الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
باب المجاهدة-الحديث العاشر
التصوف
جامع العادلية بحلب
29/11/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاثَةٌ: أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ: يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ. /متفقٌ عليه.
في بعض الأوقات تختصر السنَّةُ القرآنَ، كما في حديث: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ) في الإحسان، وتفصيله في القرآن الكريم: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ..} [الذاريات: 16]، وفي بعض الأوقات يجملُ القرآنُ الكريم وتفصِّل السُّنَّة.
وهذا الحديثُ هو نوعُ إجمالٍ للنصِّ القرآنيِّ الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]
حيث قال صلى الله عليه وسلم: يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاثَةٌ: أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} مجموعةٌ في الأهل، فهي تفصيل الأهل.
أما تفصيل المال ففي قوله: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} وهذه كلُّها من المال: المسكن الذي يملكه، وعروض التجارة، والمال النقدي.
فاختصر الثمانية في كلمتين: أهله وماله.
أما العمل فعلينا أن نفهم ما هو، لأن هناك من لا يفهم الإجمال.
فعندما نقرأ: يَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ، قد يقول قائل: عملُه هو عددُ الركعات التي يركعها قبل الفريضة وبعدها، أو يستعرض بعضًا من أنواع النوافل التي يتقرب بها..
وهذا الفهم فيه مشكلة، إذ المطلوب خروجُ الإنسان في قلبه عن أهله وماله وعمله، لأن الذي يقف قلبُه مع عمله فيه إشكال.
ورد في الحِكَم العطائية: "مِنْ عَلاَمَةِ الاعتِمَادِ عَلَى العَمَلِ، نُقصَانُ الرَّجَاءِ عِنْدَ وَجُودِ الزَّللِ"، فالاعتماد على العمل مصيبة.
وكذلك: "لا تَطْلُبْ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ لَسْتَ لَهُ فَاعِلاً"، فهل يُبقي لك ما تركن إليه وتعتمد عليه؟
ولو أنه فهم العمل من خلال النصِّ القرآنيِّ لا يقع في هذه المشكلة، لأن النصَّ القرآنيَّ قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} وهذا هو تفصيل العمل.

فتفصيل العمل:
- توجّهَ بقلبه إلى الله وحده، فهل هناك احتمالٌ لأن يعتمد على سواه، أو أن يكون في القلب سواه؟ لا..
- ثم أنتج حبُّ الله محبَّةَ رسوله عليه الصلاة والسلام، لأنه المظهرُ الذي تجسَّدَ وتمثَّلَ فيه القرآنُ.
وإذا أردنا أن نعرف ما الذي يحبُّه الله تبارك وتعالى، ننظر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكلُّ ما فعلَه وتخلَّقَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحبُّه الله: قولُه وفعلُه وحالُه صلى الله عليه وسلم.
فيُنتِجُ حبُّ الله عندما يتوجَّه بكليته إلى الله محبَّةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- فإذا صارت في قلبه محبَّةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنتجَتْ محبَّةَ الجهدِ في سبيل الله، فصار عمرُه جهدًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، يتقرَّب به إلى الله.
ولولا هذا التفصيل للإجمال لبقي الإنسان في دائرته الفردية، ولَمَا وضع في مخيِّلته وفي قلبه ما كان في قلب أبي عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم.
والوُعَّاظ يتلون هذا الحديث ويقرؤونه ليقولوا للإنسان: صر عابدًا.
وهذا الحديث يقول له: صر عارفًا مجاهدًا، تبذل عمرك ووقتك، فلا تكون أسير أهلك، ولا أسير مالك، ولا أسير عملك.
وعندها إذا بقي معك العملُ فإنَّه يؤنسك، لأنَّه هديَّةُ محبوبِك، ولأنه فرعٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن هذا الجهد هو نتيجة محبَّة رسول الله، وهي نتيجة محبَّة الله.
فهذا الحديثُ في الإجمال وبدون توضيح قد يسوق سوءُ فهم الإنسان له إلى الاعتماد على عمله والركون إليه، ويقول: عليَّ إذًا أن أخرج عن المال والأهل وأبقى مع عملي، لأن عملي هو الذي ينجيني.
نقول: لا..، "لا يدخُلُ أحدٌ الجنةَ إلا بفضل الله، ولا يدخُلُ أحدٌ النارَ إلا بعمله"، هذا مما ينادي به الملائكة يوم القيامة، وهو من تفسير قوله تعالى: {لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] فهذا من الصواب الذي يتكلم به الملائكة يوم القيامة، حيث ينادون على الخلائق: لا يدخل أحد الجنة لهذا اليوم إلا بفضل الله، ولا يدخل النار إلا بعمله.
فالذي يركن إلى عمله يركن إلى ما يُدخِلُ النار، لكن الذي يستمد هذا المعنى من قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} يفهم أنَّ المقصود هو أن يتوجه بكليته إلى الله سبحانه، فإذا توجّه إلى الله أنتج ذلك اقتداءً واتّباعًا واهتداءً ومحبَّةً.. لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وينتج ذلك استهلاكًا، فالعمر كله يُسْتَهْلَكُ في خدمة رسوله.
هذا العمل هو الذي يكون هديَّةَ المحبوب المؤنِسَةَ في القبر، لكنك في كل الأحوال مطالَبٌ أن تخرج بقلبك عن أهلك ومالك وعملك.
فهذا حديث عظيم يختصر الطريق، ويختصر ما ينبغي على الإنسان فعله، ويختصر الأقوال والأفعال والأحوال.
نسأل الله سبحانه وتعالى القبول، والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة