوم العالمية في تشريع الحج كما يريد الإسلام, ولم يتساوَ الفقير والأجير والأمير على أرض العبودية؛ والمُراد في الحج أن يتساوى الجميع على أرض العبودية.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما نُصبت له خيمة في منى.., (أي هو حجزُ مكان), قال:
(لا.. المكان لمن سبق)
لكن هل تنـزل الوفود الأمريكية أو الأوربية أو الإماراتية في نفس المكان الذي تنـزل فيه الوفود النيجيرية والصومالية والهندية, لا فمكانها الوديان والمستنقعات وتُنصب الخيام للفقراء.
أما القادمون من فوق؛ فإنهم يحجزون فوق, في الفنادق السبع نجوم!!
أين المساواة!!
الحاج البسيط يذهب لا يريد إلا الكعبة, يريد أن يستغفر ربه, يريد أن يبكي ويُكفِّر ذنوبه؛ لكننا نرى ما لا يراه الحاج, نرى ظلماً, ونرى طغياناً, ونرى انعداماً للمساواة الإنسانية, والله يقول:
(ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) فلا تمييز في ذلك الموقف.
وماذا قيل في ذلك الموطن حين حج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ما الذي قاله للناس حين حج فيهم؟
قال:(يا أيها الناس..) كل الناس (إن ربكم واحد) فتوجهوا جميعاً إليه.
(وإن أباكم واحد) يا من قَدِم من دول الشمال: أبوك هو نفس الأب لهذا الإفريقي, ولذلك الصيني والهندي.
(كلكم من آدم وآدم من تراب)
وحين وصف مكة ووصف الكعبة ماذا قال؟
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96]
(لِّلْعَالَمِينَ) حيث يتساوى هناك كل العالمين.
وقال في الحج:
(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) [الحج: 28]
فهل نبقى نقرؤها للناس: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) حتى تذهب ومعك عشرة كيلو من التوابل لتبيعها و تشتري في مقابلها, كما يحكيه بعضهم إلى هذا الوقت!!
لماذا لا نقول: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) فيحصل التعارف العالمي, في الوقت الذي قُطِّعت فيه دول العالم الإسلامي، ودول العالم, واحتاج المسلم ليرى أخاه المسلم إلى اجتياز ألف عائق.
إذا أردت أن تزور أخاً لك في فرنسا, أو أخاً لك في أمريكا, تجمعك العقيدة معه؛ تحتاج إلى اجتياز الحواجز, بل الأمر نفسه يكون إذا أردت أن تزور أخاً لك في دولة مسلمة مجاورة لك!!
واجتمع الحجاج بأمر الله في الحج, ليَتَحصَّل معنى:
(إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات: 13]
فهل كان هذا التعارف, وهل حصل هذا التعارف, وهل يُنظَّم الحج ليحصل التعارف!
في غالب الأحيان وفي أحسن الأحوال يمكن أن تجتمع في الحرم بشخص ما على مستوى فردي.
أما أن يُنظَّم لتتعارف الشعوب..
لا.. على العكس, فالسوريون ينـزلون في الحي الفلاني, والقادمون من دول الشمال في الحي الآخر, والقادمون من الخليج عادة يستوطنون الحي الفلاني!!
الأصل في بيوت مكة يا أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ أنه لا يجوز بيع دُورها, ولا حتى إيجار دُورها.
وهذا هو حكم الله الذي غُيِّب عن الناس.
فأرض الحرم كلها من مركز الكعبة إلى دائرة نصف قطرها بحدود خمسة عشر كيلو متر، لا يجوز فيه أي بيع للعقار أو إيجار.
فهو مكانٌ عامٌّ للناس.. وما هي وظيفة أهل مكة؟
وظيفتهم أن يتشرفوا بخدمة الحجيج, فإذا حصل انتفاعٌ ما منهم على المستوى الاقتصادي فهو صحيح ولا يضر, أما العقار فالانتفاع منه لكل الناس وهم من جملة الناس.
فالله تعالى أمَّم هذه البقعة فقط من العالم.
والعالم الإسلامي بنفطه وماسه وذهبه ودنانيره... مسؤول عن خدمة هذه البقعة, لا دولة نجد وحدها, العالم كله مسؤول عن توفير الظروف المتساوية في البيئة والصحة, لكل الوافدين, شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً..
فهل يحصل هذا؟ ..لا..
والحاج ليس على مستوى هذه الثقافة, وحين يكون ذاهبا.., يُوضع في مكان أقل من مستوى المسافرين, ويكون ذليلا .. فمطار الحجاج غير مطار السُّواح!!
وفي مطارات العالم الإسلامي,من يريد أن يذهب حاجاً؛ يسافر من المطار القديم, أو من الخيام المنصوبة, وفي الطائرات ذات الدرجة العاشرة!!
يقال له أنت تذهب حاجاً, ماذا تريد من متاع الطائرة, وماذا يهمك من الرفاهية, إنك ذاهب من أجل الله...
ويُستخدم هذا المقصود لسحق الإنسان.
وكأنه إذا ذهب حاجاً؛ لا ينبغي أن يذهب بكرامته.
ومن المنافع التي يمكن أن تُطرح للدراسة في هذا الزمان: تحقيق الأمن العالمي.
لماذا يحصل عدوان الشرقي على الغربي؟
لأنه لم يره إلا غازياً..
لو اجتمع هذا الشرقي بالمسلم القادم من بريطانيا, وإسبانيا, وفرنسا, وسويسرا..وأخبره هؤلاء أنهم يسكنون في كل الأحياء. هل يستطيع هذا الشرقي الخارج من غير ثقافة سليمة, يحمل بعض الكلمات التي أسمعها إياه بعض المُتطرفين الجهلة, هل يستطيع بعدها أن يحمل متفجرات ليُفجِّر حياً في مدريد أو لندن أو سويسرا أوالسويد؟
لا..
إذاً لما كان التعارف مفقودا ؛ فالأمن مفقود.
ولو أن التعارف حصل؛ سيشعر الإنسان بالإنسان.
يكفينا تنظيراً, نقول للناس: على الإنسان أن يشعر بأخوة الإنسان..
لكن ... أين أخوة الإنسانية في الممارسات؟
وإذا لم تكن في الممارسات أخوة الإنسانية؛ كيف ندعو إلى أخوة الإنسانية!!
فنحن في ذلك نتناقض مع أنفسنا.
إذاً لو أن الحج وظِفَ للتعارف, وقام الأستاذ القادم من أمريكا, والقادم من أوربا؛ بإلقاء محاضرات تثقيفية, وقام الصناعيون القادمون من دول الشمال, والقادمون من الدول المتطورة من ماليزيا مثلا..؛ لو أنهم قاموا بمحاضرات تثقيفية, وعرضوا على شرائح العرض طريق التطور وأسلوبه.. وتُرجم هذا سيوجد ذلك التعارف الإنساني المفقود..
ماذا لو أن الحج كان هكذا؟
ولماذا المبيت في مِنى؟
ماذا يصنع الناس في منى الآن؟
منى ثلاثة أيام, أو أربعة أيام.. يمكن للعالم الإنساني أن يتعارف فيها؛ ليخرجوا بعد الحج سُفراء إلى بلادهم.
يُعلِّم المُتعلِّم غير المُتعلِّم, فيرجع المُتخلِف متطوراً؛ لأنه سيقوم بالدورات التثقيفية التعليمية التطويرية الثري المُتعلِّم المتطور.
والذي يحصل هو على النقيض من ذلك, إذ توزع أوراق وكتب ورسائل, تتحدث عن مفهومات تفرق الأمة: وتقول لها أنت مُشرِك وأنت كافر!!
إنها حالة مُزرية لا يسمح فيها للمُتعلِّم أن يُعلِّم, ولا يُسمح فيها للمُثقَف أن يُثقِّف, ولا للمُتطور أن يُطوِّر..؛ ثم نريد بعد ذلك أن يكون الحج عالمياً!!
إن عبادة الحج مقطوعة في هذه الأيام عن حِكَمِ التشريع فيها.
وفي الحديث الصحيح, قال صلى الله عليه وسلم:
(عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا ولاَ تُعَسِّرُو وبَشِّرُوا ولاَ تُنَفِّرُوا)
ووقفت عند قوله تعالى:
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة: 125]
وقلت: يا سبحان الله,كان ذهني يتوقف عند مفهوم واحد
(وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) [آل عمران: 97] بالمعنى الإقليمي, لكنني حينما سَبحت بخاطري إلى مفهوم الأمن العالمي الحاصل بسبب اجتماع العالم هنا؛ قلت: كم نحن مُقصِّرون مع أمتنا, وكم نحن نظلم أمتنا.
إذاً فرصة الحج اليوم لا تُستثمر.
فيُقسَّم الحج تقسيماً طبقياً وإقليمياً؛ ويُرسَّخ في الحج سايكس بيكو والمفاهيم المماثلة, ويُعامل الفقير الجاهل بإزدراء, ويُعامل الثري المُتعلِّم بتقدير, ويُفصل بين الطرفين بدلاً من أن يُخلط بينهما على الأرض الواحدة, وبدلاً من أن يستفاد من ظاهرة الأواني المستطرقة التي يعرفها أهل الفيزياء.
إن السياسات الغربية الخارجية الفاسدة, التي يمارسها حُكَّام الغرب المُنتفعون بالمصالح, الذين لا يُمثلون شعوبهم -وإن ادَّعو أنهم يمثلونهم- هذه السياسات الفاسدة الواردة من الغرب, التي لا تُعبِّر عن مجتمعاتهم؛ جعلت الشرقيين يعانون من عقدة الشرقي أمام الغربي, وجعلت بعض المسلمين ينظرون إلى كل غربي، وإلى كل قادم من الغرب على أنه سيئ؛ لأنهم رأوا جانباً سلبياً سيئاً فيه طمع وجشع، و في الحج وتطبيقاته الصحيحة؛ تزول هذه العقدة.
ونحن عانينا طويلاً من هذه العقدة, ونحن نشتم الإمبريالية, ونسوق شعوبنا إلى الفقر بحجج أيدلوجية كاذبة..
ولم يعانِ من هذه العقدة شعب اليابان حين ذهب ليتعلم كل ما هو مفيد؟
كيف قامت حضارتنا, ونهضتنا؟
ترجمنا ما عند الإغريق,و الرومان؛ فكانت نهضتنا استمراراً للحضارة الإغريقية والرومانية, وأضفنا وابتكرنا.
لم نُحضر وثنيتهم, بل أحضرنا تطورهم المادي.
وهكذا صنعوا هم.., فكانت النهضة الغربية تطوراً واستمراراً مادياً لما وصلت إليه الحضارة العربية الإسلامية, ومن أراد أن يعرف ذلك؛ فليُطالع كُتب التراث.
فإذا أردنا النهضة من جديد؛ فلابد أن نتحرر من هذه العُقدة, لنتابع من حيث وصلوا.
تشريع الحج, لو طُبِّق كما يُراد في الشريعة له؛ سيساعد على حل هذه العُقدة, و سيحَفَّز الشرقي ليعانق الغربي, وليُعلِّمه بعض الأخلاق والقيم, ويتعلَّم منه تطوير المادة, وليعانق الغربي الشرقي؛ ليُعلَّمه التطور المادي, وليتعلم منه بعض الأخلاق والقيم.
ينبغي أن نعود إلى الإسلام, قراءةً وفهماً وتدبُّراً وربطاً بالواقع, وينبغي أن نقول للعالم: الإسلام الذي هو ديننا لا يُوقف التطور؛ إنما هو حافز للتطور, فلا تُطبِّقوا علينا ما فهمتموه من دينكم, يا أصحاب السياسات الخارجية الغربية.
وعلينا نحن أن نُقدِّر التطور الغربي المادي, وأن نستفيد منه؛ وقد بقينا بعيدين عنه مدة طويلة في سبات ونوم.
وهكذا نستطيع أن نرقى بنهضتنا مُستفيدين من تطورهم, قائلين لهم: حين نتمسك بديننا؛ فالدين لا يُوقف تطورنا, ولا يدفعنا إلى التخلف, إنما يضيف إلى تطوركم المادي تطورا إنسانيا إن أنتم في الحقيقة أردتم العدل.
نحن سنتخلى عن عُقَد الإقليمية, ونستفيد من التطور الحاضر, وفي الوقت نفسه نتمسك بثوابتنا وبأخلاقنا؛ عندها نعود إلى حضارتنا, ويكون ما أُراده الإسلام من تشريع الحج.
اللهم رُدَّنا إلى دينك ردَّاً جميلاً, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول واستغفر الله.
أعلى الصفحة