الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
20- أسباب المعرفة
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة
15/12/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهمَّ صلِّ على سيِّدِنا محمَّدٍ عبدِك ورسولِك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
يقال اليوم عالميّـًا في ساحة العلم: إنّ الأقوى هو الذي يملك المعلوماتيّة، فمن ملك المعلومة تفوّق على غيره.
وهذه المقولة الشائعة والمتداولة مقولةٌ فيها الحقّ.
أراد الله سبحانه وتعالى لهذه الأمّة أن تكون الأعلى والأكثر في معلوماتها، فنحن نعلم أنّ أوّل كلمةٍ نـزلت من القرآن الكريم: {اقْرَأْ} [العلق: 1]، ولو أنّنا تأمّلنا في كتاب الله تعالى كم ورد لفظ انظروا، سنجد أننا أمام تكرار، انظروا، انظروا، انظروا،... هذه الأمة لو أنها تمسّكت بتوجيه قرآنها والمنهج الذي وضعه القرآن لها لابدّ أنّها ستكون الأوسع في معرفتها، أقول هذا في سياق شرحي البيت الذي وصلنا إليه وهو قوله:
واجْزِمْ بَأَنَّ أَوَّلاً مِما يَجِبْ...........مَعْرِفَةٌ....................

وقد عرّفنا القرآن الكريم إلى الكون بكلّ ما فيه، فأخبرنا عن مكوَّناتٍ كثيرة منها: العرش، وسدرة المنتهى، والجنّة، والكرسيّ، والنّار، والسموات، والأراضين، والملائكة، والجنّ، والقطع المتجاورات في الأرض، والسحاب، والثلج، والبَرَد، والتين، والزيتون، والأنهار، والبحار، والجبال، ولم يكن القرآن وهو يقدّم لنا المعلومات في عالمنا المحسوس مقدّمًا لنا كتابَ جيولوجيا أو بيولوجيا... لا.. لكنّه كان يحفّز بحثنا في العالم المحسوس، إذًا أخبرنا القرآن الكريم عن عالمٍ ماديٍّ ملموسٍ وسمّاه المُلك، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، وأخبرنا عن عالمٍ غيـبيّ لطيفٍ لا نصل إليه بالحواس اسمهُ الملكوت، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [يس: 83]، وأخبرنا عن ما لا يمكن للحواس ولا للأشباح ولا للأرواح معرفته وهو وصف رب الكون.
إذًا انظر أمامك في مساحة المعرفة تجدْ منهجًا قرآنيًا يدعو إلى البحث والنّظر والقراءة، والاستزادة من العلم {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، كما أنّه يُخبر عن ما لا تصل إليه مداركنا وحواسنا مثل عالم الملائكة، ويخبرنا مكمّلاً المعرفة عن ربّ الكون. فلو أننا نفهم منهج القرآن، هل يسبقنا من معرفته منحصرة في ساحة التجربة فقط؟!
انظر إلى العالم الماديّ الذي يحكم العالم اليوم تَرى معرفتَه منحصرةً فيما يَلمس ويرى ويُجرّب، هذا مندرج فيما يجب أن نصل إليه فالتجربة منهج دُعينا إليه، لكنّها تُجرى وفق قواعد أساسها المنفعة دون ضرر (لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ)، وقد جعل الله تعالى رسالة سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام رحمةً، والرحمة تعني الإنعام أي زيادة النّعم، إذًا يختصر الله تعالى رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بأنها رسالةٌ تعمُّ العالم بزيادة نِعم، لذلك نجده صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم في الحديث الصحيح يقول: (مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ) فأمامك إذنٌ عامٌّ، ابحث حتى تصل إلى منفعةٍ، فأنت بذلك متقربٌ إلى الله تعالى.
الآن أصحاب المنهج التجريبي اعتمدوا عليه فقط معطلين المعرفة بالملكوت، والمعرفة برب الكون، ومعطلين أسباب المعرفة الأخرى. وما علموا أنّ للمعرفة محاور ثلاثة هي: المنهج التجريبي، والإيمان بالغيب، والإيمان بربّ الشهادة والغيب ربّ المحسوس والمغيّب.
أمّا نحن فقد أعرضنا عن أسباب المعرفة ووقفنا مع المتع، ووقفنا أمام فرديّاتنا وصالحنا الخاص، وما عرفنا أنّ لكلّ واحدٍ منّا وظيفة، قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، من منّا في عالمنا الإسلاميّ أمّة المليار ونصف يستشعر أنّه مستخلَفٌ، قال تعالى: {وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، من منّا عندما يستيقظ في الصباح يستشعر أنّه مستخلَفٌ، من منّا يستشعر أنّه مؤتَمَنٌ على الهواء، والشجر، والبيئة، والماء، وكلِّ شيءٍ موجودٍ، لأنّه الخليفة في الكون؟
لكننا لما نسينا الوظيفة الإنسانية التي من خلالها تظهر الرحمة للعالم، عند ذلك تقوقعنا داخل قوقعة الفردية الخاصة، وتقزّمنا وأصبحنا نصغر ونصغر وأصبح ديدنا الأكل، وأصبحت وظيفتنا أن نـزيد هذا الجسد متعةً، وأصبح كلّ واحدٍ منّا يبحث عن لقمة عيشه في إطار إلغاء وظيفة الإنسان، وما علمنا أنّ حتى الطائر لا يهتمّ للقمة عيشه، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرُزِقْتُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا)، وقال تعالى: {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا} [العنكبوت: 60].
كان السيّد المسيح عليه الصلاة والسلام يقول في تربيته لتلاميذه: "انظروا إلى زنابق الحقل كيف ألبسها الحقّ سبحانه عباءة ورداء ما لبس مثلها سليمان".
فأنت أيها الإنسان تصغُر إلى درجةٍ تكون فيها الطيور وزنابق الحقل أحسن منك!
إذًا عندما ضعُف حافز الإنسان إلى البحث والمعرفة استطاع من ليس لديه إلا المنهج التجريبي الحسي أن يهيمن علينا.
قد يقول قائلٌ: أليس الصراع هو صراع من ملك التجربة فقط؟! إذًا نحن علينا أن نشتغل في المختبرات وأن نتفوق على الغرب أو على الشرق بالمختبرات والمنهج التجريبي؟! أما القضايا الأخرى فهي غيبيات... فإذا آمنّا بربّ الكون ما الذي نستفيده زيادةً على بحثنا في المختبر؟! وإذا عرفنا أنّ هناك ملائكة ما الذي سيُضاف إلى بحثنا في المختبر؟!
نقول له لا... هذا منهجٌ وأسلوبٌ خاطئٌ تفكّر فيه، إذا كنتَ ممن يلاحظ المساحة الغيبية ويؤمن بها، إذا كنت ممن عرف ثم آمن -لأنّ المعرفة غير الإيمان- عرفتَ أنّ هناك ملائكة وأنّه يمكن للإنسان أن يستفيد منها وهكذا نقرأ قوله تعالى فيما حصل في بدرٍ: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125]، إذًا استفاد الإنسان من هذه المعرفة.
كذلك إذا آمنتَ بربّ الكون فإنّك تقرأ قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لاَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55]، {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105].
إذًا تقف عند المختبر فقط ثمّ تدعي أنّك تريد السيادة على الأرض وأنّك لا تريد أن تبقى في هذه المَهانة والذِلة التي يعيشها عالمنا الإسلامي اليوم، يأتي عدونا بطائراته والسماء أمامه مكشوفة فيلقي القنابل والصواريخ علينا!! الشيخ أحمد ياسين رحمة الله عليه وهو خارج من صلاة الصبح يأتي جبانٌ من الطائرة فيلقي عليه صاروخًا، هل هذا يمكن أن يحصل في أمريكا؟! رئيس وزراء منتخب لا يستطيع أن يدخل إلى بلاده لأنّه مسلمٌ، لأنّه مؤمنٌ، لأنّه متوجّهٌ إلى الله تعالى؟!
وهكذا صرنا -أهل الإيمان والإسلام- لا حرمة لنا عند أعدائنا،كلّ ذلك لأنّنا تخلّفنا، وصرنا لا نملك إلا أن ننظّر، ليس عندنا منهج، ليس عندنا تبني، ليس عندنا نهضة، صحيحٌ أنّنا نرى أنّ هناك واحاتٍ يوجد فيها بعض الصالحين المجتهدين... لكن لا يوجد منهجٌ عامٌ ضمن الأمّة الإسلاميّة لذلك صرنا نعيش الهزيمة والذلة والمهانة والتخلف والكسل... لم يعد لنا حرمةٌ، لم يعد لنا مساحةٌ فيها سيادتنا.
قال لي مسؤولٌ عالميٌ عربيٌ في منظمةٍ عالميةٍ: يتهمونني بالتحيّز لأنّني أريد أن آتي بخبراء أجانب وأستغني عن الخبراء المسلمين وما علموا أنّ الإنسان الخبير المسلم لا يريد أن يخترع أو يجرّب، فمنذ عشرين سنة لم نسمع أنّ أحدًا منهم قد خرج ببحثٍ متميزٍ أو اختراعٍ جديدٍ، رغم أنّنا قد أعطيناهم الفرص الكثيرة لكنّ ذلك لم يؤدِّ إلى تغيّر سلوك العمل وإلغاء الترهّل، بالمقابل نرى الأجنبي يأتي من الليل إلى الصباح ومن الصباح إلى الليل، نرى منه دائمًا أبحاثًا جديدةً ومنتجاتٍ جديدةً، نرى تواصله مع العالم، إذًا نحن في أزمةٍ كبرى.
وقد قلتُ مرارًا وتكرارًا: الحركة العمرانية متوجهةٌ إلى أن نبنيَ الجوامع فقط، فأين إذًا جمع المال من أجل الجامعات والمختبرات؟! أين هي النهضة التي نكون فيها أصحابَ إيمانٍ نؤمن بالغيب وبالملكوت وربّ الكون ونقوم بالبحث التجريبي -الذي فيه البحث والنظر والاكتشاف- على اعتبار أنّ المطلوب منّا في دائرة المعرفة هذه المحاور جميعها؟!
علماؤنا الذين اشتغلوا في عصر النهضة كالذهبي في العصر العبّاسيّ ترجموا ما كان في الحضارات -دون أن يُترجموا العقائد الفاسدة والوثنيات- وأخذوا ما يُفيد في المنهج التجريبي، ثم دخلوا إلى المختبر واكتشفوا، وقد وجدنا كيف سرق الغرب هذه المكتشفات، فالدورة الدموية الصغرى اكتشفها ابن النفيس ونسبوها كذبًا إلى هارفي، والمنعكس الشَرطيّ ذكره الإمام الغزاليّ ونُسب بهتانًا إلى بافلوف، ووجدنا كيف أُحرقت مكتبات الأندلس وتُرجمت إلى اللغات الأخرى وسُرقت حضارتنا ونهضتنا.
الآن ألا ينبغي أن نربط بين هذه الأمور الثلاثة، لكننا إذا دخلنا إلى جامعاتنا وجدنا أننا:
أولاً: نكرر نفس المنهج الغربي، فنكرر كالببغاوات اللغة الإلحاديّة البعيدة تمامًا عن الإيمان بالغيب، أي أنّنا نربّي جيلاً على نفس المنهج التجريبي المنحصر في هذه المساحة، أي أنّنا كأمّة إسلاميّة نتبنى الإسلام ونعشق القرآن ليس لنا هُويّة، لذلك نرى أنّ الكتب في جامعاتنا هي ترجمةٌ لكتبٍ قديمةٍ غربيّةٍ، كذلك لا يوجد لدينا بنك معلوماتٍ إسلاميّ يُترجم المعلومات آنيًا لأنّنا لا ندرك قيمة هذا في المنهج الموصل إلى المعرفة.
ثانيًا: المعرفة بالغيب مهمّشةٌ، فلا يوجد في كتبنا ولا في تدريسنا لمساتٌ أو بصماتٌ تدل على هُويّتنا الإسلاميّة أبدًا فلا تجد رائحة الربط بالغيب ولا يوجد شيءٌ اسمه المعرفة بربّ الكون، أما عندما تدرس تاريخ الطبّ التي كتبها أطباؤنا المسلمون مثلاً تجد أنّهم يربطون الشفاء بالغيب لذلك تجدهم يقولون إذا أخذ المريضُ الدواءَ فيُشفى بإذن الله، وهذا إذن الله لم يعد الآن موجودًا في كتبنا بل وفي قاموسنا! كذلك فإنّ مادة في فقه الطبيب –حيث كان الطبيب يدّرس إنسانيًا-لم تعد موجودة، إذًا اللغة التي تتعامل مع الغيب ضمن مساحة المعرفة مفقودةٌ.
ثالثًا: العلم بالسلوك الإنسانيّ، أي أنّ فقه الإنسان في سلوكه مفقودٌ غير موجود وبالتالي نحن نجترّ بعض الفتات من الآخرين... أمّا أن يكون لنا استقلالُ هُويةٍ مع الاستفادة من كلّ ما وصل إليه الآخرون فهذا غير موجود عندنا، والمنهج التجريبي الذي نحن عليه هو عبارة عن فتات لا قيمه له كثيرًا.
إذًا ستبقى سماؤنا مفتوحة، وسنبقى مهمشين، وسنبقى راكعين ننتظر إذنَ عدوّنا مادُمنا متخلين عن الغيب، تخليتا عن الغيب فتخلى الغيب عنّا، وكسلنا في المنهج التجريبي فهُمّشْنا، هذا حاصل إذا لم نصحوا ونتحرك باتجاه المعرفة لذلك قال:
واجْزِمْ بَأَنَّ أَوَّلاً مِما يَجِبْ............. مَعْرِفَةٌ....................

إذًا نحن الشعوبَ الإسلاميةَ بحاجةٍ إلى المعرفة، فإذا فهمتِ الشعوب الإسلاميّة أنّ المعرفة سرّ وجودها عند ذلك تبدأ تفكّر بالمشروع الحضاريّ الإسلاميّ المرتبط بالغيب، فإذا كنّا نسير وفق منهجنا الذي أعطانا الله إيّاه في قرآننا فإنّ كلّ ما نتحرك فيه نتحركه بمنهجٍ تجريبيّ مرتبطٍ بالغيب وربّ الغيب والشهادة، وهذا ينبغي أن يكون حاضرًا عندنا وعند شبابنا وأطفالنا بل وأساتذتنا، لاسيّما وأنّ العالم الإسلاميّ في هذا الوقت يتململ وينفض ريشه ويحاول أن يرى طريقًا يرى من خلاله منفذًا يخرجه عن هذه الحالة المزرية المهينة...
وبحسب استقراءٍ للآيات القرآنية التي وردت في لفظ المعرفة فإنّ للمعرفة أسبابًا ثلاثة:
1- الخبر الصادق: فكنتَ لا تعرف شيئًا فجاءك خبرٌ صادقٌ مُعَرِّفٌ فعرفتَ، ونستطيع أن نأخذ هذا المعنى من قوله سبحانه وتعالى في سورة محمّد صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلم: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 4-6] فلم يعرفوا الجنّة برؤيتها ولا بالأدلّة العقليّة بل عرفوها بالخبر فعرّفها الله لهم، وهذا أول طريق يوصل إلى المعرفة، وقد أصبحنا وللأسف نجد بعض مثقفينا عندما نتحدّث إليهم عن الغيب مع المنهج التجريبيّ نجد أنّهم لا يريدون الحديث عن الغيب، بل ويطلبون الحديث عن المنهج التجريبيّ فقط، لذلك تراهم يقولون أوجدوا لنا مخابر وجامعات ومراكز بحث لكن لا تحكوا لنا عن أنّ الله وملائكته يؤيدون عباد الله!! يا سبحان الله قد جاء الخبر الصادق بأنّ لله جنودًا، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَ هُوَ} [المدثر: 31]، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل1]، فأين المنهج التجريبيّ في هذه الحادثة؟ نظر عبد المطلب وقتها فوجد أنّه لا يوجد تكافؤ أبدًا فقال: إنّ للبيت ربًّا يحيمه، لأن الأسباب منقطعة.
وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، إذًا هناك غيبُ الانفعال في الأفعال العامّة، فلا يمكن أن نعتمد على المنهج التجريبيّ فقط ولابدّ من عنصر الغيب، وسنفشل ونفشل ونفشل ولن نتفوق على أعدائنا حتى نعيد إلى مساحتنا المحاور الثلاثة في المعرفة.
2- العلامات والدلائل والآيات التي تظهر فتعرف ما وراءها: وهذا هو عين التعقّل، فالتعقل أن ترى علامةً أو أثرًا ثم تصل من الأثر إلى معادلةٍ عقليةٍ تستدلّ من خلالها على المؤثّر، فإذا دخلت غرفةً ووجدت فيها هوية فلان، فتستدل بعقلك من خلال العلامة التي رأيتها أنّ فلانًا قد دخل الغرفة وسقطت هويته فيها مع أنّك لم ترى فلانًا، لكنّك رأيت علامةً دلّت على المعرفة من خلال نظر العقل.
ويمكن أن نقرأ السبب الثاني للمعرفة في آيات في القرآن، على سبيل المثال: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاً بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف: 46]، يعني يعرفون أهو من أهل الجنّة أم من أهل النار، من أي شيء يعرفونه؟ يعرفونه من علامته رغم أنّهم لم يروا أنه من أهل الجنة أم من أهل النار، فإذا وجدوا نوره منطفئًا لا نور له إذًا هذا ظاهر أنّه سيقع في نار جهنّم المظلمة السوداء سرعان ما يضع قدمه على الصراط، أمّا المؤمن الذي يسعى نوره بين يديه فلا يمكن أن يقع، {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12]، إذًا أهل الأعراف الذين وقفوا على الصراط يعرفون أنّ هذا من أهل الجنة أم من أهل النار بالعلامات.
وكذلك قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} تنظر إليه مكتفٍ، تسأله كيف أنت؟ يقول الحمد لله، تسأله هل يلزمك شيء؟ يقول لا أعوذ بالله لا يلزمني شيء أبدًا، كلّ ذلك من التعفف، {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} تستطيع أن تتعرف إليهم بعلامات {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، إذًا أعطاك علامة وقال إذا رأيت هذه العلامة فافهم أنّه من هذا الصنف.
وقال أيضًا: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج: 72] فالمنكر محلّه القلب، والإيمان محلّه القلب، فإذا قام أحدٌ ما الليلَ، فإنك في النهار ترى نورًا في وجهه فتعرف أنّه قام الليل، لأنّه قد ثبت أنّ قيام الليل يورث نور الوجه في النهار، لكنّك عندما تراه تقول هذا قائم الليل، إذًا كيف تتحدث بما لا تعرف؟! إذا هذا معرفة لكن من خلال علامات وأدلّة، وكذلك والعياذ بالله الذي ترى وجهه كقطع الليل، {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج: 72]، أي يسمع القرآن فيشمئزّ، يقول لا تحكوا بالأصوليّة الرجعيّة فهذه إرهابيّة، فها هو بوش بدأ يوصف الإسلام بالفاشستيه، قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ} [الزمر: 45]، إذًا عندما تقول قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]، تجد أنّه امتعض، يقول أما تزالون تعيدون هذا الكلام، قل له نحن نسمعك كلام من خلقنا وخلقك، الكلام الأزلي الأبدي الذي يعلوا ولا يُعلى عليه، إذًا {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} [الحج: 72]، فظهر ما في قلوبهم على وجوههم، فعرفتَ ما في قلوبهم من خلال وجوههم، هذه معرفة بالدلائل.
3- الرؤيا: اللهم إنّا نسألك أن تمنّ علينا بكشف الحجاب، حتى نكون ممّن قلت فيهم {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22-23]، وهذه المعرفة بالرؤيا نقرؤها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} [النمل: 93]، فالقرآن هنا ينص على سببٍ من أسباب المعرفة الذي هو الرؤيا أو الحواس, فإذا رأيتَ الآيات بأمّ عينك تعرفها.
وقال تعالى: {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ} [يوسف:58], أي فعرفهم بالرؤيا وليس بالخبر ولا بالعلامات, فلمّا نظروا إليه لم يستطيعوا أن يعرفوه لأنّهم تركوه صغيرًا في غيابت الجبّ، لكن لم تتغير ملامحهم فلما رآهم عرفهم.
لكن لا يُكتفى بالمعرفة, فالمعرفة يجب أن يتبعها إيمان, والإيمان غير المعرفة،
فيمكن أن توجد معرفة ولا يوجد إيمان, قال تعالى في حقّ اليهود: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89], وهذا الصنف عرف فكفر.
ويمكن أن توجد معرفةٌ فيتبعها إيمانٌ، قال تعالى في حقّ بعض من آمن من أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنـزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ، وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ }[المائدة: 83-84], والشاهدون هم أمّة سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143], وهذا الصنف عرف ففاضت عيناه فآمن فقال {رَبَّنَا آَمَنَّا}.
إذًا القرآن الكريم يذكر لنا صنفين، صنف عرف فكفر، وصنف عرف فآمن.
وقال تعالى في حقّ قومٍ: {وَلَوْ نـزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } فهذه معرفةٌ بالحواس {لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَ سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7].
إذًا لا تكفي المعرفة لوحدها وإنّما يجب أن يتبعها إيمانٌ، وإنّ المنهج التجريبيّ الذي يوصلنا إلى المعرفة يجب أن يتبعه سلوكٌ:
• فإذا قرأت قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}[الأنفال: 60], رأيت أنّه أطلق القوة لنا لنعدّ أسبابها في الجامعات والمراكز البحثيّة والسلاح وفي كلّ شيء، وهذا الإعداد يكون من خلال منهجٍ تجريبيٍّ, وهذا المنهج التجريبيّ مقتضاه السلوكي قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60], فتكون القوة حصانةً لكم، وهذا لا يعني أن تقتلوا الناس، وإنّما يعني وجود قوةٍ تجعل عدو الله يرتدع عن الاستخفاف بنا وبديننا وبقرآننا.
• وإذا عرفتَ أنّ لك خالقًا، فالمقتضى السلوكيّ بعده أنّك آمنتَ بذلك الخالق وتوجهتَ إليه ودعوتَه وتململتَ بين يديه.
• وإذا علمتَ أنّ هناك ملائكةً وجنودًا وغيبًا، فالمقتضى السلوكيّ بعده أنّك مع إعدادك المادي -ولو كان ضعيفًا- تكون واثقًا، لأنّ هناك سند ودعم لك، وتذكرتَ أنّه إذا أراد الله أن يُهلك قرية بعث ملكًا يقلب بريشة جناحه عاليها سافلها، وللأسف نرى اليوم الجرافات الإسرائيلية تهدم البيوت ولا نرى أنّ ملكًا بريشة من جناحه يقلب بلدًا كاملًا, إذًا نحن مطالبون بالإعداد والمنهج التجريبي لكنّنا ضعفاء نحتاج إلى إمداد الله، نحتاج إلى نصرة, لمّا قال رجل في جيش المسلمين الذي كان يقوده سيدنا خالد بن الوليد ما أكثر الروم، نظر إليه وزجره وقال: قل ما أقلّ الروم، مع أنّه كان عدد الروم عشرة أضعاف المسلمين، وكان السيف الرومي وزنه حوالي تسعة عشر كيلوا غرام يحمله بطلٌ عملاقٌ مدججٌ بالحديد فيما كان السيف العربيّ وزنه سبعمائة وخمسين غرام، إذًا كانوا يعتمدون على الهمّة والعزيمة والحركة، وبهذا هُزم الجيش الروميّ، والله سبحانه قال في غزوة بدر وهو يخاطب الملائكة: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}[الأنفال: 12], ورسول الله قال نُصرتُ بالرعب، فأين هي الملائكة هل نجدها بالمنهج التجريبي!! إذاً كيف سنحذف هذا وهذا جزء من قوّتنا ونحن مطالبون بالمعرفة بالمنهج التجريبي والمعرفة بالغيب، وأن يتبع ذلك إيمان ومقتضى سلوكي لكل هذا.
إذًا المعرفة لا تكفي فلابد أن يتبع المعرفة إيمانٌ، وهنا في بيت الشعر:
واجْزِمْ بَأَنَّ أَوَّلاً مِما يَجِبْ..........مَعْرِفَةٌ....................

أي واجزم جزمًا لا شك فيه أنّ أول واجبٍ عليك قبل أن تصلي وتصوم وتحجّ هو المعرفةُ.
............................... ..... وفيْهِ خُلْفٌ مُنْتَصِبْ

ما معنى الخلاف الذي يحكيه بهذا البيت؟
قال بعض العلماء أول الواجبات المعرفة، وقال غيرهم أول الواجبات النظر الموصل إلى المعرفة، وقال غيرهم أول الواجبات القصد إلى النظر عندما نفرّغ القلب من الشواغل، وقال بعضهم أول الواجبات أن نقلّد المعصوم، وقال بعضهم أول الواجبات النطق بالشهادتين، لكنّ الحقيقة كلّ ما قيل صحيحٌ لكن من اعتباراتٍ مختلفةٍ,
 فمن حيث الغاية والمقصد أول الواجبات: المعرفة.
 ومن حيث وسيلة المعرفة وسببها أول الواجبات: النظر.
 ومن حيث سبب هذه الوسيلة: أن تدع فراغًا صغيرًا في قلبك حتى تجد الاستعداد للنظر ولا تكن مشغولًا في السيارة والمصنع والتجارة والاستيراد والتصدير، قال العلماء قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ}[الحج: 46], فإنّك إذا سافرت خارج بلدتك تخليت عن شواغلك، وإذا تفرّغ قلبك من الشواغل تهيّأ للنّظر.
 ومن حيث ضرورة الإسراع في دخول الأنوار فأول الواجبات: تقليد المعصوم وهو رسول الله لأنّ هذا ينقذك من الظلمات.
 ومن حيث إجراء الأحكام الإسلاميّة فأول الواجبات: الإسراع بالنطق بالشهادتين لأنّ الذي ينطق بالشهادتين تجرى عليه أحكام الإسلام فإذا مات يغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، لذلك قد يكون الإنسان مؤمنًا ولكن لم ينطق بالشهادتين أمام الناس فهذا لا تجري عليه أحكام الإسلام.
إذًا كلّ هذا يدلّ على أنّ ما قيل في الخُلف المُنـتصِب هو حقٌّ لكن من اعتباراتٍ مختلفةٍ.
قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}[الإسراء: 110]، إذًا عندما ينفتح لك في قلبك بصيصُ نورٍ ادخل في الإيمان ولا تتأخر لأن هذا التأخير يتلوه تقليب القلب والعياذ بالله.
أعلى الصفحة