الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Articles المقالات
 
الصيامُ والقيامُ منهجٌ تربويٌّ
التربية
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
مقالة نشرت في صحيفة دينية مسيحية
أولاً- تمهيد:
التربية هي كأي مشروع تطويري تتركب من هدم وبناء.
وإن شئت قلت: تتركب من إزالة وإيجاد.
وإن شئت قلت: تتركب من تخلية وتحلية.
وإن شئت قلت: تتركب من ترك وفعل.
فالهدم أو الإزالة أو التخلية أو الترك مفهوم يختصر الرحلة عن الفساد، والبناء أو الإيجاد أو التحلية أو الفعل مفهوم يختصر الرحلة إلى الصلاح.
وفي الإسلام تشريعٌ تربويٌّ يتحقق فيه هذان المفهومان اللذان منهما تتكون التربية.
فالظرف الزمانيُّ لهذا التشريع شهرُ رمضان الذي هو الشهر القمريُّ التاسع من السنة في التقويم القمري أو الهجري الإسلامي.
والظرف المكاني له الأرضُ حيث وجد عليها المسلم، فلا يشترط لحصوله وجوده في المسجد أو بيتِ العبادةِ الخاصِّ.
والمفردتان اللتان تمثلان مفهومي التربية في هذا الشهر الرمضاني، واللتان تكمل كل منهما صاحبتها هما:
1- الصيام: وهو يمثل في العملية التربوية رمزًا من رموز الهدم أو الإزالة أو التخلية أو الترك.
2 – القيام: وهو يمثل في العملية التربوية رمزًا من رموز البناء أو الإيجاد أو التحلية أو الفعل.

ثانيًا- أصول هذا التشريع التربوي في الإسلام:
1- أصل اقتران عبادتي الصيام والقيام معًا:
أصل هذا الاقتران قول النبي الكريم محمدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ رَمَضَانَ شَهْرٌ افْتَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ صِيَامَهُ، وَإِنِّي سَنَنْتُ لِلْمُسْلِمِينَ قِيَامَهُ) ويظهر بهذا النص النبويِّ اجتماعُ الأمرين في عملية تربوية واحدة.

2- أصول عبادة الصيام التشريعية الإسلامية:
إن أصلَ المفردة التربوية الأولى في شهر رمضان التي هي الصيام قولُ الله تعالى في القرآن الكريم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وهذا النص القرآني يؤكد وجود الصيام في الشرائع الأخرى القديمة قبل الإسلام كاليهودية والنصرانية.
2- أصول عبادة القيام التشريعية الإسلامية:
أصل قيام الليل العام في شهر رمضان وغيره قولُ الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1-4]
أما توكيده في شهر رمضان المكمل لعملية التربية المذكورة فأصوله عديدة، منها: قول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ شَهْرَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) .

ثالثًا- توصيف الصيام وثمراته:
أ- نية الصيام قبل طلوع الفجر:
وذلك بقصده عبادة ربه من خلال الامتناع عن الطعام والشراب والمعاشرة الجنسية، ما بين طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس.
قَالَ النَّبِيُّ الكريم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلا صِيَامَ لَهُ) ومعناه: من لم يقصد عبادةَ ربه بذلك الامتناع عن الطعام والشراب والمعاشرة فلا يكون صائمًا، مع تحقُّق صورة الامتناع الظاهرة، لأن قيمة الأعمال لا تظهر إلا بمقاصدها، والأعمالُ مقوَّمَةٌ بِنِيَّاتِها.
ب- صورة الصيام الظاهرة:
هي الامتناع عن الشهوة الغريزية وترك الطعام والشراب.
يقول النَّبِيُّ الكريم محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَأَكْلَهُ وَشُرْبَهُ مِنْ أَجْلِي) .
ولا يُبْطِلُ الصيامَ الأكلُ أو الشربُ في حالة النسيان لهذا الصيام.
يقول النَّبِيُّ الكريم محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا نَسِيَ فَأَكَلَ وَشَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ) .
أما إذا أكل المسلم متعمِّدًا في النهار من شهر رمضان، فعليه التوبةُ إلى الله تعالى وقضاءُ الصيام بعد انقضاء شهر رمضان.
وإذا تجاوز الأكل والشرب متعمدًا إلى المعاشرة الجنسية في النهار من شهر رمضان، فعليه قضاءُ ذلك اليوم بصيامه بعد انقضاء الشهر وصيامُ شهرين متتابعين فوقه كفَّارةً عن ذنبه ذاك، لأنه نـزل إلى أدنى المنازل الحسية في وقتٍ أراد الله له فيه أن يكون في أعلى درجات الروحانية.
وقد خفف الله تعالى عن المرأة في وقت حيضتها (أو عادتها) الشهرية، فأمرها وقتها بترك الصيام، وذلك لأنه وقت اضطراب وظيفي يضعف جسد المرأة فيه.
قَالَتْ عَائِشَةُ زوجة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: (كُنَّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ نَطْهُرُ، فَيَأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصِّيَامِ) أي أن المرأة تقضي الأيام التي لم تصم فيها من شهر رمضان، وذلك في المدة التي تختارها من السنة كلها بعد هذا الشهر المبارك.
ج- ماهية الصيام الباطنة:
حقيقة الصيام الباطنة ترك الأخلاق الذميمة.
يقول النَّبِيُّ الكريم محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلا يَرْفُثْ، وَلا يَجْهَلْ، وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ) .
فمعنى قوله: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ" أي قلعة وحصن يتحصن به من الفساد.
ومعنى قوله: "فَلا يَرْفُثْ" أي فلا ينبغي له أن يتكلم بالكلام البذيء، ولا ينبغي أن يشتغل بمحركات الشهوات.
ومعنى قوله: "وَلا يَجْهَلْ" أي لا ينبغي أن يكون كالجاهلين في معاملاته.
ومعنى قوله: "وَإِنْ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ" يدل على نوعٍ من التذكير بماهية الصيام الحاجزة بين الإنسان والأخلاق السيئة.
ويظهر من كل هذا أن ماهية الصيام هي تدريب على ترك العيوب الباطنة، كما أن صورة الصيام هي تدريب على ترك الكثائف الحسية تمهيدا للارتقاء الروحاني.
د- ثمرة الصيام:
ثمرة الصيام التقوى، وقد دل عليها قول الله تعالى في القرآن الكريم: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] فلما كان الصيام تركًا خاصًّا لبعض المذمومات، كان كالتدريب على الترك العامِّ لكل المذمومات، وهذا الترك العامُّ للمذمومات هو التقوى، لذلك قال في الآية: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وبعض المتحققين تصوم أرواحهم عن التعلق بغير الله تعالى، فتكون ثمرةُ صيامهم الاستغراقَ في محبة ربهم، والاستهلاكَ في طلب رضوانه، وهي عبادة الصوفية، وصوم العارفين بالله عن سواه.

رابعًا- توصيف القيام وثمراته:
أ- صورة القيام الظاهرة:
كان قيام الليل في أول الإسلام فريضة، وبقي النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومون أكثر الليل في الصلاة ولا ينامون، وذلك مدة سنة كاملة فريضة من الله تعالى عليهم: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 2-4]، ثم نـزل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] فأصبح القيام تطوُّعًا لا فريضة، وكان التيسير فيه بحيث لا يشترط فيه قيام أكثر الليل، بل يُجزئ أن يصليَ بعض الركعات في الليل ليكون فيه قائمًا.
وقد صلى النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان عشرين ركعة كل ليلة، وصلى بعدها ثلاثًا وِترًا، وكان يصليها في أول الأمر ثمانية ويقتدي به فيها أصحابُه، ثم يدخل إلى بيته فيتمم العشرين والثلاث، وبعدها تَرَكَ صلاةَ القيام في شهر رمضان جماعةً بسبب ما حصل من تزاحم الناس للصلاة خلفه صلى الله عليه وسلم.
ولما كان زمن الخليفة الراشدي الثاني عمر، وحصل توسيع المسجد فصار متسعًا، أعاد الصلاة جماعةً عشرين ركعة وثلاثًا وِترًا، وبقي الأمر كذلك إلى يومنا هذا، فبعض المسلمين يصلونها جماعة عشرين، وبعضهم يصلونها جماعة ثمانية اقتداء بفعل النبي الأول.
ب- ماهية القيام الباطنة وثمرته:
ولئن كان الصيامُ تركًا خاصًّا لبعض المذمومات، وهو ينتج تدريبًا على ترك جميعها تركًا عامًّا، فإن القيام هو سرُّ الروحانية، وهو فعلٌ خاصٌّ لبعض المحبوبات والقُرُبات، وهو تدريبٌ على الالتزام العامِّ بكل المحبوبات والقُرُبات.
يقول النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، وإن قيام الليل قربة إلى الله ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات ومطردة للداء عن الجسد) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار) .
أما سر القيام الباطن فإنه توجُّهٌ روحانيٌّ خالصٌ لله الواحد، فالقائم لا يلاحظ في قيام ليله إلا ربَّه، قال الله تعالى في القرآن الكريم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء: 217-218] فأشار إلى حالة الوصال في القيام، حيث يستشعر القائم رؤية ربِّه له فيها، فيناجيه ويتبتل بين يديه.

خامسًا- الخلاصة:
من كل ما تقدم نلاحظ أن شهر رمضان بصيامه وقيامه، وبتركه وفعله، وبهدمه وبنائه، يمثل دورةً تدريبيةً سنوية، ترتقي بالإنسان بسلوكه الظاهر وروحانيته الباطنة، ليكون بعدها نموذج الإنسان المعطاء، الذي يشع نورًا وبِرًّا وإحسانًا.
أعلى الصفحة