الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
18- التقليد (ج1)
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة
1/12/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرّحمن الرّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم صلِّ على سيّدنا محمّدٍ عبدك ورسولك النبيّ الأميّ وعلى آله وصحبه وسلم.
وصلنا إلى قول صاحب جوهرة التوحيد رحمة الله عليه:
إذْ كُلُّ مَنْ قَلَّدَ بالتَّوْحِيْدِ.........إِيمَانُهُ لمْ يَخْلُ مِنْ تَرْدِيْدِ

يمكن من خلال هذا المبحث أن نلتمس معالم المنهج الذي رسمه ربنا تبارك وتعالى للإنسان، فالإنسان بحاجة إلى أمرين اثنين كي يصل إلى منافعه:
1- نورُ التدبُّر والتعقُّل والتفكُّر، وإن شئت قلت: نورُ البصيرة.
2- نورُ الوحي الربَّانيّ.
ولفهم هذا نضرب المثال الآتي:
حتى أرى الماء الذي أنتفع به في الحسّ، والقلمَ الذي أكتب به، والحشرةَ الضارَّة التي أبتعد عنها... فإنني بحاجة إلى نورَيْن: نور البصر والضوء، فإذا دخلتُ إلى مكانٍ مظلمٍ ولديَّ نور البصر دون الضوء فإنني لا أبصر ما ينفعني وما يضرُّني ولا أميِّز بينهما، وكذلك إذا دخل من لا يملك نور البصر إلى مكان مضيء فإنه ربما اقترب مما يضرُّه وابتعد عما ينفعه.
فبهذا المثال الحسِّيِّ نستطيع أن ندخل إلى المبحث العلمي، فنور البصر يقابل في المعنى نور البصيرة، وأما النور الحسِّيُّ الذي نرى به الأشياء، كنور الشمس أو النار أو الضوء الصادر عن الكهرباء... فيقابل في المعنى نورَ الوحي الربَّانيّ.
فإذا أراد الإنسان أن يعتمد على عقله فقط ليبصر ما يضرُّه وما ينفعه يكون كالذي يدخل إلى غرفة مظلمة ومعه نور البصر من غير ضياء: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
وكذلك إذا دخل إلى مكانٍ مضيءٍ ومعه نور الوحي والقرآن، لكنه لا يريد أن يتدبَّره أو يفهمه، بل أن يأخذ الألفاظ فقط دون أن يدخل إلى المعاني، فهذا يكون كالذي دخل إلى مكان مضيء دون أن يكون معه نور البصر.
وهذا ما نجده اليوم عند كثيرٍ ممن يقرأ القرآن، إذ نرى أنهم يبتعدون في سلوكهم عن مقاصد القرآن، فالقرآن يدعو إلى الرحمة بينما نجد عندهم الفظاظة، والقرآن يُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور بينما نجدهم يعتمدون مبدأَ القتل كبديلٍ عن الدعوة، ومبدأَ إلغاء الإنسان بدلاً من تبديل الإنسان، ولقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نكرم الإنسان، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] وأن ننظر إلى الإنسان على أنه الخليفة، وأنه المستعدُّ لحمل الأمانة...
ألم يؤمن مِن عَبَدَةِ الأوثان عمرُ بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وحصل التبديل؟!
ألم يَدخُل تميم الداري من المسيحية إلى الإسلام، وسلمان الفارسيّ من المجوسية والمسيحية إلى الإسلام؟!
ألم يدخل عبد الله بن سلام من اليهودية إلى الإسلام؟!
فعندما يكون للإنسان هذان النوران: نورُ الوحي الربَّانيِّ المضيء، ونورُ البصيرة والعقل، يستطيع أن يتبدل في عطائه وسلوكه، فلا يكفي أن يقرأ القرآن ويعطِّل العقل ويتناقض مع مقاصده.
فلا بد إذًا من النورين معًا: نور الوحي والكتاب، ونور البصيرة والعقل.
ونجد في القرآن الكريم ما يؤكد ما ذكرناه ويبحث قضية التقليد، فالتقليد دون تفكير أصلٌ من أصول الضلال:
- يقول ربُّنا تبارك وتعالى في سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] فالحق سبحانه وتعالى يدعوهم إلى اتِّباع ما أنـزله بالتعقُّل والتدبُّر والفهم، فيجيبون: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} لأنهم مقلدون، {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا} فلم يستعملوا نور البصيرة ونور العقل ولم يفكروا.
ألم يقل العاقل في العرب يومًا: "ليلٌ داج، ونهارٌ ساج، وسماءٌ ذات أبراج، ألا تدلُّ على اللطيف الخبير؟".
فلا يمكن أن نؤمن بامتلاء الكأس بالماء دون أن يملأها شخصٌ ما، وكذلك لا يمكن أن تكون هذه الأنهار والبحار ودورة الشمس والقمر والأرض والكواكب... كلُّها إلا من صنع اللطيف الخبير.
فلمّا تفكَّر اهتدى.
أما مشكلة المقلِّد فهي أنه لا يُعمِلُ العقل في التفكُّر والتأمُّل والتدبُّر ليكون من خلال هذا النور الكريم، الذي أعطاه الله إياه لقلبه والذي شعاعُهُ في دماغه، ليكون متعقِّلاً.
إذًا: ناقشهم القرآن الكريم وقال لهم: إن تقليدكم فاسد، لأن آباءكم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، أي: لا يهتدون بكتابٍ أنـزله الله.
فهم لا يعقلون أي: لا يستعملون النور الأول الذي هو نور البصيرة والعقل، والذي جعله الله سبحانه وتعالى في هذا الإنسان عندما كرّمه، ولا يهتدون بالنور المضيء الذي هو نور الوحي.
- وقال سبحانه في سورة المائدة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنـزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [المائدة: 104]، بينما في سورة البقرة قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ} [البقرة: 170] فالوحي ينقسم إلى قسمين:
* وحيٌ نـزل بلفظه ومعناه على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن الكريم.
* ووحيٌ نـزل بمعناه، وعبَّر عنه سيدُنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه الشريف، وهو وحي السنة.
فمصدر القرآن والسنة واحدٌ، إذ كلاهما وحيٌ من الله، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3-4].
فقد فصَّل لنا ربُّنا تبارك وتعالى في سورة المائدة نورَ الوحي، وأن ما نطق به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إما أنه تلقى معناه ولفَظَه بلفظه الشريف، أو أنه تلقاه بلفظه ومعناه، فالمصدر هو نور الوحي، قرآنًا كان أو سنة.
والفارق بالنسبة لنا في التشريع، أن القرآن قطعيُّ الثبوت، أما السنة ففيها ما هو قطعيُّ الثبوت، وفيها ما تأثَّر سَنَدُه بسبب الناقلين الذين نقلوا إلينا، لا بسبب النص الذي خرج من الفم الشريف لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسُقْمُ الروايةِ آفةُ الأخبارِ، أي إذا كان الراوي سقيمًا في أدائه فلا يستطيع النقل بشكل صحيح، أو مطعونًا فيه، فهو الذي نُسب السُّقْم والضعف إليه، لا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالصحابي الذي سمع القرآن أو سمع حديثًا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يوجد عنده أي فارق في الدلالة التشريعية أو في الاستناد والرتبة بين هذا الدليل وذاك، فالذي سمعه من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآنًا كان أو سنة هو بالنسبة للدلالة في رتبة واحدة.
لكن عندما يُقال: القرآن دليل في هذه المسألة وكذلك الحديث الصحيح، فهذا بسبب السند لا بسبب قائله صلوات الله وسلامه عليه.
إذًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنـزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} أي عندنا موروثٌ نقلِّده وهو يكفينا، فالمشكلة تكمن عندما تكون التقاليد والعادات أقوى من الهداية بنور ديننا، فالإسلام ومقاصد الشريعة توجِّه إلى شيءٍ ما والعادات توجِّه إلى شيء آخر، فنتمسك بعاداتنا ونقول: هكذا الأصول.
وكلمة الأصول تعود إلى أيام السلاطين العثمانيين، الذين كانوا يجمعون البنات من كل الأمصار ويضعونهن في السراي ويعلمونهن البروتوكول العثماني، ثم تخرج البنت بعد /10-15سنة/ وقد حفظت تمامًا البروتوكول الذي تعلمته، ثم يأتي أثرياء الناس في الدولة الإسلامية الكبيرة (البيك أو الباشا) فيعطونه بنتًا من السراي وقد فهمت الأصول، فهذا هو أصل كلمة الأصول.
وبعد ذلك قدَّسْنا الأصولَ التي هي العادات حتى أصبحت أصنامًا، فإذا جلسنا على المائدة نقول: هكذا الأصول، وإذا لبسنا نقول: هكذا الأصول، وإذا أتى العريس نقول: هكذا الأصول...
فلنعدِّل الأصول قليلاً، لأننا إذا تمسكنا بالأصول القديمة فسيبقى أكثر الشباب دون زواج، وستنتشر الفاحشة والزنى، وهذا كلُّه بسبب الأصول.
فلنعد النظر في موضوع المهور وموضوع المِلاك (الهدية)... ففي زمن سيدنا محمَّد عليه الصلاة والسلام كان المِلاك والمهر كله خاتمًا من حديد، وإذا حسبنا مهر السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنها بالفضة نجده تقريبًا /14000 ليرة سورية/، وهي سيدة نساء العالمين.
وهذا الأمر أصبح جزءًا من الأصنام التي نقدِّسها.
ونحن الآن بحاجة إلى شبابٍ واعين يفكرون ويعلمون أن هناك أزمةً اجتماعيةً كبرى، وأنه لا بد من إعادة النظر في هذا المقدَّس الذي اسمه (الأصول).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ).
فيقول الناس: لا مانع، لكن مع مراعاة صنم الأصول، فنحن نحبُّ حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فهم بذلك أضافوا مع الخُلُقِ والدين صنمَ الأصول، فإذا جاء الخاطب ومعه هذا الصنم فأهلاً وسهلاً، أما إن كان معه الخُلُقُ والدين دون صنم الأصول فلا.
ثم يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: (إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)، فيقولون: نعم، لكن لا نخرّب الأصول.
إذًا: فالمشكلة التي نعيشها كلَّ يوم هي في الأصول، والأصول ليست فقط في العرس، بل نجدها في كثير من أمور حياتنا اليومية، فالحاجّ يأتي على الأصول، والفيديو والراقصة والطبَّال والزمّار... كلُّها أصبحت من أصول استقبال الحاجّ.
ومن البروتوكولات الجديدة أيضًا أنه كلما تم افتتاح محلٍّ تجاريٍّ جديد يأتون بالشياطين وما حرَّم الله من الأغاني الفاحشة... بدلاً من قول: بسم الله الرحمن الرحيم، والتوجُّه إلى الله بصلاة ركعتين.
نقول: لا مانع من تشغيل الأضواء واستقبال الضيوف والزوار... معلنًا للناس أنك فتحت مَتْجَرَكَ، لكن على أن يكون هذا بما يرضي الله، مستشعرًا أنك ذو صلة بالله، وأن الذي سيرزقك وسيوسع عليك إنما هو الله.
ومن كثرة تكرار كلمة (الأصول) لم يعد هناك أصولٌ ولا فروع!
ثم قال تعالى: {أََوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104]، بينما في سورة البقرة قال: {لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} فنستفيد من القراءة المتكاملة للقرآن أن العلم لا يمكن أن نصل إليه إلا باستعمال العقل، لأن كلمة (يهتدون) مشتركة في الآيتين، وحتى لو قرأنا القرآن ألف مرة دون أن نُعمِل عقولنا ونفهم المقاصد فإننا لن نصل للعلم.
قد يقول قائل: أنا أقرأ القرآن جيِّدًا.
نقول: هل فهمتَه كما فهَّمك إيَّاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكما فهَّمك إيَّاه العلماء؟
فهناك الكثير من القضايا التي أصبح فيها الإنسان أسيرًا، فعندما نتكلم مثلاً (وفي درسِ علمٍ) أن تعدُّد الزوجات هو من الإسلام، تقوم قيامة النساء ويثور الرجال، ويصبح كلٌّ منهم مفتيًا ويقول: رسول الله عليه الصلاة والسلام له خصوصيات، وتأتي الفضائيات ومن يدَّعي العلمَ بالفقه والعلمَ الشرعيّ لينكروا هذا الأمر ويقولوا: هل تريدون تخريب بيوت الناس؟
نقول: وهل يريد ربُّنا عندما شرع هذا التشريع أن يخرب بيوت الناس؟
هل هذا هو فهمنا؟
أين المنتديات التي تتحدث في أسرار تعدُّد الزوجات؟
وأين العلماء الذين يتحدثون في الحكمة من ذلك؟
لا تقولوا: الرجال يفرحون بهذا الأمر، لا.. فهو أمرٌ صعب ولا يقدر عليه إلا الأشدَّاء الذين أرادوا أن يتّبعوا حِكَمَ القرآن الكريم والسنة.
مما سبق نجد أننا أصبحنا نقدِّم عاداتِنا، وأصبح في قاموسنا الجديد مصطلحات كثيرة بسبب بُعْدِنا عن الحقائق الربَّانيَّة وتَحَوُّلِنا إلى مقلِّدين.
إذًا: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنـزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا} أي يكفينا، {مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} فنحن فرحين بهذه التقاليد، وبالذي تعلّمناه من آبائنا وأمهاتنا، إذ لا يوجد من هو أفهم منهما، ثم قال تعالى: {أََوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}.
- وقال سبحانه في سورة لقمان: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنـزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، فنفهم من هذا النص أن الذي لا يسير وفق هذين الأمرين، فلا يهتدي بهدي السماء ولا يستعمل عقله وتفكُّره وتدبُّره، فطريقه إلى عذاب السعير.
فإذا قرأنا القرآن الكريم قراءةَ تأمُّلٍ وفهمٍ سنجد فيه عجائبَ كثيرة، فقد قرأنا ثلاث آيات متشابهة في المعنى لكننا أخذنا منها منهجًا كاملاً:
* فوجدنا في النص الأول أن الإنسان بحاجة إلى وحي السماء والتعقُّل.
* وفي الثاني أن العلم لا يكون إلا بالتعقُّل.
* وفي الثالث أن الإنسان إذا لم ينتفع بالهداية السماوية والإلهية وبالتعقُّل العلميّ فسيكون طريقه إلى عذاب السعير.
- وقال سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} فيفعل منكرًا لا يرضاه الله وهو مخالفٌ للمقاصد، {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا} فيبرِّر سلوكه الفاسدَ بالتقليد للآباء والأجداد، ثم يقول: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} فيصل تقديس الموروث الذي يقلِّده إلى درجةٍ ينسبه فيها إلى الله، أي يصبح مستوى الأصول بمستوى النص، فيقول تبارك وتعالى لحبيبه عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} فهي موروثاتكم التقليدية وليست أمرَ الله، {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] فأنتم لم تستعملوا عقولكم.
وإذا أردت أن تعرف بأي شيء أمر ربي فاستمع لقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} أي بالعدل والفضيلة والإحسان، {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] فإذا أردتم تحقيق هذه العدالة التشريعية فأنتم بحاجة إلى حافزٍ من العبودية وإلى سجود، لكنكم تسجدون بجباهكم، أما قلوبكم وعقولكم فلا تسجد، فلمّا ابتعدتم عن السجود ولم تشعروا أنكم عبيدٌ لله وأنكم بحاجةٍ ماسَّة إلى سيدكم، ظهر عندكم ما ظهر من التقليدِ والتناقضِ مع أمر الله، فبسجودكم تستطيعون تحقيق القسط والتشريعِ الإسلاميِّ كما هو.
ثم قال تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي توجَّهوا إليه حتى يعينكم على تحقيق الدين مع الإخلاص فيه، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فهناك عودة ووقفة في محكمة إلهية لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا تظهرها.
ويستفاد من هذا كلِّه أن الإنسان إذا أراد أن يبحث عن الحقيقة مع من شاء: بوذيًّا كان، أو مجوسيًّا، أو وثنيًّا، أو مسيحيًّا، أو يهوديًّا... فشروط البحث عنها ثلاثة:
1- تركُ التقليد والموروثات التقليدية: ورجوع الإنسان مجرَّدًا عن التقليد، فيكون إنسانًا بإنسانيته.
2- تركُ التعصُّب لفكرةٍ ما واستعمال العقل: فالعقل لا يجتمع مع التعصب، لأن التعصب يغلق العقل، فبمجرَّد تعصُّب الإنسان لشيءٍ ما أُغلق تعقُّلُه بكلِّ منافذه.
3- طلبُ الحقِّ وإن ظهر على يد الغير: فإذا سمعتُ الحقَّ ممن يبحث معي عنه، سأترك ما أنا عليه وأذهب إلى ما هو عليه.
وكان الإمام الشافعيُّ رضي الله عنه إذا جادل شخصًا يرجو أن يكون الحقُّ على يد خصمه ومجادله، ويقول: إذا جلست مع خصمي أقنعه أنني على حقٍّ ما استفدت شيئًا، أما إذا ظهر لي أنه على حقٍّ فسأكون قد استفدت في هذه الساعة مسألة جديدة.
أما الآن إذا ظهر الحقُّ على يد الخصم فمعنى ذلك أنني لا أفهم، وأما إذا ظهر على يديَّ فمعنى ذلك أنني الأفهم، وبالتالي تحولت القضية إلى نصرة نفوس، ولم يعد هناك بحثٌ عن الحقيقة، وإنما بحثٌ عن الـ (أنا)، وهذا هو منطقُ من يُنسب إلى العلم، فكيف بمن لا ينسب إلى العلم؟
إذًا: لا يمكن أن نصل إلى الحقيقة إلا بالشروط الثلاثة التي ذكرناها.
نعود إلى قول صاحب الجوهرة رحمة الله عليه:
إذْ كُلُّ مَنْ قَلَّدَ بالتَّوْحِيْدِ
..........................

فالتوحيد هو الأساس، إذ لو أردت بناء بيتٍ على جانب النهر، وكانت الأرض ترابية طينية دون وجود أساسٍ صخريّ، وقال لك شخص ما: ابنِ البيت هنا ولا تخف، فتَبِعْتَهُ، فسيهبط البناء لاحقًا.
ولذلك فالتقليد في الأصول والعقائد أمرٌ خطير جدًّا، ولا يصلح أبدًا، لأن التوحيد هو أساس الدين، أما التقليد في الفروع كما في الأمور الفقهية فهو جائز.
وإذا قيل لشخصٍ ما: هذه البناية لا أساس لها، وقُدِّمَتْ له مقابل مبلغٍ زهيدٍ من المال فلا يشتريها، لأنه لا أساس لها، إذ لا بد أن يثق ثقةً تامَّةً أنَّ هذا الأساسَ متينٌ، وأن عملَ المهندس فيه متقَنٌ.
ويمكن تشبيه العقيدة بالأساس للبناء، وما سوى ذلك من الفروع هو كأبواب هذه العمارة، أو ألوان أبوابها، فأنت إن لم تكن موحِّدًا فستكون مثلِّثًا، أو من أهل الاثنينية الذين يقولون بوجود إلهين: إله نور وإله ظلمة، أو إله شرّ وإله خير، كالمجوس والعياذ بالله.
ثم قال:
...........................
إِيمَانُهُ لمْ يَخْلُ مِنْ تَرْدِيْدِ

والمعنى: إما أنَّ هذا المقلِّد يبقى متردِّدًا، أو أنه يردِّدُ ما لا يتدبَّره، وهذا لا يصحُّ في حالٍ من الأحوال.
ومما سبق نلاحظ أن الإسلام ذمَّ التقليد، ودعا إلى منهج استعمال العقل مع الاهتداء بهدي السماء، فلا يصحُّ أن يأخذ بتشريعٍ وضعيٍّ لا يوافق عليه هديُ الوحي، ولا أن يأخذ من الوحي دون أن يستعمل عقله.
فإذا تعلَّمنا علمَ التوحيد وأدلَّتَه لا نكون قد قلَّدْنا الذي قد علَّمَنا، ومثال هذا كجماعةٍ خرجوا لرؤية الهلال، فرآه واحد منهم فأخبرهم بذلك، فصدَّقَتْه الجماعة ورجعوا، فهؤلاء مقلِّدون.
أما إن قال لهم: لقد رأيته في الزاوية الشرقية التي تبعد عن الأفق مسافة كذا، نحو اليمين أو اليسار، وفي وقتٍ محدَّد مثلاً قبل المغرب بثلث ساعة، وأعطاهم علامات وجهات، وعلمهم كل ذلك.. فإذا نظروا إلى هذه الجهات ورأوا الهلال، يكونون قد تعلموا كيف يرون الهلال، ولم يكونوا مقلدين لأنهم تعلموا وذهبوا ورأوا.
وهكذا من تعلَّم أدلة التوحيد من أستاذٍ أو معلِّمٍ فليس بمقلِّد، أما الذي يأخذ هذا العلم دون تفكير أو تعلُّم، ودون أن يعرف الأدلة، يكون كمن صدّق الذي رأى الهلال دون أن يراه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الهداية، وأن يعلمنا بمنّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة