الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
الإحسان في منظور القرآن
في الدراسات القرآنية
سوريا/حلب
3/9/1427
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
من المؤسف أننا في زمنٍ غدت فيه الإساءةُ سائدةً في العالم أكثرَ من الإحسانِ بكثير، فتبنى منهجَ الإساءة كثيرٌ من الأفراد، وكثيرٌ من الجماعات، وكثيرٌ من الدول.
والذين يسيئون أكثرُ من الذين يحسنون، والذين يعتدون أكثرُ من الذين يُنعِمون.
لهذا كان الحديثُ عن الإحسانِ في هذا الوقت تنبيهًا في وقت غفلة، وتذكيرًا في وقت نسيان، وهتافًا في وقتِ غيبة، وثورةً وتمردًا في وقتِ ظُلمٍ وسحقٍ للكرامة.
والإحسان، في اللغة: هو ضدُّ الإساءة، فإذا صنع الشرَّ فقد أساء، وإذا صنع الخير فقد أحسن.
وجعل القرآن الظلمَ ضِدَّ الإحسان، فقال تعالى:
وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(113)الصافات
وأخبر أن الإحسانَ هو أمنية من استحقَّ العذاب يومَ القيامة، قال تعالى:
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ(58)الزمر
وكما أثبت وجود المحسنين من الرجال ؛ أثبت وجود المحسنات من النساء بقوله سبحانه:
فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا(29)الأحزاب
وأثبت محبته تعالى لأهل الإحسان بقوله:
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)المائدة
على أنَّ لفظ الإحسان في منظور القرآن واصطلاحه الخاص يحملُ دلالاتٍ كثيرةً فيها عمقٌ وتفصيل.
فالقرآن الكريم أعطى مفهوم الإحسان مستوياتٍ عدة تترقى من إحسان المعاملة المحسوس، إلى إحسان المال والنفقة، إلى إحسان الفكرة والعقل، إلى إحسان الروح والحال.
ويكون بهذا شاملا لكل الاعتبارات البشرية والإنسانية، محولًا الكائن البشري من فوضويته العبثية إلى رتبة الإنسان المحسن المتألق في الأرض تألقًا ينافس تألق الشمس في السماء.
فما هي دلالات لفظ الإحسان في منظور القرآن.؟
قال تعالى:
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16) كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {21}
وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ {23}الذاريات
والدلالات في هذه الآيات التي تتحدث عن المحسنين تنقسم إلى خمسة:
1- حال القرب الذي يدفع النوم، ويوقف في الليل القوم.
2- العبديةُ الملزمة بالشريعةِ.
3- العلاقة المميزة بالخلق التي جعلتهم بينهم في موقعِ النافعِ المفيد، والخادم المكرم .
4- العقل النابه المتفكر المعتبر.
5- الاستنادُ وقتَ تعاطي أسبابِ المعاش إلى مُسَبب الأسباب واعتمادهم فيها عليه.

1- القرب: كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)

وورد في الكتاب المنير أيضا:
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ {16} السجدة
وأخرج البخاري/ عن الْمُغِيرَةَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ فَقِيلَ لَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا.
قال الصحابي الشاعر عبد الله بن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروفٌ من الصبح ساطعُ
يبيتُ يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ
وأخرج الترمذي/ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ َكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ "
وأخرج البخاري/ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
" لَا حَسَدَ إِلَّا عَلَى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ"
قال ضرار بن ضمْرة الكناني :
"أشهد بالله لقد رأيت عليا وقد أرخي الليل سدوله، وغارت نجومه يميل في محرابه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا يا ربنا، يتضرع إليه ، ثم يقول للدنيا: إلىّ تغررت، إلىّ تشوفت، هيهات هيهات غري غيري قد بتتك ثلاثاً، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير، آه آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق"
وقد فسر النبي r تقاعس الإنسان عن المناجاة في الليل وذلك في الحديث الذي أخرجه
البخاري/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ.
رؤي الجنيد في النوم فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال: طاحت الإشارات، وغابت العبارات، وفنيت العلوم، ونفدت الرسوم. وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في الأسحار.

ويغلب أنَّ الذي يحمل أهلَ القربِ على السهاد في ليلهم أحدُ أحوالٍ ثلاثة:
المحبة، أو الخوف أو الرجاء.

1- أ- المحبة:

قال تعالى :
فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ( المائدة 54 )
وقال سبحانه :وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ (165)البقرة
أيتصور أنَّ المفتون بحبيبٍ مخلوق سيتقلبُ في سهاده، ويتجافى عن رقاده، ولا يتصور ذلك فيمن أحب الجمال المطلق.
أنشد سمنونُ البصريُّ المحب يخاطب مولاه:
شغلتَ قلبي عن الدنيا ولذتها ... فأنت والقلبُ شيءٌ غيرُ مفترقِوما تطابقت الأحداق من سِنَةٍ ... إلا وجدتُك بين الجفنِ والحَدَقوأنشد أيضًا:
تركتَ الفؤادَ عليلاً يعادْ ... وشرّدت نومي فما لي رقادْوأنشد أيضًا:
أحن بأطراف النهار صبابة ... وبالليل يدعوني الهوى فأجيبوأيامنا تفنى وشوقيَ زائد ... كأنَّ زمانَ الشوق ليس يغيبوكان يحيى بن معاذ رحمه الله يقول في ليله:
نفس المحب إلى الحبيب تَطَلَّعُ ..... وفؤادُه من حبه يتقطعُ
عزُّ الحبيب إذا خلا في ليله ...... بحبيبه يشكو إليه ويضرَعُ
ويقومُ في المحراب يشكو بثَّه ... والقلبُ منه إلى المحبة ينـزعوكان في الليل أيضًا يقول في مناجاته:
"إن أعرضت عنا بوجهك الكريم استعطفناك بقول لا إله إلا الله".
وقال الجنيد:
"أشد الأشياء على المحبين أن يغيب عنهم من أحبوه"
وأنشد:
هل من سبيل إلى حبيب... أوقفني موقف العبيد
والله والله لو بداني... بكل ضرب من الصدود
ما كان لي من هواه بد... ولو تقطعت بالوجود

1- ب- الخوف:

الترمذي/ عن أَبَي هُرَيْرَةَ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ" أي سار في الليل، وكأنه بهذا يشير إلى سير القلوب إلى مولاها في الليل، وقد خافت مقامه.
قال تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ {50} النحل
وقال: وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {175} آل عمران
وقال سبحانه : إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ( فاطر 28 )
وقال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} النور
الترمذي/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ .. الحديث
و"بكى عمر بن عبد العزيز فقالت له زوجته فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل، فريقٌ في الجنة وفريق في السعير، قال: ثم صرخَ وغشي عليه.
وقال أبو القاسم الحكيم: من خاف من شيء هرب منه، ومن خاف من الله عزَّ وجل هرب إليه[1].
سمعت النوري يقول: " الخائف يهرب من ربه إلى ربه "[2] .
سمعت أبا سليمان الدارانى يقول: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب[3].
وقال الحسين بن منصور: من خاف من شيء سوى الله عزَّ وجل أو رجا سواه أغلق عليه ابواب كل شيء[4].
ويحكي عن السري السقطي أنه قال: ني لأنظر إلى أنفي في اليوم كذا مرة؛ مخافة أن يكون قد أسود، لما أخافه من العقوبة!! [5].


1- ج- الرجاء:

لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً {21} الأحزاب
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ{9}الزمر
البخاري/ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ.
ونقل أبو سعيد الخزاز : قول بعضهم:
أراعي سواد الليل أنساً بذكره ... وشوقاً إليه غير مستكرِهِ الصبر
ولكنْ سروراً دائماً وتعرضاً ... وقرعًا لباب الرب ذي العز والفخر
قال أبو عثمان المغربي: "من حمل نفسه على الرجاء تعطل، ومن حمل نفسه على الخوف قنط ولكن من هذه مرة، ومن هذه مرة"[6].


2- العبديةُ الملزمة بالشريعةِ: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)

فالاستغفار طلبُ عفو، وهو يتفرع عن الاعتراف بوجود قانونٍ شعر طالب العفوِ بأنه قصَّر في أداء الواجب فيه، أو تجاوزَ في الممنوع منه.
وكان من دعاء النبي r ومناجاته:
"اللَّهُمَّ أنْتَ رَبّي لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا على عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرّ مَا صَنَعْتُ، أبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عليَّ وأبُوءُ بِذَنْبي، فاغْفِرْ لي فإنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أنْتَ"[7]
فلا يصح الإحسانُ مع الإهمال في اعتبار الشريعة وقوانينها الربانية،
قال ذو النون المصري [8]"من علامات المحبِّ لله عزَّ وجلَّ متابعةُ حبيبِ الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه"[9]
وقال أبو يزيدَ البسطامي[10]القائل:"لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات حتى يُرفَع في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة"[11]
وقال(الحلاج)[12]: "كن مع الحق بحكم ما أوجب[13]" أي موافقا الأحكام التي أوجبها عليك في شريعته.
وكان يحيى بن معاذيقول في مناجاته:
"إلهي أعتقد الحب لك طائعاً، وآتي الذنب كارهاً، فهب كراهة ذنبي لطواعية حبي إنك أرحم الراحمين".
وكان يحيى ينشد:
أشكو إليك ذنوباً لست أنكرها ... وقد رجوتك يا ذا المن تغفرها
من قبل سؤلك لي في الحشر يا أملي ... يوم الجزاء على الأهوال تذكرها
أرجوك تغفرها في الحشر يا أملي ... إذ كنت سؤلي كما في الأرض تسترها


3- العلاقة المميزة بالخلق: وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19)

كان النبي r يستقرض المال ليعطيَ منه الفقير[14]، وكان يطلب من بعض الفقراء أن يشتري من السوق ما يحتاجه، وعلى النبي r وفاؤه[15]، وكان r يُرى في وجهه أثر الهم والتعب إذا باتت في بيته بعض الدنانير التي أتته ولم ينفقها بعد[16]، وكانت أسماء بنت أبي بكر لا تمسك في بيتها مالا تدخره للغد[17]،
المستدرك/ عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لأزواجه: (أسرعكن لحوقاً بي أطولكن يداً).
قالت عائشة: فكنا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- نمد أيدينا في الجدار نتطاول. فلم نزل نفعل ذلك، حتى توفيت زينب بنت جحش زوج النبي -صلَّى الله عليه وسلم-، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا. فعرفنا حينئذ أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- إنما أراد بطول اليد: الصدقة.
وكان ابن عمر إذا اشتد حبه للشيء أنفقه[18] ويقرأ قوله تعالى:
(لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ){92}‏آل عمران
و بكى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يوماً، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، وأخاف أن يكون الله تعالى قد أهانني[19].
فالعطاء هو من لوازم الإحسان، ومن آكد أوصاف المحسنين.
قال يحيى بن معاذ: "تأبى القلوب للأسخياء إلا حباً وإن كانوا فجاراً، وللبخلاء إلا بغضاً وإن كانوا أبراراً".
وكان مورّقُ العِجلي يضع عند إخوانه ألف درهم، ويقول: أمسكوها عندكم حتى أعود إليكم. ثم يرسل إليهم: أنتم منها في حلّ[20].
وقيل لقيس بن سعد بن عبادة: هل رأيت أحداً أسخى منك؟ فقال له: نعم؛ نزلنا بالبادية على امرأة، فحضر زوجها، فقالت له: إنه نزل بك ضيفان، فجاء بناقة ونحرها، وقال: شأنكم بها..
فلما كان بالغد جاء بأخرى ونحرها، وقال: شأنكم بها، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرت لنا البارحة إلا اليسير: فقال: إني لا أطعم أضيافي الغابَّ (أي البائت). فبقينا عنده يومين أوثلاثة، والسماء تمطر، وهو يفعل كذلك.
فلما أردنا الرحيل وضعنا له مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه.. ومضينا، فلما مَتَع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام: أعطيتموني ثمن قِراي... ثم إنه لحقنا وقال: لتأخذنه، وإلا طعنتكم برمحي هذا. فأخذناه وانصرف، فأنشأ يقول:
وإذا أخذت ثواب ما أعطيته ... فكفى بذاك لنائلٍ تكديرا[21]
ومرض قيس بن سعد بن عبادة، فاستبطأ إخوانه. فسأل عنهم، فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين؛ فقال: أخزى الله مالا يمنع الإخوان من الزيارة!! ثم أمر من ينادي مَن كان لقيس عليه دين فهو منه في حل، فكسرت عتبته بالعشي، لكثرة من عاده[22].
وقال مطرف بن الشخير: ذا أراد أحدكم مني حاجة فليرفعها في رقعة؟ فإني أكره أن أرى في وجهه ذلّ الحاجة[23].
ولم يناول الأستاذ أبو سهل (الصعلوكي) أحداً شيئاً بيده، كان يطرحه على الأرض ليأخذه الآخذ من الأرض، وكان يقول: الدنيا أقل خطراً من أن أرى لأجلها يدي فوق يد أحد[24].
أنشد عبد الله بن باكويه الصوفي للمتنبي:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ... أن لا نفارقهم فالراحلون همُ[25]
وقال الدقاق: ليس السخاء أن يعطي الواجدُ المعدم، إنما السخاء أن يُعطى المعدمُ الواجد[26].
بل إنَّ عطاءهم تجاوز الإحسان في الإنفاق والمعاملة مع الناس، إلى الإحسان إلى كل مخلوق.
فقد نظر يحيى بن معاذ إلى طاقات ريحانٍ وضعها بعض الصبيان في حجرته وقد ذبلت فأتى بالماء يسقيها فقال له: ما تصنع؟ قال: رأيت هذا الريحان ذابلاً قد جففوه بترك سقيه فاعتُصِر به قلبي فسقيته لأنه هاجت لي فيه عبرة وكأني رأيته يستسقيني بذبوله خاضعاً.
مسلم /عن شَدَّادِ بن أوسٍ رضي اللّه عنه
عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:
"إنَّ اللَّهَ تَعالى كَتَبَ الإِحْسانَ على كُلَ شَيْءٍ"
وقال يحيى بن معاذ: "عبادة العارف في ثلاثة أشياء معاشرة الخلق بالجميل، وإدامة الذكر للجليل، وصحة جسم بين جنبيه قلب عليل".


4- العقل النابه المتفكر المعتبر: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ {20} وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {21}

والقرآن يثير موضوع التفكر والاعتبار كثيرا، فمنه قوله تعالى:
هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ (11)لقمان
ومنه قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنْ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ (43)النور
ومنه قوله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ(27)السجدة
ومنه قوله تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ (18)الحج
وورد في الحديث "تفكر ساعة خير من عبادة سنة"[27]
وقيل لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه من أسلم الناس من العيوب؟
فقال: "من جعل عقله أميره، وحذره وزيره، والموعظة زمامه، والصبر قائده، والاعتصام بالتقوى ظهيره..."[28]
وقال رضي الله عنه: "الخير كله مجموعٌ في أربعة: الصمت والنطق والنظر والحركة، فكل صمت لا يكون في فكرٍ فهو سهو، وكل نطق لا يكون في ذكرٍ فهو لغو، وكل نظر لا يكون في عِبرة فهو غفلة،وكل حركة لا تكون في تعبد فهي فترة" (أي كسل وضعف).
ويظهر من كلام الإمام رضي الله عنه شدة الاهتمام بالتفكر والاعتبار، وهو وصفٌ لازم للمحسن، وقد قال تعالى مؤكدا هذا المعنى:
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ {190} الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {191} آل عمران


5- الاستنادُ وقتَ تعاطي الأسبابِ إلى مُسَبب الأسباب: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ {22} فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ {23}

وهو المختصر بالتوكل، وقد خلط كثير من الناس في فهم التوكل، ففسره بالترك الحسي للأسباب الكونية، وهو فهم مخطئ، قال النبي r:
(من أمسى كالًّا من عمل يديه أمسى مغفوراً له)[29]
وقد جمع النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في الحرب بين درعين، وأقعد الرماة على فم الشعب وخندق حول المدينة، وهاجر وأمر بالهجرة، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وقال: إعقل وتوكل.[30]
وقد أشار إلى عدم تعارض الجمع بين التوكل والعمل الكسبي، سهلُ بن عبد الله التُستَري بقوله: "التوكل حالُ النبي صلى الله عليه وسلم، والكسبُ سنته، فمن بقي على حاله، فلا يتركنَّ سنتَّه"[31].[32]
وعلى هذا فيكون التوكل معنىً قلبيا يرتقي فيه قلب المحسن عن الأشياء، مع بقاء الجسد والجوارح فيها:
سئل الجنيد عن الدنيا ما هي؟ فقال: ما دنا من القلب وشغل عن الله.
وقال أيضا:
أيحسن بالعاقل اللبيب ... أن يعير الدنيا طرفه، أو يوافقها بلحظه؟ وقد سمع سيده ومولاه وهو يقول لأجل أصفيائه وسيد رسله وأنبيائه: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ". " طه 131 ". الآية
فقوله تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون" أي وفي السماء تقدير رزقكم الدنيوي المكتوب
"وما توعدون" أي من رزقكم الأخروي المغيب.
"فورب السماء والأرض إنه لحق" "مثل ما أنكم تنطقون"
أي فكما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
قال الحسن: بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: "فورب السماء والأرض إنه لحق".
قال القرطبي في تفسيره: قال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن؛ قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم؛ قال: فاتل علي منه شيئا؛ فقرأت "والذاريات ذروا" إلى قوله: "وفي السماء رزقكم" فقال: يا أصمعي حسبك! .... وولى نحو البادية وهو يقول: "وفي السماء زرقكم وما توعدون"
قال: ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي وأخذ بيدي وقال: اتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت "والذاريات" حتى وصلت إلى قوله تعالى: "وفي السماء رزقكم وما توعدون" فقال الأعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم؛ يقول الله تبارك وتعالى: "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون" فصاح الأعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجأوه إلى اليمين؟
ولما أرسل الأشعريون رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع قوله تعالى:" وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" [هود: 6] رجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب.[33]
مما تقدم تظهر بعض أبعادِ الإحسان الموصوفة في بعض آيات القرآن الكريم، من سورة الذاريات،فتضمنت أبعادا في الروح والعقل والسلوك، ولا يخفى أن القرآن تناول أبعادًا أخرى له في سور أخرى لكنني أكتفي بما ذكرته كمثال ونموذج.
وأشير إلى أنَّ الإحسان بكل دلالاته داخلٌ في جملة المأمورات الشرعية بنص الكتاب المنير ، قال تعالى:
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(195)البقرة وقال:وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(93)المائدة
ومقتضى الأمر كما يقرر علماؤنا الوجوب إن لم يوجد صارفٌ يصرفه إلى الندب .
وكل ما تقدم من دلالات الإحسان مجموعٌ بقوله r في الحديث وقد سئل عن الإحسان.
فقَالَ : "أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ"[34] فقوله أن تعبد الله تناول الجزء العملي والعقلي، وقوله "كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ" تناول الجزء القلبي والروحي.
أما رواية أحمد في مسنده عن ابن عمر ففيها : قَالَ : تَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَا تَكُ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ، قَالَ : فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَنَا مُحْسِنٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
وأختم بهذه الطرفة العربية:
ففي المثل: ما لي ذَنْب إِلاَّ ذنبُ صُحْرَ؛ هو اسم امرأَة عُوقبت على الإِحسان؛ خرج أبوها وأخوها في إِغارة فأَصابا إِبلاً، فسبق الأخ في الإغارة الأب، فحسده أبوه، ووصل أخوها قبل أبيه فنحرت أُخته صُحْرُ جملا من غَنيمته وصنعت منه طعاماً لعلها تتحِف به أَباها إِذا قدِم، فلما قدِم أبوها قدَّمت له الطعام، فَلَطَمَهَا حسدا لأخيها ولم يكن لها ذنب.




أعلى الصفحة