الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Symposia الندوات
 
تأثير الإسلام في ربط المجتمعات الصحراوية بالبيئة الحضرية
في علم الاجتماع العمراني الاسلامي ندوة التنمية العمرانية في المناطق الصحراوية
السعودية/الرياض
2002-12-04
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني  
1 – المقدمة :
بين المجتمع الصحراوي (باستعداداته الفِطرية) والبيئة الحضرية (المركب المنتظم الجديد) :
بعيداً عن عُقَدِ المادِّيَّة ومركباتها الكثيفة ، تمددت الصحراء على الأرض كالسهل الممتنع من البيان ، وفي كبدها الذي أحرقه حرُّ أيام الصيف ، وأرّقه قرُّ دياجير الشتاء ، تجمعت بعض الروابط الإنسانية التي لم تكن لتخرب صفاء فطرتها ألوانُ التكلف أوتحجبَ أصالتها براقعُ التصنع .
إذا أمعنت النظر في هذه التجمعات الإنسانيةِ رأيت الخير المنبعث عن الفطرة قريبَ المنال منك ، لا يحجبه إلا غطاء رقيق من جفاء المظهر ووحشة المزاج .
قد ألفت البوادي والقفار، ونفرت من قيود القوالب والمناصب ، اصطحبت الإبل والماشية ، وأحبت الأرض والزرع ، آثرت خفيف المسكن ، واكتفت بالضروري منه ، قُوُتُـها الحاضرُ في الوقت من محصود الزرع وخالص الألبان ، فإن أثْرَتْ نحرت الجزور للصحب والأحبة والخلان .
حياتها شمسٌ لم يستر وجهَها البهيَّ سحاب ، وهواءٌ لم يعكر صفوه داءٌ ، ولم يمنع جريان أنسامه حجاب .
اعتادت أن يكثر فيها القريب والحبيب ، واستوحشت من دواوين المحاكم ، وعقاقير الطبيب.
إنها بعض السمات الأصيلة في مجتمعات الصحراء ، لا سيما العربية منها ، ببساطتها وعفويتها ،وأمومتها لكل مجتمعات المدنية اللاحقة لها في الوجود ، فإذا أضيف إلى كل ذلك ما نجده في تاريخها من المكارم شجاعةً وكرماً وحفظاً للعرض ورعايةً للوشائج والأنساب ، وما نقرأه عنها من نخوة واحتشام ؛ فإننا تقف أمام سفر فريد تشتاق النفوس إلى صفائه وإنسانيته ، ولله در فتى الصحراء عنترة إذ يقول :
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها .
إنها الأرض الإنسانية الطيبة ، التي لا يحجبُ العاقلَ ما فيها من الجفوة عما فيها من الخير .
أما التكوين الآخر ، فهو ذلك التجمع الإنساني الذي لحقه التحضر والتطوير ، فانتقل من البسيط في كل شيء إلى المركب منه ، لم يعد يعمل للضروري من القوت والملبس والمأوى ، لكنه استعمل حاجات الترفه ، وأدخل إلى حياته الأدوات الكمالية ، وتفنن في العمران ، وفتح أبواباً من الفنون ، وتحوَّلَ من العادات الفردية والقبلية إلى نظام المدينة والدولة ، وأوجد المؤسسات المنظَّمة ، ووزع الوظائف بين الأفراد ، وحرّك الثروة المالية ونوّعَ مصادرها ، وأنشأ مختلف الصنائع ووسائلها .
و بحث عن العلوم وفتش عن أسباب زيادتها ، وكوَّن المؤسسة العلمية التي ترعاها وتتعهدها بالحفظ والنماء ، وانتقل من حفظ الأمن الفردي إلى حفظه بالدولة والشَرِطة والجيش.
إنه على كلٍّ قد اكتسب تطوراً لكنه - وللحقيقة نقول - خسر في الوقت نفسه كثيراً من الاستعدادات الإنسانية في مجتمع الصحراء ، فتأثرت بسبب تعقيد المآكل والمشارب صحته ، وتراجعت بسبب كدورات البيئة حيويته ، فليس الماء والهواء والشمس كما هي هناك ، ثم إنه أصبح بسبب هذا التغيير الأقل شجاعة ، والأندر كرماً ، والأبعد عن الحمِيَّة والاحتشام ( أنظر مقدمة ابن خلدون ص 134-135-136-142-460 ) .

2 – صلة الإسلام بكل من التجمعين الصحراوي والحضري :
الإسلام - وهو دين الله تعالى الذي أنزله إلى الناس كافة - لم يكن مخاطباً فرداً دون فرد ، ولا تجمعاً دون آخر، إنه رفع نداء الأمة الإنسانية الواحدة ، التي تقف في ساحة المعنى الواحد للعبودية ، متساوية بين يدي رب واحد : إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (الأنبياء 92)
وليس غريباً إذاً أن نجد هذا الإسلام يعتبر كُلاً من التجمعين الإنسانيين المذكورين ، ويحترم خصوصية كل منهما فلا يلغي أحدهما ولا يدعو إلى زوال أي منهما لكنه يرتقي به إلى الكمال ويضفي عليه سمات جديدة لم تكن فيه من قبل ، ثم هو بعالميته لا يعطيه الاستقلالية المنغلقة ؛ بل يصل بينه وبين التجمع الآخر بروابط فريدة لم يُسبَق بمثلها ، محققاً تكاملاً عجيباً في أمة إنسانية واحدة ليست هي في الحقيقة إلا أسرة كبيرة قد تفرعت عن أب واحد .
2 – 1 كيف اعتبر الإسلام وجود المجتمع الصحراوي واحترم خصوصيته :
إن الإسلام مع دعوته إلى الإعمار بخطابه : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) ( هود 61 ) وحكاياته عن الصناعات الثقيلة : ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) الكهف{96} ، ودعوته إلى زيادة العلم : (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)(طه114)، تراه يُفرد للطبيعة حديثاً يتناغم مع أحاسيس الإنسان ، ويخص المجتمع البدوي بمخاطباتٍ تدغدغ أعماقه فيورد مفرداته التي يعيشها بكرة وعشياً بلغة جمالية بديعة ، ويصل بينها وبين حقائق توحيد الله تعالى ، لتكون النعمة موصولة بعطاء منعمها سبحانه ، واقرأ في الكتاب الكريم :
( وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )(5 -11) النحل
( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ(80-81) النحل
( أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (17-20) الغاشية
قال بعض الأعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير (تفسير ابن كثير ج1 ص88).
إنها لغة قد لا نجدها في المجتمعات التي التهمتها المادية الطاغية حتى أنستها غير ما هي فيه من الاشتغال بالتقانة والوسائل الجديدة ، والآلات المستحدثة ومصادر الطاقة ، وكاد الإنسان في المجتمع الجديد يصبح آلة متحركة بين الآلات ، ومصلحةً بين المصالح .
أما الإسلام فإنه حافظ في دعوته على التوازن بين حاجة الإنسان إلى التطوير ودوام مواصلته لجذور إنسانيته وعفويةِ أصالته ، وهكذا دعا في بعض الأوقات دعوة صريحة إلى المجتمع الصحراوي للإفادة من خصوصيته : فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قبيلة أسلم أن تقصد البادية مستشفية بها حين أصابها وجع وقال لهم : يا أسلم أبدوا (عزاه في كنز العمال إلى أبي نعيم – مسند سلمة بن الأكوع )
وقال صلى الله عليه وسلم : إن زاهرا باديتنا ، ونحن حاضروه (البغوي عن أنس – كما في الكنز - الحديث رقم 8327 ، ومسند الإمام أحمد في مسند أنس بن مالك)
قال المناوي في شرح هذا الحديث : إذا تذكرنا البادية سكن قلبنا بمشاهدته (فيض القدير ، شرح الجامع الصغير – الحديث رقم 2275) ، ومعناه أنه صلى الله عليه وسلم يحِنُّ إلى البادية ويشتاق إليها ، فيسكن قلبه برؤية واحد من أبنائها البررة ، فيكون – مما تقدم - معنى الاستشفاءِ بالبادية متصلاً بالجسد والنفس .
وقال المناوي في شرحه أيضاً للحديث المتقدم : إذا احتجنا متاع البادية جاء به إلينا فأغنانا عن الرحيل (فيض القدير ، شرح الجامع الصغير) ، وهو بهذا يشير إلى المجتمع البدوي الصحراوي كمصدر هام من مصادر الحاجة التي لا يستغنى عنها .
إضافة إلى ما ذكر فإن في المجتمع الصحراوي خصوصية يهتم المسلمون بها وهي خصوصيته اللغوية فها هو الإمام الشافعي رحمه الله منذ نعومة أظفاره ، يرحل إلى البادية يطلب فيها اللغة والأدب والشعر ، ويلازم هُذيلا عشر سنوات – وقيل عشرين - فيتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها ( أنظر البداية والنهاية لابن كثير )، وقد قال مصعب الزبيري : كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هُذيل حفظاً (معجم الأدباء" لياقوت الحموي 299:17 ، كذا في تقدمة الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة لموطأ الإمام مالك رواية محمد بن الحسن ).
وقد توهم بعض الناس أن الإسلام ألصق الكفر والنفاق بجميع سكان البادية–، آخذين هذا الحكم العام من قوله تعالى : ( الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (التوبة -97) والأعراب في اللغة سكان البادية .
ولو أنهم تابعوا التلاوة في الكتاب الكريم لوجدوا بعد آيتين قوله تعالى : وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة -99) وهذا صريح في إخراج المؤمنين من ذلك الحكم العام الواهم .
وتروي الصحابية البدوية أم سنبلة فتقول : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدية فأبين نساءُ النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذنها وقلن: إنا لا نأخذ هدية. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"خذوا هدية أم سنبلة فهي أم باديتنا ونحن أهل حضرتها .
وتروي أم المؤمنين عائشة قصة هذه البدوية فتقول : أهدت أم سنبلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناً فلم تجده فقلت لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا أن نأكل من طعام الأعراب ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه فقال: "ما هذا معك يا أم سنبلة؟" قالت: لبن أهديته لك يا رسول الله. قال: "اسكبي أم سنبلة". فسكبَتْ فقال: "ناولي أبا بكر". ففعلت فقال: "اسكبي أم سنبلة". فسكبت قال : "فناولي عائشة" …قال: "اسكبي أم سنبلة" فسكبت فناولته رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب . تقول عائشة : ..يا رسول الله قد كنت حدثت أنك نهيت عن طعام الأعراب! فقال: "يا عائشة إنهم ليسوا بأعراب هم أهل باديتنا ونحن [أهل] حاضرتهم وإذا دعوا أجابوا فليسوا بأعراب".
(رواهما أحمد وأبو يعلى والبزار ورجال أحمد رجال الصحيح - كذا في مجمع الزوائد للحافظ الهيثمي - كتاب البيوع - الحديثان : 6732 - 6733)
ولما طُعِنَ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأوصى الخليفة من بعده فقال : وأوصيه بالأعراب خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام . ‏( صحيح البخاري - باب: قصة البيعة - الحديث رقم 3497 ).
وقَالَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه : نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةَ الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ (‏صحيح مسلم - كتاب الإيمان باب السؤال عن أركان الإسلام ).
وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سكنوا البادية زاهر بن حرام الأشجعي ، وحازم بن حرام الجذامي ، وأبو شجرة السلمي ، وأبو قيس الجهني ، وأم سنبلة الأسلمية وغيرهم كثير (أنظر الإصابة لابن حجر) .
وما تقدم يكفي للدلالة على اعتبار الإسلام لمجتمع البادية وأبنائها ، واحترامه لخصوصيته ومزاياه .
2–2 كيف كان للإسلام بمعانيه الروحية أثر في تعديل قسوة المزاج الصحراوي :
لم يكن الإسلام ديناً منظماً للسلوك العملي وحسب ، لكنه اتسم أيضاً بآثاره الأخلاقية الرفيعة ، ومعانيه الروحية السامية ، وهكذا فإن جفاء البدوي ونفرته من غير قرابته وأهل نسبه تحولت بعد دخول الإيمان في قلبه إلى معاني الأخوة في الدين ، وانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمازح ذلك البدوي زاهراً الذي كان دميم الخلقة وكان في الوقت نفسه كريم السجية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره فقال الرجل أرسلني من هذا ؟ فالتفت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يشتري العبد فقال : يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لكنك عند الله لست بكاسد ( أنظر مسند الإمام أحمد في مسند أنس بن مالك والإصابة لابن حجر ‏حرف الزاي المنقوطة [ص:546]. )
أما البدوي ‏ذو الخويصرة فإنه بعفويته وبساطته قام في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فبال فيه فوثب إليه الأصحاب وصاحوا به ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك وقال : ( دَعُوهُ وَلاَ تُزْرِمُوهُ ) فَلَمّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَصَبّهُ عَلَيْهِ . ثُمّ إِنّه صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا لِلْبَوْلِ وَالْقَذَرِ. إِنّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عَزّ وَجَلّ، وَالصّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ".( أنظر صحيح البخاري - 27 - باب: رحمة الناس 5664 ، و‏صحيح مسلم كتاب الطهارة- باب وجوب غسل البول.) ، ويأتي جابر بن سليم – وهو من أبناء البادية - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول : إنا معشر أهل البادية، قوم فينا الجفاء ؛ فعلمني كلمات ينفعني الله بها فيقول له صلى الله عليه وسلم : "أدن" ثلاثا، يقول : فدنوت ويقول صلى الله عليه وسلم : اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما لا يعلم منك فلا تسبه بما تعلم فيه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله تعالى ، يقول جابر: فوالذي نفسي بيده، ما سببت بعده شاة ولا بعيرا ( أخرجه أبو بكر البزار في مسنده كذا في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي في تفسير الآية: 199 من سورة الأعراف ).
وهكذا ارتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك المجتمع وعلمه بسلوكه الكريم وأقواله وأخلاقه فسما به إلى تمام مكارم الأخلاق .
بل إن الإسلام علَّم ذلك المجتمع من الأخلاق ما يحفظ له بها حيواناته :
فعن عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : "لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَىَ مُصِحَ"( أنظر شرح النووي على صحيح مسلم كتاب السلام. باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ولا نوء ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح.).-والمُمْرض : الذي له مرضى من الإبل ، والمصح من كانت إبله صحيحة -[1].
والأمثلة من هديه صلى الله عليه وسلم عديدة ، وما ذكرناه نزر يسير من فيض تلك الشواهد .
2 – 3 كيف اعتبر الإسلام وجود البيئة الحضرية واحترم خصوصيتها :
2 – 3 – 1 امتداحُ القرآن الكريم أكثرَ من بيئة حضرية : فمنها البيئة الحضرية في سبأ ، قال تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (سبأ –15) ، ذكرها في معرض الثناء والامتنان على العباد بالنعم قبل أن يقع أولئك القوم في كفرانها ، وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) (سبأ-18) ، فامتن تعالى عليهم بتقارب القرى وكثرتها ، ويسرِ أسفارهم بسببها ، ووفرة أمنها و عموم أرزاقها .
ومنها البيئة الحضرية زمن سليمانَ عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى : ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ) (سبأ-13) ، وقال تعالى حاكياً خطاب سليمانَ لبلقيس : ( قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (النمل- 44 )
ومنها البيئة الحضرية زمن يوسفَ عليه الصلاة والسلام حين كان عزيز مصر ، قال تعالى :( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ ) ( يوسف -99) ، وذكر قول يوسف لإخوته : ( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ ) (يوسف-100)
2 – 3 – 2 إرسال الله تعالى جميعَ الرسل من البيئة الحضرية : قال تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ) (يوسف-109) ، وهي من حكم الله تعالى البديعة لأن الرسالة يناسبها أن تكون في مركز ثابت مستقر ، والمجتمعات الصحراوية تتسم بالتحول والانتقال .
2 – 3 – 3 امتداح التواصل القرشي مع بيئتين حضريتين : جعل الله تعالى من أسباب إيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، والرحلتان تمثلان - بالإضافة إلى المكسب التجاري - تواصلاً بين قريش وبين بيئتين حضريتين في اليمن والشام ، فهو إبعاد عن وحشة البداوة وتقريب للائتلاف الحضري ، وجاء في الحديث النبوي : من بدا جفا ( أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهما ) قال في النهاية: من بدا جفا أي من سكن البادية غلظ طبعه لقلة مخالطة الناس ( كذا في تحفة الأحوذي – كتاب الحج )
2 – 3 – 4 تكرار القرآن الكريم لنعمة الأمن عند ذكر البيئة الحضرية : ومن الأمثلة عليه قوله تعـالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) (النحل -112) ، فالتجمع الحضري أكثر أمنا ، اللهم إلا في زمن الحروب .
واقرأ في الكتاب الكريم كيف سألَ اللهَ تعالى خليلُ الرحمن إبراهيمُ أن يتحول الوادي المقفر من كل شيء إلى بلدة تجبى إليها الثمرات ، وبيئة حضرية تتمتع بالأمن ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا ءامِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ ) (البقرة -126) .
2 – 4 كيف أنشأ الإسلام البيئة المدنية المتحضرة بسماتها الإنسانية الجديدة :
كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة بعد بعثته الكريمة مجتهداً في بناء الأفراد ، ولما انتقل إلى المدينة المنورة بدأ مرحلة بناء المجتمع والدولة ، فأسس بيئة حضرية نموذجية بكل مقوماتها ، منها :
2 – 4 –1 بناءُ المسجد النبوي : وهو يعني نهاية التنقل وبداية الاستقرار في المكان ،وهو عنصر هام يفصل بين البداوة والحضارة ، ويعني في الوقت نفسه إنشاء مركز للحكم ، على رأسه الحاكم بأمره تعالى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه ، وهذا بلا شك من أبرز سمات البيئة الحضرية .
وحض صلى الله عليه وسلم على بناء المساجد ، وهي عنصر من عناصر التطور العمراني في البيئة الحضرية .
قال صلى الله عليه وسلم : مَنْ بَنَىَ مَسْجِداً للّهِ بَنَىَ اللّهُ لَهُ فِي الْجَنّةِ مِثْلَه ( صحيح مسلم باب فضل بناء المساجد. الحديث رقم 533)
2 – 4 –2 مَنْحُ التعليمِ دوراً متميزاً : لم يقف دور التعليم عند حدود اللغة العربية لكنه تعداها إلى اللغات الأخرى المحيطة ، فقد أمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم السريانية والعبرانية ، (أنظر الحديث الذي أخرجه الترمذي برقم 2639 ، وكذا الحديث مع شرحه في ‏تحفة الأحوذي للمباركفوري الحديث رقم 2787) ، وحضَّ كذلك على التعليم فقال : مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا فَلَهُ أَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الْعَامِلِ (سنن ابن ماجه 236 )
وجعل بعد غزوة بدر من فداء الأسرى تعليم أبناء المسلمين ( ‏مجمع الزوائد. للحافظ الهيثمي - كتاب البيوع. الحديث رقم: 6451- عزاه لأحمد)
2 – 4 –3 إنشاء علاقات إنسانية متميزة في ذلك التجمع الحضري : كإفشاء السلام وإطعام الطعام ، ورعاية الجار ، والتآخي والحب في الله تعالى ( أنظر سنن الترمذي الحديث 2409).
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ ( البخاري – كتاب المظالم2283)
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ ( البخاري – كتاب الأدب 5559)
2 – 4 –4 الحض على الصنائع المتعددة : وهي من لوازم البيئة الحضرية ، فعَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ!، أَيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ .. وكان من جوابه صلى الله عليه وسلم : "تُعِينُ صَانِعا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ" (صحيح مسلم – باب بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال 136) .
وقال‏ صلى الله عليه وسلم: ما أكل أحد طعاما قط، خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده (صحيح البخاري-كتاب البيوع. باب: كسب الرجل وعمله بيده. رقم: 1966)
2 – 4 –5 تشجيع الزراعة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ‏ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة (صحيح البخاري – باب: فضل الزرع والغرس إذا أُكِلَ منه. 2195) ، والزراعة المحدودة لا تتعارض مع البيئة الحضرية .
2 – 4 –6 اعتبار مكانة الطب : فقد ورد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا بِهِ جُرْحٌ فَقَالَ : ادْعُوا لَهُ طَبِيبَ بَنِي فُلَانٍ قَالَ فَدَعَوْهُ فَجَاءَ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَيُغْنِي الدَّوَاءُ شَيْئًا فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَهَلْ أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ دَاءٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا جَعَلَ لَهُ شِفَاءً (مسند أحمد- 22074)
2 – 4 –7 دخول نظام عمراني إسلامي جديد للمساكن : إن التشريع الإسلامي الأُسَرِي ، قاد إلى نظام عمراني جديد يؤمن للمجتمع دقة التطبيق لهذا التشريع ، فتميز المسكن الإسلامي بسمات منها :
أ –سعة المسكن : قال صلى الله عليه وسلم : ثلاثة من السعادة وثلاثة من الشقاء( وذكر من الثلاثة الأولى): الدار تكون واسعة كثيرة المرافق. ( وذكر من الثلاثة الثانية): الدار تكون ضيقة قليلة المرافق (الحاكم في المستدرك كذا في الجامع الصغير للسيوطي برقم 3508وقال حسن )
وتعليقاً على حديث النبي صلى الله عليه وسلم : "الشّؤْمُ في ثَلاَثَةٍ: في المَرْأَةِ وَالمَسْكَنِ وَالدّابّةِ".
قال الخطابي : المراد من شؤم الدار ضيقها وسوء جوارها .(تحفة الأحوذي للمباركفوري الحديث 2900)
ب –الإحراز : والإحراز في المسكن تحصينه بما يحفظه ويمنع عنه السارق ، ولا يطبق حد السرقة في الشريعة الإسلامية على من أخذ مالاً أو متاعاً لا إحراز له ، وهذا الحكم الشرعي يقود المسلم إلى تحصين مسكنه ، بما يحقق له الإحراز لمتاعه ( أنظر الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري الجزء الثالث مباحث الشركة).
ج – الستر لسكان الدار ، والجوار : وهي سمة هامة وجدت بسبب تشريع الحجاب للمرأة في الإسلام ، ووجوب ستر العورات ، وحكم الاستئذان ، قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
"لا يَحِلُّ لإِمْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ في جَوفِ بَيْتِ إِمرئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِنَ، فَإِنْ نَظَرَ فَقَدْ دَخَلَ (سنن الترمذي - بَابُ مَا جَاءَ في كَرَاهِيةِ أَنْ يَخُصَّ الإِمَامُ نَفْسَهُ بالدُّعَاءِ. الحديث رقم354)
وقال صلى الله عليه وسلم.: "مَنِ اطّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ، فَقَدْ حَلّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَؤُوا عَيْنَهُ"(صحيح مسلم كتاب الاَداب - باب تحريم النظر في بيت غيره.).
ولو فتح ساكن الدار نافذة في حائط بيته بينه وبين جاره وكانت تلك النافذة تطل على بيت جاره بحيث يستطيع المار أن ينظر من خلالها يقضى عليه بسدها ( انظر مجلة الأحكام الشرعية المادة 1202 ، والفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري الجزء الثالث مباحث الشركة).
د – الحق لصاحب المسكن في منع معكرات البيئة ومكدراتها : قال صلى الله عليه وسلم : لا ضرر ولا ضرار ( الجامع الصغير رقم: 9899 عزاه السيوطي لأحمد في مسنده وابن ماجه وقال : حسن‏ )
فلساكن الدار الحق الشرعي في منع الجوار من إحداث ما يتصاعد منه دخان يضر به أو بمسكنه كحمام مؤذية أو مطبخ أو فرن تتصاعد منه الأبخرة المؤذية ، وكذلك له الحق في منع إحداث ما تخرج منه رائحة كريهة ، وله أن يمنع التذرية أو إحداث بيدرٍ قرب داره وما يجيء منه الغبار المؤذي (انظر مجلة الأحكام الشرعية المادة 1200).
وله أن يمنع إحداث ما يمنع الضوء والشمس عنه ( انظر الفقه على المذاهب الأربعة لعبد الرحمن الجزيري الجزء الثالث مباحث الشركة).
وكذلك فله أن يمنع إحداث بناء مرتفع يسد مهب الريح (انظر مجلة الأحكام الشرعية المادة 1200).
ولساكن الدار الحق في تحويل أغصان شجرةِ جاره التي حجبت عنه الهواء (حاشية البجيرمي على شرح المنهج ج3ص13)
هـ – الحق لصاحب الدار في إحداث منفذ لدخول الشمس والضوء (انظر الإقناع ج2ص32) .
وأقدم على هامش هذا البحث نموذج منزل بسيط قديم موجود في بلدنا ( مدينة حلب – سورية ) ، يحقق ما تقدم من الوصف الإسلامي للمسكن ( شكل 1 ) ، كما يحقق كثيراً من الشروط الاجتماعية والصحية .





( شكل 1) مخطط لمنزل قديم في مدينة حلب
كما أذكر – في هذا الهامش - نموذج تخطيط عمراني لمدينة إسلامية مستفاد من تخطيط بغداد المنصور ، يصلح أن يكون محل دراسة ونظر (مجلد الأبحاث في المؤتمر العلمي الثاني لهيئة المعماريين العرب ج2 – طاقة التطور الكامنة في بنى المدن العربية الإسلامية – حالة بغداد المنصور للباحث د. ماجد دبابو)،(شكل3)، وهو نموذج يراعي عنصر التوسع التلقائي ويحافظ على الشروط الموضوعة قبل التوسع ، كما أنه يذكِّر بالتوسع الكوني المجَرّي ، قال تعالى : ( وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ) (الذاريات 47)( شكل 2).












( شكل 2 ) لمجرة سماوية في الفضاء الكوني استوحي منها تخطيط المدينة الإسلامية








( شكل 3 ) تخطيط المدينة الإسلامية المقترح من قبل د. دبابو


3 – الروابط الإسلامية بين المجتمع الصحراوي والبيئة الحضرية :
3 – 1 المساواة في المنزلة بين التجمعين :
لقد أقام الإسلام العلاقات الإنسانية بين البشر على المساواة ، فلم يكن عنصرياً ولا قبلياً ولا قومياً ، بل كان مؤسس العالمية بحق ، وقرر النبي صلى الله عليه وسلم هذه المساواة في خطبته الجامعة وكان فيها :
يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى (مسند الإمام أحمد - من مسند الأنصار).
والأصل فيه قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (الحجرات 13) ، وقال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) (الحج25) ، قال الإسماعيلي في تفسيرها : البادي الذي يكون في البدو.(فتح الباري،شرح صحيح البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني-كتاب الحج-باب تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا) ، وعلى هذا التفسير فالمساواة مصرح بها في هذا الموطن بين البدوي والحضري ، وكذلك صرح القرآن الكريم بالمساواة بينهما في التكليف بالنفير ، قال تعالى : ( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( التوبة 120-121) .
وإن إلزام المهاجرين بالمكث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم إلزام أبناء البادية بذلك ؛ والاكتفاء باستدعائهم عند الضرورة للجهاد ، يبقي على التجمع الصحراوي بمقوماته ، ويحول دون زواله .
3 – 2 التنقل المتبادل بين التجمعين :
قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسلم : أنتم باديتنا ونحن حاضرتكم ، إذا دعوتمونا أجبناكم، وإذا دعوناكم أجبتمونا، أنتم المهاجرون حيث كنتم( أخرجه أبو نعيم كذا في الكنز -المجلد الرابع عشر38018).
والنص يشير إلى التنقل المتبادل ، ففي البادية حاجة إلى ما في البيئة الحضرية من صناعة و طب و ثقافة وسياسة وما فيها من مركزية علمية و دينية ، وفي التجمع الحضري حاجة إلى ما في البادية من اللحوم والألبان ومنتجات الأرض ، وفيه حاجات جسدية ونفسية إلى ما فيها من الأجواء الساكنة والصافية من كل ما يغير صحة الجسد وسلامة النفس .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجهز زاهراً إذا أراد الخروج إلى البادية (الإصابة، لابن حجر 2780 )
3 – 3 الهدايا والهبات المتبادلة بين التجمعين :
ومنه ما ورد من أن حازم بن حرام الجذامي – وهو من أهل البادية -أهدى النبي صلى الله عليه وسلم صيداً من الأردن فقبله وكساه عمامة عدنية وسماه مطعماً ( الإصابة، لابن حجر 1537).
وكذلك قبوله – كما تقدم- هدية البدوية أم سنبلة ، وإكرامه صلى الله عليه وسلم لها .
3 – 4 حفظ الإسلام لكل من التجمعين عند المعاملات التجارية والمالية :
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا تَلَقَّوْا الرُّكْبَانَ وَلَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ ( البخاري2013).
قال النووي: والمراد به أن يقدم غريب من البادية أو من بلد آخر بمتاع تعم الحاجة إليه ليبيعه بسعر يومه فيقول له البلدي اتركه عندي لأبيعه على التدريج بأغلى (‏تحفة الأحوذي للمباركفوري1220)
وإثمه كما قال بعضهم على الحاضر أما البادي فلا إثم عليه ، وذلك حين يكون المتاع مما تعم الحاجة إليه في ذاته كالطعام ويكفي احتياج طائفة إليه ولو كانوا غير مسلمين (أنظر حاشية البجيرمي على شرح المنهج ج2ص217، و شرح الروض ج2ص38 ) .
وقال عطاء ومجاهد: يجوز بيع الحاضر للبادي لحديث: الدين النصيحة (‏تحفة الأحوذي للمباركفوري1220).
ويجب على الحاضر إذا استشاره البادي أن يشير عليه بما هو الأنفع له(أنظر حاشية البجيرمي على شرح المنهج ج2ص217، و شرح الروض ج2ص38 ) .
3 – 5 خصوصية صلاة الجمعة :
لما كانت صلاة الجمعة لا تجب على أهل الخيام ، وهي واجبة في العمران ، فإن شوق أبناء البادية إليها يحركهم إلى العمران ، أو يسوقهم إلى تنمية عمرانية مستغنين بذلك عن حياة الخيام ( أنظر حاشية البجيرمي على شرح المنهج ج 1ص382 و حاشية إعانة الطالبين ج 2ص59) .

4 - الخلاصة :
إن رغبتنا في تطوير الصلة بين المجتمعات الصحراوية والبيئة الحضرية يدعونا إلى الأمور التالية :
أ- إدخال المفاهيم الإسلامية إلى كل من المجتمع الصحراوي ، والبيئة الحضرية وتعميقُها ، ونشر القيم الروحية الإسلامية والأخلاق الفاضلة فيهما ، وهو سبب هام يبعث الروابط القوية بين هذين التجمعين من جديد، ويحقق الربط الهادف بينهما، ويقود إلى مجتمع متكامل متطورٍ في مادته ومعناه
ب- إن رَسم قواعد التنمية العمرانية في مجتمع الصحراء ينبغي أن لا يعني نقله إلى شكل البيئة الحضرية ، بل إلى شكلٍ يحفظ له خصوصياته الفريدة .
ج- الإفادة من نفائس الأحكام الشرعية الإسلامية في التخطيط العمراني لكل من التجمعين ، وهي تحقق تطوراً عمرانياً ، وتضمن حماية من مكدرات البيئة الحسية والمعنوية ، وتحقق في نفس الوقت الطاعة لله تعالى والعبودية له .
د- النظريات العمرانية الإسلامية في تخطيط المسكن الفردي والتجمعات السكنية ، تقدم نظاماً عمرانياً جامعاً بين الحاجات المادية والصحية والدينية ، فينبغي اعتبارها في التخطيط العام ، ونظرية تخطيط المدينة الإسلامية التي اخترتُ عرضها في هذه الندوة ، نموذجٌ أتمنى أن يأخذ حظه من الدراسة والتمحيص .
أعلى الصفحة