الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Sermons المنبريات
 
أليس إسلامُنا صحيحا وصالحا؟
Al Adiliyya Mosque, Aleppo جامع العادلية - حلب
4/5/2007
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
أليس إسلامُنا صحيحا وصالحا؟
خطبة الجمعة التي ألقاها الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني في جامع العادلية بتاريخ 4/5/2007
يتحرك الإسلام في العالم كله كمبدأ لا يوجد له ندٌّ أو منافس، وكلما اشتدت المحنة عليه كان ذلك كالمذكِّر لأهله، والموقِظِ لمن نام عنه.
والإسلامُ هديَّةُ الله تعالى إلى الإنسانية، ومهما حاول الآخرون تجاهلَه، أو تجنُّبَه، أو حربَه... فإن ذلك لا يُغيِّر من كونه الحقيقةَ الساطعة، والنورَ المشرق الذي أراد الله تعالى أن يتمَّه: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصف: 8].
ولم تعد قضيةُ صحة الإسلام قضيةً تحتمل الشك في نظر العقلاء وبحث الباحثين، ولم يعد بابٌ من أبواب البحث مغلقًا أمام حقائق الإسلام في الشرق وفي الغرب.
لكن المشكلة التي يعاني منها أكثر الناس هي: صلاحيةُ الإسلام للتعايش مع متغيراتنا المعاصرة.
فكونُ الإسلام حقيقةً ربانيَّةً، أو كونُه مبدأً متميزًا فريدًا يحمل من العمق الذاتيِّ والقوة ما لا يحمله غيره، قضيةٌ أصبحت معلومة، ولكن الإشكالية الكبرى التي يعيشها أكثر المفكرين، بل وأكثر الذين يتحدثون بمنطق المعاصرة هي: هل يتناسب هذا الإسلام؟ وكيف يتناسب؟ وكيف يكون صالحًا للتطبيق مع وجود كل هذه المتغيرات المعقدة في العالم اليوم؟
وأردت أن أوجِّه إلى أمرين اثنين، نقترب بهما من إقناع الناس بصلاحية هذا الإسلام في معالجة حياتنا المعاصرة بكل عُقَدِها ومعضلاتها ومشكلاتها...
هذا الإقناع يحتاج إلى أمرين اثنين:
1- أن يكون شرحُنا للتطبيقات الإسلامية واضحًا ومنسجمًا مع التغيرات المعاصرة، وباختصار: أن يكون منهجنا النظريُّ الذي نقدمه إلى الناس واقعيًّا.
فلا يكفي أن نتغنى بأحداث في تاريخنا، ولا أن نعيد إلى الأذهان تجربة عاشها أجدادنا وسلفنا في السياسة الشرعية مثلاً، أو في المعاملات... بل لا بد أن نقدِّم منهجًا نظريًّا يمس تفصيلات التطبيقات التي يعيشها حاضرنا المعاصر.
وحينما نبقى نتحدث عن صلاحية الإسلام، دون أن نقدم منهجنا في تطبيقاته الصغيرة التي تحاكي وتمس أدق الدقائق في واقعنا المعاصر لن نحقق الإقناع بتلك الصلاحية .
وحين نقدمه نكون قد قطعنا النصف الأول من الطريق إلى إقناع الناس بصلاحية الإسلام لمعالجة الحياة المعاصرة.
2- وجودُنا العمليُّ في ساحة التطبيقات، أو حضورُنا في بناء النهضة حضورًا عمليًّا: بمعنى ألا نكون منظِّرين لأصحاب الصناعة دون أن نمارس الصناعة كأصحاب التزامٍ إسلامي، وألا نكون منظِّرين في التجارة دون أن يكون لنا حضورٌ فعليٌّ متميِّزٌ في ساحة التجارة...
ومثله في ساحة التعليم، والزراعة، والتطور والتطوير...
إذا قدمنا هذين الأمرين نستطيع أن نخاطب العالم مهما كان متطورًا ومتقدمًا في نهضته المادية، لكن حينما لا نعي هذين الأمرين فإننا لن نقدر على إقناع الآخرين بصلاحية الإسلام.
لماذا خرجت تظاهرة وجمعٌ كبيرٌ في تركيا لإعلان رفض الإسلام؟
ونحن لا نناقش كونهم أغلبيةً في تركيا أم لا، لكنها ظاهرة مرصودة، وأَجزِمُ أن عددًا كبيرًا منهم لم يُطالعوا هذين الأمرين.
فالإسلام يقدِّم إلى الإنسان نفعه ، لكنهم تصوَّروا الإسلام مستأصِلاً، وعنيفًا، وملغِيًا للآخر...
فخرجوا من خلال تصوراتهم ليعارضوا شيئًا لا يعرفون مضمونه!
هل يمكن أن يُقدَّم إلى الإنسان سماطٌ كبير (أو مائدة) فيه كل منافعه، وكل ما يحتاجه... ثم يخرج ليعارض ذلك السماط؟!
إذًا: الإشكالية أنه ما رأى ذلك السماط، ولم يعرف أنه سماطُ نفعِه.
الإشكالية فينا نحن الذين نـزعم أننا إسلاميون وملتزمون ما الذي قدَّمناه لإقناع هؤلاء أن الإسلام يقدم لهم نفعًا متميزًا لا ينافسه فيه أحد على جميع أصعدة الحياة؟

وأحببت أن لا يكون حديثي هذا نظريًّا من غير أن أدعِّمه ببعض الأمثلة والتطبيقات الصغيرة، وسوف أتناول مثالين صغيرين:
المثال الأول يقدِّم من منظور الإسلام حمايةَ الإسلام لأمن المجتمع، وهي جزئيَّةٌ صغيرةٌ من الجزئيات النظرية التي يستطيع الإنسان أن يكون حاضرًا حضورًا عمليًّا في تطبيقاتها، والمثال الثاني في التنمية الاقتصادية.
وأنقل من كتاب الله تبارك وتعالى في هذين المثالين (على سبيل المثال لا الحصر): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 216] فهذا نصٌّ في كتاب الله نقرؤه نحن المسلمين وننظر إليه على أنه نصٌّ مقدَّس، ومما يقدمه إلينا هذا النص في دلالاته:
1- أن وظيفة حماية الأمن في المنظور الإسلاميِّ مقدَّمةٌ على وظيفة التنمية: واليوم يتحدثون عن التنمية، لكن القرآن الكريم يقدم ها هنا المنظورَ الإسلاميَّ الذي يعطي في دلالاته أن حماية أمن المجتمع مقدَّمةٌ على وظيفة تنميته تنميةً حضاريَّةً واقتصادية.
إذًا: فالمسلم حين يستمد هذه الدلالة من هذا النص يفهم أن عليه واجبًا شرعيًّا، ويفهم من خلال قناعةٍ وتفاعُل باطن أن عليه أن يقوم بوظيفة مساعدة تحقِّق شيئًا من أمن المجتمع قبل أن يبادر إلى مشاركةٍ في تنميته.
2- ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى جعل المؤمن مع الكافر مشتركَيْنِ في التنمية: فعندما أراد سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يخصَّ مَن آمن، أجابه الله سبحانه وتعالى: {وَمَن كَفَرَ} حتى لا يكون هذا الجانب المادِّيُّ منحصرًا، فالتنمية يشترك فيها الجميع.
إذًا: ينبغي أن يفهم المؤمن الذي آمن بهذا النص أن التنميةَ عمليةٌ يشترك فيها الجميع، لأنها لا تختص بأهل الإيمان، فالذي كفر يحاسبه الله في الآخرة، لكنه ينبغي أن يشترك في ثروات هذا المجتمع حينما يكون داخله، وينبغي أن يشترك في الرزق.
ثم بعد ذلك ندعِّم من خلال التطبيق في الجيل الأول، عندما أنشأ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مجتمعه الأول، حيث نلاحظ كيف صيغت الوثيقة الأولى التي تحفظ الأمن، وكيف كان أمن المجتمع متبلورًا واضحًا عند صياغة تلك الوثيقة.
وفيما يروي ابن إسحاق: أنه صلى الله عليه وسلم كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود، وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم، وفيما جاء في هذه الوثيقة:
(.. وأن المؤمنين على من بغى منهم) فلكي يتحقق أمنُ المجتمع يجتمع المجتمع كله، يدًا واحدة متكافلة متضامنة، حتى يعاقب من بغى في المجتمع، فالمجتمع كلُّه يجتمع على محاسبة من بغى من المجتمع، (أو ابتغى دسيسةَ ظلمٍ) أي أراد أن يدس في هذا المجتمع شيئًا من الظلم، (أو إثمٍ أو عدوانٍ أو فسادٍ، وإن أيديهم عليه جميعهم، ولو كان ولد أحدهم) فلا ينبغي أن تكون الروابطُ الأسرية وعاطفةُ الأبوَّة مقدَّمةً على وظيفة حماية أمن المجتمع، فتجد الوالدَ يقدِّم للمجتمع ولده إذا كان هذا الولد سببَ ظلمٍ أو فسادٍ أو بغيٍ أو عدوان، (.. وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر، غير مظلومين ولا متناصرٍ عليهم) فلا ننصر عليهم لأنهم يهود، بل له النصر كما لغيره، ولا نفرق في الحقوق بين مسلمٍ وغير مسلم، (وأن يهود بني عوف أمةٌ مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بينه) أي لا يهلك إلا نفسه، ويعود هلاكه على أهل بيته لأنهم فقدوه، (وأن ليهود بني النجار، وبني الحارث، وبني ساعدة، وبني جشم، وبني الأوس، وبني ثعلبة وجفنة، وبني شطنة... مثل ما ليهود بني عوف، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب).
فهذه الوثيقة نموذجٌ يقدم منطلقًا نظريًّا، فكما قرأنا في الدلالات من النص التي تؤخذ بشكل غير مباشر رأينا تطبيقًا ووثيقة تنص على أسلوب حماية الأمن.
فعندما نقدِّم هذه الجزئية كالتزاميين، في واقعٍ تنتشر فيه القَبَليَّةُ والطائفية والعنصرية والظلم والكيل بألف ميزان... نكون قد عبَّرنا عن هوية واضحة، وعندها نستطيع أن نقول: إن منطلقاتنا النظرية الإسلامية ترفض الطائفية والعنصرية بكل أشكالها، وترفض التمييز بين مواطن وآخر بكل أشكاله...
وعلينا أن نستأصل من كتبنا بعض الأشياء التي وردت إليها ولا تمتُّ إليها بصلة، مثل ما ورد في بعض الكتب في تفسير قوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] بأن تؤخذ الجزية من الكتابيِّ بعد صفعة، فمثل هذا لا صلة له بنا، ولا بمنطلقاتنا، ولا بمقاصد شريعتنا...
وعندما طلب الكتابيون من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن يغير اسمها، فتسمى زكاة المسلمين صدقة، وتسمى جزية الكتابيين صدقة، وافق على ذلك.
فمثل هذا الطرح يجعلنا عالميين، ويقدِّمنا، ويعني أننا نفهم دقائق واقعنا، وأننا نقدم منهجًا نظريًّا لا يمتلكه غيرنا.
إذًا: علينا أن نعيَ المتغيرات، ثم نرتقي في الخطاب بما يتناسب مع مقاصدنا فنقدم تصوُّرًا، وبعد هذا نكون مشاركين فعليًّا، لا أن نتحدث بشيء وخلف الكواليس نُحدِثُ فتنة.
علينا أن نكونَ حماة أمن المجتمع، ونقولَ للناس: هذا إسلامُنا ونحن ننسجم معه، وأن يكون لنا حضورٌ تطبيقيٌّ عمليٌّ، لنقول للذين شذُّوا: أنتم لا تتناسبون مع إسلامنا، فإسلامنا يقدِّم منطلقًا نظريًّا واضحًا، وينبغي أن يكون حضورنا العمليُّ متناسبًا مع منطلقاتنا النظرية.
وننتقل إلى مثال التنمية الذي ورد في نفس النص:
وأكتفي بهذين المثالين لأقدم نماذج صغيرةً عاجلة، ولا أدَّعي أنني في هذه الوقفة أقدِّم خطابًا تخصُّصيًّا في هذا الموضوع، لكنني أحفِّز أن يكون الخطاب على مستوى التدقيق في التفصيلات، على مستوى التنمية التي أشار النص إليها، وكيف يشترك المؤمن مع غير المؤمن في الرزق والثروة وتنمية الموارد وتنمية اقتصاد الأمة... حين نريد شيئًا من التفصيل، لنعزز التصور والحضور.
نقرأ في القرآن ما ينقله لنا من نُصْحِ نبيِّ الله يوسُفَ عليه الصلاة والسلام، وهو يقدِّم نصحًا ينظر الآن إليه كلُّ الاقتصاديين نظرةَ احترامٍ شديد، عندما قدَّم هذا النصح لمجتمعٍ لا يؤمن بالله، فقال: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} [يوسف: 47].
ها هو القرآن الكريم يحكي لنا عن نبيٍّ من أنبياء الله ليعزز تصوُّرَنا، ويقدِّم حلولاً اقتصادية لمجتمعٍ لا يؤمن بالله.
انظروا كيف يتعامل الإسلام مع غير المؤمن.
وإنَّ ربطَ الإيمان بحركة المادة، بمعنى أني لا أتحرك معك في المادة إلا إذا كنتَ مؤمنًا، شيءٌ يتنافى مع أصولنا.
وها هو سيدُنا يوسف عليه الصلاة والسلام يقدِّم أعظم نصيحةٍ اقتصاديةٍ لمجتمعٍ لا يؤمن بالله تبارك وتعالى، ولم يدخل في الإسلام، فنحن لا نقدِّم نصحًا في الصلاة فقط، أو في الصيام فقط، أو في الأخلاق فقط... بل نقدم نصحًا لغير المسلمين في الاقتصاد، وفي الزراعة، وفي الطب، وعلى أصعدة المادة بكل تفريعاتها وتفصيلاتها... إن كان لدينا تخصُّص.
وهكذا يفهم الإنسان كيف يكون رحمةً للعالمين.
هل أكون رحمةً للعالمين إذا دعوت للناس أن يدخلوا في الإسلام، وإذا دعوت لهم بالهداية فقط؟ فإن قدَّمتُ لهم نصحًا في الاقتصاد ألا أكون رحمة لهم؟
هذا هو التصوُّر الذي يعطي باطني وقلبي وروحي العالميةَ.
وبعدها دخل سيدُنا يوسف عليه الصلاة والسلام بنفسه ليساعدهم في تنمية اقتصاد البلد، فقال كما ينقل القرآن الكريم: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] أراد أن يدير الاقتصاد بنفسه، وأن يدير تطبيق النصيحة التي قدمها هو، حتى تكون النصيحةُ متبوعةً بحضورٍ فعليّ، فحضر وأدار تلك النصيحة بتطبيقاتها، وقال أيضًا: {أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنـزلِينَ} [يوسف: 59].
إذًا فالمنطلق النظريُّ الإسلاميُّ يقدِّم الاشتراك بين الجميع في التنمية بقطع النظر عن انتماءاتهم وعقيدتهم.
وكنت أبحث في تطبيقاتنا في الجيل الأول، جيلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فاستوقفني في الصحيحين البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم - وهو المشرِّع - كان يأتي سوق بني قينقاع، سوق اليهود.
وفي صحيح البخاري أيضًا، لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً، فأَقسِمُ مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجَبَهُما إليك فسمّها لي أطلِّقْها، فإذا انقضَتْ عدَّتُها فتزوَّجْها، فقال عبد الرحمن بن عوف، وهو يجيب سعد بن الربيع فيما عَرَضَه من عرضٍ لا تستطيع العقول أن ترقى إلى فهمه: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ (وهذا في لفظ البخاري) يقول عبد الرحمن بن عوف: فدلّوه على سوق بني قينقاع.
مع أن الأسواق كان فيها أسواق للمسلمين وأسواق لليهود، لكنَّ الأصحاب لم يكونوا يُميّزون بينها، فهم يريدون نماءً في ثروة عبد الرحمن بن عوف - وكان تاجرًا - فالحركة الاقتصادية في سوق اليهود أقوى منها في سوق المسلمين، فدلّوه على سوق اليهود.
إنه منطقٌ لا يعتبر الحميّة ولا العاطفة، فعندما ينظر إلى الاقتصاد ينظر إليه نظرةً محايِدة.
قال: أين سوقكم؟ فدلّوه على سوق بني قينقاع، سوق اليهود، لأنهم أرادوا له تجارةً أوفر، فكانت سوقًا فيها من الحركة ما لا يوجد في غيرها.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يشتري التمر من سوق بني قينقاع، ويبيعه فيه.
ثم نرى رعاية رسول الله صلى الله عليه وسلم لحركة سوق المسلمين، حيث يدخل يهوديٌّ في سوق المسلمين يبيعُ ويشتري، ثم يُغضِبُه واحدٌ من المسلمين، فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهوديّ.
إنها حمايةٌ لا تنظر إلى الانتماء..
إنها عدالة لا تُفرِّق بين الإنسان والإنسان..
قَالَ يَهُودِيّ في سُوقِ المَدِينَةِ: لا وَالّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى البَشَرِ، فَرَفَعَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَدَهُ فَصَكّ بِهَا وَجْهَهُ، وقَالَ: تَقُولُ هذَا وَفِينَا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم؟ فوقف النبي صلى الله عليه وسلم مُغضَبًا، وقرأ قوله تعالى: {وَنُفِخَ في الصّورِ فَصَعِقَ مَنْ في السّمَاوَاتِ وَمَنْ في الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ الله ثُمّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُون} [الزمر: 68] ثم قال: (فَأكُونُ أَوّلَ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِم العَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَرَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلِي أَمْ كانَ مِمّنْ اسْتَثْنَى الله؟) أي صُعِقَ كلُّ من في السماوات والأرض إلا سيدنا موسى، لأنه صُعِقَ في الدنيا.
إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يكتفي بمجرَّد الغضب لذلك اليهوديّ، ولا بمجرَّد إنصافه سلوكيًّا، أو إيجاد نوعٍ من أنواع القصاص... لكنه يقف صلى الله عليه وسلم مؤيِّدًا له من وجهٍ من الوجوه تأييدًا نظريًّا.
هكذا يُقرأ منطلقُنا النظريُّ ونحن نتحدّث عن تصوّر الإسلام في الاقتصاد، وعن تقديم الإسلام لتصوّراته وتطبيقاته على مستوى التنمية والاقتصاد والأمن...
وبعد هذا: فإن منطلقنا النظريَّ الاقتصاديَّ يُحفِّز الإنسان للحضور فعليًّا، ولا يُنظِّر فقط، إنما يدفع المسلمين دفعًا ليكونوا حاضرين حضورًا عمليًّا في تلك التنمية.
واقرؤوا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)، فلو حللنا هذا الحديث نجد أنه في النتيجة يقول للأمة: لا تكونوا أمَّةً قوّالة، بل كونوا أمة فعَّالة، أي: كونوا أصحاب الأفعال لا أصحاب الأقوال.
ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: (المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)، فإذا كنتَ تريد حُبَّ الله، فإنه يحبُّ القويّ، فهل أنت قويٌّ في عقلك، وفي عِلمك، وفي تطوُّرك، وفي نهضتك، وفي تفكيرك، وفي مشاركتك الفعلية في التنمية...؟
لماذا تغلّبت أمريكا اليوم بقوتها المادية على العالَم؟
هل لأنها كانت تُكثر من المحاضرات وتجيدها وتوزّعها على الناس، أم أنها كانت أمة تعمل في الليل والنهار، من طلوع الفجر لا من طلوع الشمس؟
فنظامها العمليُّ، على مستوى ما يعيشه الناس هناك، يبدأ من طلوع الفجر لا من طلوع الشمس، فتجدهم يتحرّكون: هذا إلى جامعته، وذاك إلى عمله، والآخر إلى بحثه... وهكذا حتى تغرب الشمس، فيتناولون وجبتهم الأخيرة، وبعد العشاء بقليل لا تجد واحدًا منهم يقظانًا.
انظروا إلى أمَّةٍ تُطبّق ما يريده الإسلام، لكنها على غير دين الإسلام!
ونحن نـزعم أننا على دين الإسلام، لكن حياتنا تتنافى وتتناقض مع توجيه الإسلام!
اقرؤوا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ) أي غرسة، (فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ)، مع أنَّ الساعة تقوم، لكنَّه تقديسٌ لقيمة العمل.
ازرع فإنها عبادة، حتى لو لم تجنِ من تلك الغرسة ثمارًا، فأنت بنفسِ غرسك للغرسة تتقرَّب إلى الله.
هذا هو منطلقنا النظريُّ الإسلاميّ.
واقرؤوا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإنْ لَمْ يَزْرَعْهَا فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ)، فلا ينبغي أن تكون الأرض مُعطَّلة، وكلُّ نظريات الاقتصاد تعتبر أنَّ الأرضَ هي من أهم عناصر الإنتاج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يريد لهذا العنصر في الأمة أن يكون مُعطَّلاً.
وفي صحيح مسلم: (تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ).
وفي سنن الترمذي ومستدرك الحاكم: (التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ).
وانظروا كيف يتميز منطلقنا النظريُّ الإسلاميُّ، فلا يُحفِّز الإنسان فقط ليندفع إلى التجارة والزراعة والصناعة.. بل يمزج معها قِيَم الأخلاق، وهذا لا نجده في غير الإسلام، لأنه يمزج القيمة الخُلُقية بالتنمية المادية.
واليوم أقام الغرب نهضته على أساس التنمية المادية فقط، وأهمل القيمة الخُلُقية، لكن الإسلام يُقدّم تنمية مادية مع قيمة خُلُقية، وهذا لا تعرفه النظريات المادية التي تعتني بالتنمية المادية فقط.
واقرؤوا في الحديث الصحيح في صحيح مسلم: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً: فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ)، لِتقرأَ ولِتعرفَ معنى الإيمان، وكيف تمتزج في معنى الإيمان القيمةُ المعنوية بالقيمة والتنمية المادية، وبالمحافظة على البيئة، وعلى ما تمتلكه من المادة.
فإماطة الأذى أمرٌ مادِّيٌّ، لكنه جعله في منظور الإيمان مشتركًا مع (لا إله إلا الله) وما تُعطيه من المعاني.
وهكذا نستطيع أن نقدّم منطلقاتنا النظرية الإسلامية لنُقنع الآخرين، ولنقول لهم: إن الإسلام صالحٌ للتطبيق في كل الأصعدة.
أما أن نرفع الشعارات فقط دون أن نقدّم شرحًا مُفصَّلاً، ودون أن نقدّم تفصيلاً دقيقًا يدغدغ ما يحتاج إليه الإنسان، ويمسُّ حاجته، ويُعايشُ واقعه...
وحين لا نكون في تقديمنا النظريِّ على هذا المستوى، ولا نُتبع هذا التقديم بحضورٍ فعليٍّ، فلن نقنع الآخرين بالإسلام.
فلا ينبغي أن نكتفي بمجرَّد التنظير، إنما لا بدَّ أن نُقرِنَ العبادة بالمعاملة، فلا بد أن نتحدَّث عن قيمة الذِكر وقيمةِ الصناعة، ولا بدَّ أن نتحدث عن قيمة الصلاة وقيمة التجارة... وعندها نكون مظهرًا للإنسان المسلم.
وقِفوا طويلاً عند لفظة الإنسان، وما أحوجَنا إلى الإنسان في زمنٍ ضاع فيه الإنسان!
رُدَّنا اللهم إلى دينك ردًّا جميلاً، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.
د. محمود أبو الهدى الحسيني
أعلى الصفحة