الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
17- السمع مع الطاعة والامتثال (ج2)
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة
24/11/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم صلِّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرّ معنا معنى قول صاحب الجوهرة رحمة الله عليه:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا ........... عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَا
لِلَّهِ والجائِـــزَ والمُــمتَنِـــــعَا ............ وَمِثْلَ ذا لِرُسْلِهِ فَاسْتَمِعَا

وما أحوجنا إلى الاستماع في زمنٍ قلَّ فيه من يسمع، وقلَّ فيه من يفهم ما سمعَتْه أُذُنُه، وقلَّ فيه من يَظهر في حياته أثرُ الاستماع في الفوضى التي نعيشها اليوم.
ومرّ أنَّ الآذان تسمع، لكنَّ سمعها لا يُعتبر ما لم يصل إلى القلب، فارتسام المعاني في الأذهان لا يعني الفهم في منظور القرآن الكريم، قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] فالجوارح سليمة، وهو يسمع، لكنَّ القرآن الكريم لا يَعتبر مجرَّد هذا السمع الظاهر الذي نهايته في الأذهان، إنّما يعتبر وصولَه إلى القلب، فإن وصل إلى القلب فَهِم وظَهَر أثرُ ذلك في السلوك، وإذا لم يصل فلا اعتبار لوصول ما دخل من الآذان إلى الأذهان.
وتقدم أن النّاس فريقان:
- فريق قالوا: سمعنا وعصينا.
- وفريق يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، وأحسنُ القول كتابُ الله.
وبعد توضيح مصطلح السمع عندما قال تعالى: {لَهُمْ آَذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} وأنَّ سببَ عدم السمع هو كونُ القلوبِ لا تفقه، صرّح القرآن الكريم فقال: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36] فإذا رأيتَ استجابةً فهذا يعني أن المستجيب قد سمع، وإذا لم تظهر استجابة فهو لم يسمع.
وكثيرًا ما نرى من يقرأ القرآن ويزعمون أنّهم من أهل القرآن دون أن يكون القرآن في سلوكهم، فأين القرآن إذًا؟ ألا يسمعون القرآن؟
وهذا يدل على أنّهم يقرؤون القرآن بألسنتهم، أو أنّهم لا يسمعونه، فالأصوات تدخل إلى آذانهم لكنها لا تصل إلى قلوبهم، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].
- قمن الأقفال الرَّينُ، قال تعالى: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14].
- ومن الأقفال غضبُ النّفس، فعندما يثور الغضب فيها يُستَر القلبُ فلا يصل إليه شيء مع وجود هذا الحاجز النّفسانيّ.
- ومن الأقفال الذنوبُ، فقد لا يصل إلى القلب شيء بسبب ذنب ما، فينعدم الفهم:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي .........فأرشدني إلى تركِ المعاصي

- ومن الأقفال الحميّةُ، فإذا ثارت الحميّة وقفت النّفس حاجزًا، فنجد أن هذا الإنسان يقرأ القرآن لكن دون أن تصل المعاني إلى قلبه.
وفي أيامنا هذه نجد أنّ الأخذ بالثأر قد عاد لكن بشكل آخر، فقد كان قَبَليًّا، أما الآن فأصبح طائفيًّا.
فأين العقل؟ وأين القرآن؟
لقد منع القرآن أن نعتدي على غير المسلم يهوديًّا كان أو مسيحيًّا أو مجوسيًّا إذا كان لا يقاتلنا في الدين، بل أُمِرنا أن نحسن إليه، فكيف بالمسلم؟
- ومن الأقفال التي تحجب وتمنع وصولَ المعاني إلى القلب التعلّقُ المفرط، أو المحبّةُ المفرطة والتعصّبُ المفرط لشيءٍ ما، والذي عبّر عنه حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: (حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ) أي يجعلك لا تسمع، وهذا مذكور أيضًا في الكتب السابقة قبل القرآن كالإنجيل.
فنحن نحبُّ سيدنا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا، لكن هذا الحبّ لا يُعمينا بل يفتح بصائرنا، فعندما يصبح الحبُّ سببًا مُعمِيًا ومُصِمًّا عند ذلك لن نفهم من القرآن شيئًا.
ثم أين الأمّة الإسلاميّة والجيوش الإسلاميّة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب التي تقرأ القرآن، وفيه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وهذا فرضٌ على كل الأمّة الإسلاميّة.
لكن الأمّة الإسلاميّة اليوم تنظر إلى النّاس وهم يُحرقون وهي مكتوفة الأيدي، وبسبب الإقليميّة التي رسّخها أعداؤنا ينظر كلٌّ منَّا ويقول: لعلَّ الله يؤخِّر ذلك عني.
واجب الجيوش الإسلاميّة في العالم كله أن تُخرِج المحتلَّ وأن تضرب الفئة الباغية بيدٍ من حديد، مهما كانت هذه الفئة حتى لو كانت تقرأ القرآن، فهذا هو تطبيق القرآن إذا كانت الأمّة الإسلاميّة والجيوش الإسلاميّة وحكّام الأمّة الإسلاميّة يقرؤونه، لكنّنا نقرأ القرآن اليوم في المناسبات، أما قلوبنا فهي صمّاءُ لا تسمع.
إذًا: مشكلتنا الكبرى في العالم الإسلاميّ اليوم هي عدم الاستماع، فالإنسانُ معطَّلٌ عن السمع إما بسبب كثرة ذنوبه وانهماكه في المعاصي، أو بسبب إفراطه في المحبّة والتقليد الأعمى، أو بسبب الغضب والحميّة... وعند ذلك تتعطّل الأفكار.
هذه هي أزمة الاستماع.
فالقرآن موجود، ونحن نعتني بتحفيظه للصغار والكبار، لكن ألا ينبغي علينا أن نضع خطةً لتوصيل القرآن إلى القلوب؟
وكم نتحدث عن الإصلاح، والإصلاح إنما هو إصلاح البواطن، فإذا لم يحصل إصلاحها فلا قيمة للإصلاح مهما تحدَّثنا عنه، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] فلو كنَّا نقرأ القرآن ونفهمه لأخذنا مفهوم الإصلاح من خلال القرآن، وأوجدنا منهجًا تربويًّا، واستعنَّا بالتربويّين حتى يحصل هذا الإصلاح.
فنستنتج من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أن عدم الاستجابة يعني عدم السمع.
وقال سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي لمن كان له قلبٌ يسمع، أي قلبٌ لم تتعطل وظيفته، فلو كان عند شخصٍ ما عينٌ لكنه لا يرى بها، يُقال: فَقَدَ عينَه، مع أنّها موجودةٌ، فإذا فَقَد القلبُ وظيفتَه فكأنّ صاحبه ليس له قلبٌ، {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} أي هذا القلب مستعدٌّ بوظيفته ويسمع، {وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] أي انتقل من التصديق إلى المعاينة، وهذا هو حال الإحسان الذي عبّر عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)، وكان أصحاب النّبي صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحال إذا سمعوا، فإذا سمعوا عن الجنّة فكأنّها رأيُ عين، وإذا سمعوا عن النّار فكأنّها رأيُ عين... فهو ارتقاءٌ فوق رتبة قلبٍ يسمع فيفهم.
إذًا: ألقى السمع وجمع مع السمع القلبيِّ الاستعدادَ الشهوديّ، فانتقل من الغيب إلى الشهادة، وهذا هو حال أهل المعرفة.
وقد وردت لفظة (استمعوا) في القرآن في محاور أربعة:
1- توجيه مباشرٌ وفهمٌ وامتثالٌ: أي قولٌ مباشرٌ يأمرك أن تتّبعه.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] وأحسنُ القول القرآنُ، أي يستمعون ما أنـزل الله إليهم من القرآن على الإجمال، ويقولون: سمعنا وأطعنا، قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور: 51].
فالقرآن الكريم خاطب الإنسان خطابًا مباشرًا، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، وقوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
2- محور التأريخ: الذي نقرأ فيه قصصَ القرآن وأمثاله، لا لذات القصة إنّما للاستفادة.
فكما خاطب القرآن الكريم الإنسان خطابًا مباشرًا خاطبه أيضًا خطابًا آخر غير مباشر من خلال إيراد القصص، فنحن تقرأ من حيث الظاهر قصّةً، لكن ليس المراد نفس القصّة إنّما المراد الاعتبار.
فإذا قرأتَ قصّة في القرآن الكريم حاول أن تنفذ إلى مفرداتها، وتُحلّلَ المقدّمات والنّتائج حتّى تعتبر بحال غيرك، فهو خطابٌ غيرُ مباشر لكنْ بطريقة قَصِّ القصص.
ولقد حكى لنا القرآن الكريم قصص قوم نوحٍ وهودٍ وصالحٍ وموسى وعيسى وسليمانَ وداوودَ وشعيبٍ... عليهم وعلى نبيّنا أفضل الصّلاة وأكمل التسليم، والمقصود من كلّ ذلك إنما هو الاعتبار.
ونصر الله سيدَنا موسى وسيدَنا هارون على فرعون رغم أنّهما لم يمتلكا سلاحًا ولا سيفًا ولا قنبلةً نووية، وكان عند فرعون كل الأسلحة والأموال والزينة.
فماذا تنتظر أيها المسلم الضعيف الذي لا يملك شيئًا؟
وحالك كحال الرُّسل عليهم الصلاة والسلام: ما عندك قوةٌ، ومهيمَنٌ عليك من القوى الخارجية، ومسيَّرٌ في معاشك وفي وسائلك...
فاجتهد في المتاح، وابذل ما تستطيع، واتّق الله ما استطعت، وسترى بعد ذلك - وقد استعملتَ المتاح وأخذت بكلِّ الأسباب التي تستطيعها على المستوى العلميّ والماليّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ... - أنّ الحقّ سيؤيِّدك، فقد أيّد نوحًا عليه الصلاة والسلام مع أنّه ما آمن معه إلا قليل، وأيّد موسى عليه الصلاة والسلام مع أنّه لم يكن معه من السلاح والعتاد شيء، وأيّد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي كان وحده...
وهناك بعض المسلمين الذين يتحوّلون عن المقصود ويغفلون عن الحقائق ويَقِفون عند بعض التفصيلات التي لم يعتنِ القرآن الكريم بها كثيرًا، فيقرؤون قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} [يس: 13] ويسألون: أيُّ قريةٍ هي، إنطاكية أم غير إنطاكية؟
وما هو اسم الملَك الذي نـزل؟ هل الملائكة الذين نـزلوا في ذاك الوقت في معركة بدر أكثر أم في هذا الوقت..؟
وما علموا أنّ المراد ليس إنطاكية أم غيرها، إنّما المراد أن نفهم ما في هذه القصّة لنعتبر ونأخذ منها نتيجةً، وإلى هذا المحور أشار قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة: 26].
فالمحور الثاني هو محور القصص والتأريخ، حيث نقرأ من خلاله التاريخ ونفهمه، لا كما يقرؤه المؤرخون دون أن يعتبروا به، ونجد اليوم أنّ الاعتبارَ مفقودٌ من كتب التأريخ، أما القرآن فإنه ما قصَّ من التاريخ شيئًا إلا ربطه بالاعتبار.
3- محور الأمثال القرآنية: التي إذا تدبّرها القلب تأثّر وظَهَرَ أثرُ تأثّره على السلوك، فهو استماعُ تدبُّرٍ وفهمٍ.
وفيه يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي كلّ ما سوى الله ممن توجّه قلبُك إليه، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا} وهناك أنواع دقيقةٌ جدًّا من الذّباب تصعب رؤيتها حتى بالمجهر، {وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] أي ولو جمعوا عمّالهم ووضعوا إمكانيّاتهم كلها فلن يستطيعوا أن يخلقوا هذه الذّبابة التي خلقها الله، مع أنهم صنعوا السيارات والطائرات وسفن الفضاء...
وهكذا عندما نقف أمام هذا نقول: كم نحن مغفّلون حينما نتوجّه إلى من لا ينفع ولا يضرّ بل لا يستطيع أن يخلق ذبابة.
وأكثر من هذا قال تعالى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] فعندما تقف الذّبابة على جلدك تأخذ شيئًا من الملح الموجود عليه، وبمجرد أن يدخل هذا الملح إلى فم الذّبابة يتحوّل إلى مادَّةٍ أخرى، وعندها لا تستطيع أن تعيد ذلك الملح الذي أخَذَتْه الذّبابة حتى لو أتيت بكلِّ معامل الكيمياء.
فمَن أنت أيها الإنسان الذي يمشي ويتبختر؟
أنت فقيرٌ إلى الله.. أنت محتاجٌ إلى الله.. بل كلُّ المخلوقات محتاجةٌ إلى الله.
ومن الأمثلة قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [الأنبياء: 41].
وكم أتمنى أيها المسلمون والمثقّفون أن تقرؤوا كلَّ مَثَلٍ من أمثال القرآن، وستجدون أنفسكم بعد قراءتها عبادًا لله، وأتمنى أن تنقلوها رسالةً إلى أصحابكم.
4- محور الآيات الكونيّة:
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا السمع في مواضعَ كثيرةٍ، منها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67] فالليل والنّهار آيتان من آيات الله، ظهرتا بسبب طبقة موجودة حول الكرة الأرضيّة، فحين يصل شعاع الشمس إلى هذه الطبقة فإنّه يتحول إلى إشراقٍ ونهارٍ، ومتى خرجتَ خارج هذه الطبقة تجدُ ليلاً كونيًّا مظلمًا، حيث تكون الشمس كالقمر ليس لها هذا الإشعاع والإشراق، فالله سبحانه وتعالى جعل لنا هاتين الآيتين من أجلنا، نحن الذين خَلَقَنا على هذه الأرض، وميّز بهما هذه الأرض عن الكواكب الأخرى التي حولنا.
وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] أي لهما وظيفةٌ مستمرةٌ، وذلك من أجل أن تكون في كل أوقاتك دائبًا في العبودية والخدمة لله وحده وفي مرضاته.
فيا ترى هل نعيش هذا ونستشعره؟
أنت في الليل تستضيء بالكهرباء وإذا انطفأت فإنك لا ترى، لكنك في النّهار تخرج إلى عملك في ضوئه دون أن تحتاج إلى الكهرباء من أجل الضوء، ذلك أن الله أشعل لك سراجًا وهَّاجًا.
فليتنا نفهم هذه الآيات الكونية التي جعلها الله سبحانه وتعالى لنا، وهذه النّعم التي أنعمها علينا في الليل والنّهار.
ولو قدَّم لك شخصٌ ما هديةً تلو أخرى فإنك ستشعر بالحياء منه وستحتار كيف تردّ الإحسان، ولن تستطيع أن تتعامل معه بوقاحةٍ أبدًا، وإلا ستكون لئيمًا.
والله سبحانه وتعالى يُنعم عليك في الليل والنهار، وكلُّ خليةٍ من خلاياك هو الذي منَّ عليك بتسييرها في غاية الإتقان والحكمة، وينعم عليك بالهواء الذي تتنفسه، ويرزقك... فأين شكرك لهذه النعم؟
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] فلو قال شخصٌ: إذا لم تشرق الشمس فلدينا ضوء الكهرباء، نقول له: ومن الذي أتى بالكهرباء؟ أليس هو الله؟
إذا كانت الكهرباء آتيةً من سدِّ الفرات فمن الذي أجراه؟ وإذا كانت آتية من المحطّة البخاريّة فمن الذي خلق الماء؟ ومن الذي حوّله إلى بخارٍ؟ ومن الذي وضع هذه السنن...؟!
فهناك إذًا أسبابٌ كثيرةٌ للضياء، أما الإله فلا يوجد غيره.
وقال تعالى: {وَاللَّهُ أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [النحل: 65].
وقال أيضًا: {وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 23] فأنتم في الليل والنّهار إمّا في منام أو في ابتغاءٍ من فضل الله، ولا تستطيعون الخروج عن هذا، فهناك من يعمل في النهار وينام في الليل، وهناك من يعمل في الليل وينام في النّهار.
فإذا كنتم مثلاً في مجلسِ علمٍ تتدارسون فيه القرآن في ليلةٍ ما فأنتم تبتغون من فضل الله المعنويّ، والملائكة تجلس معكم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (... مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلا نـزلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ...) فالله تعالى يذكركم، والملائكة تحفّكم.
اقرؤوا القرآن لا من أجل مجرَّد التلاوة، فقد شاع كثيرًا في هذه الأيام كثرة ختم القرآن من أجل العدد، وأنا أنصحكم لوجه الله أن تقرؤوا القرآن تدبُّرًا.
فإذا قرأتَ القرآن الكريم فاقرأه حتى تفهمه، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمَّد: 24] فإما أن تجد خطابًا مباشرًا، أو قصةً فاعتبر بها، أو مَثَلاً فحاول أن تفهمه، أو حديثًا عن الآيات في الكون.
فإذا عرَّضنا قلوبنا لهذه المحاور الأربعة مع ترك الذنوب، ومع التوازن وعدم الإفراط في التعلّق بشيءٍ، ومع عدم تعطيل العقل، وعدم السماح للغضب والحميّة أن يسلبنا عقولنا... عندها يمكن أن يظهر أثر الاستماع {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36].
اللهم اجعلنا ممّن يستمعون ويَسمعون ويستجيبون، بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين، والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة