الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
باب المبادرة إلى الخيرات-الحديث الرابع
التصوف
جامع العادلية بحلب
2/8/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ, تَخْشَى الفَقْرَ, وَتَأْمُلُ الغِنَى, وَلاَ تُمْهِلُ, حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا, وَلِفُلاَنٍ كَذَا, وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ. /مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
الحلقوم: مجرى النفس, والمريء: مجرى الطعام والشراب.‏
ظاهر الحديث يعطي معنى الإسراع والمبادرة إلى الخيرات حين يكون الإنسانُ قادرًا عليها قبل أن يأتيَه وقتٌ يعجز فيه عن المبادرة.
وفي شرح الكلمات والألفاظ نقول:
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الصَّدَقَةِ أي الإنفاقِ، أَعْظَمُ أَجْرًا؟ أي حسناته كثيرة ومدَّخرةٌ عند الله تعالى؟ قَالَ: أَنْ تَصَدَّقَ أي أن تتصدَّق، وَأَنْتَ صَحِيحٌ أي صحيحُ البدن من غير مرض, شَحِيحٌ أي تحرص على المال, لأنك ستضعه فيما ستبنيه في دنياك، وأَمَلُكَ في الحياة طويل, تَخْشَى الفَقْرَ, لأن الفقر سيؤخر ما تروم فعله وما تريده وأنت تبني لدنياك, وَتَأْمُلُ الغِنَى, لأنك ترى أن الغنى سببٌ لإتمام ما تريد بناءه في دنياك, وَلاَ تُمْهِلُ أي لا تنتظر, حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ أي حتى إذا بلغت روحُك الحلقومَ عند قبض ملك الموت لها, قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا أي أعطوا فلانًا كذا من المال, وَلِفُلاَنٍ كَذَا أي وأعطوا فلانًا كذا من المال, لأنَّ أَمَلَكَ في الدنيا قد انقطع, وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ أي كان له دَيْنٌ أو حقٌّ, فأنت تريد أن تخرج من الدنيا وقتها من غير أن يكون لأحدٍ عليك حقٌّ أو مظلمةٌ.
فهذا هو المعنى الظاهر الواجب العمل به في الركن الإسلاميّ.
أما الإشارات التي تؤخذ من هذا الحديث فهي تختصُّ بالبَون والفرق بين من يبادر إلى طاعة مولاه طلبًا لأجرٍ, وبين من يقوم بالشريعة لأنه عبد، وشتَّان بين الأجير والعبد.
العبد: أَمَرَهُ سيِّدُه, فهو مؤتمرٌ بأمر سيِّده، ومتى يطلب العبد أجرة من سيِّده؟
فالعبد وما يملك لسيِّده, لأن العبد لا يملك.
هذا المعنى البعيد في الحديث عجيب.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو في صورة أجيرٍ، إذ لم يتحقَّق بعدُ بعبديَّته، لهذا سأل عن الأجر وعن الحسنات والدرجات ...
فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ, أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ فأنا أريد أن أتصدَّق, فأيُّ الصدقات هي أعظم فيما أُعطاه من الأجر عليها؟
قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أي ينعدم الإحصاء.
وقال في حقِّ أهل القرب: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] فقال: "وَزِيَادَةٌ", لأنها لا تُحصَر بحصر، ولا تُقيَّد بقيد، ولا تُوصَف بوصف.
فلا يمكن لحسابٍ أن يَحصُر ما يُعطاه أهلُ القرب، لأنهم لما تحقَّقوا بالعبديَّة تجلى لهم الربُّ، والربُّ يُنقِّل إلى ما لا نهاية له.
فربُّ الأسرة ينقِّلُها إلى محدود لأنه محدود، وكذلك ربُّ المصنع و ... أما ربُّ العالمين فإنه ينقِّل إلى ما لا نهاية له.
ولا يقابل الربَّ إلا العبدُ، فالعبد هو الذي يتجلى له الاسم الربّ، فلا يستحقُّ أن يتجلى له الاسم الربُّ إلا عبد، والعبد لا يطلب أجرًا ولا أجرة، فقد سلم من جذب نفسه وتجاذبها.
وهذا الذي يطلب الأَجر, شخّص له سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حاله, فقال:
أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ, والذي يتحقَّق بأنه عبد ربِّه, كيف سيظهر فيه الشحُّ؟ فالشحُّ فيما تملك، لكن إذا لم يبق لك ما تملكه, فمن أين يأتي الشحّ؟
قال تعالى لسيِّدنا سليمان عليه الصلاة والسلام: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] أي لا شيء لك، فنحن أعطيناك, خلافًا لمن يتوهَّم أن المعنى: هذا عطاؤنا وقد حكّمناك فيه.
وهذا الخطاب خُوطب به سيِّدُنا سليمان عليه الصلاة والسلام لمَّا تحقَّق بالعبديَّة وشهد الله له بذلك، فقال: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:30] فلما تحقق بالعبدية قال له: {هَذَا عَطَاؤُنَا}.
فما كان سيِّدُنا سليمان عليه الصلاة والسلام يرى لنفسه عطاءً أبدًا.
لم يقل سبحانه: "هذا عطاؤك"، فمن حيث الظاهر كان الناس يأخذون منه الشيء الكثير، لكنه ما كان يرى لنفسه عطاءً, لأنه عبد بشهادة الحقِّ له في القرآن، والعبد لا يملك.
فإذا تحقَّق الإنسان بحال العبديَّة لا يستطيع أن ينسب إلى نفسه علمًا ولا حولاً ولا قوَّة، ولا يستطيع أن يُلحق نفسه برتبة، ولا يستطيع أن يطلب أجرة ... فهو عبد، والعبد يفعل به سيِّدُه ما يشاء:





فبما شئتَ فاقضِ ما أنت قاضٍ





فعليَّ الجمالُ قد ولاّكا





فيتخلص من المعاناة مع النفس حين تُطلَب منها الطاعة.
عاهد الأصحابُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على امتثال الأمر في المَنشط والمَكرَه والعُسر واليُسر، وهذا هو حال العبد.
فسواء كان نشيطًا أو في حالة التعب الشديد، أو في حالة العسر أو اليسر, فالأمر عنده سِيَّان, لأنه عبد، ومن كان عبدًا يستوي عنده الأمر، لأنه تخلص من تجاذبات نفسه، فالذي يجذبه هو سيِّدُه.
لهذا إذا كنت تريد أجرًا كبيرًا فأجرك الكبير حينما تكون في مجاهدة النفس، حيث تقول نفسك: أريد المال، فتقول لها: أريد الإنفاق، فإذا كنت في مجاهدة النفس، فهذه التجاذبات لك فيها أعظم الأجر.
وكأن هذا الحديث يشجِّع الإنسانَ المادِّيَّ والإنسان البعيد، ويقول له: أتريد أجرة؟ تعال، بل أعظمُ أجرًا.
وكلما كانت المشقَّة شديدة عليك فالأجر أكبر، وكلما كانت المعاناة وبذل الجهد والتضحية والإنفاق ... أشدَّ فالأجر أكبر.
فإذا وجد من نفسه إعراضًا ثم حاول قهرها وإجبارها، فأجره أكبر.
فإذا وصل إلى حالة العبديَّة ولم يعد يعاني من التجاذبات، لم يعد يصلح أن يقال في حقِّه: أعظم أجرًا.
فالذي صار عبدًا لا أجرة له، إنما يتجلى الربُّ له، فإذا تجلى الربُّ له, لم يعد يحتاج إلى شيء، لأنه صار بربِّه غنيًا، فمثل هذا لا يقال في حقِّه: إنه صاحب أجرة.
صاحب الأجرة كالعامل يفاصلك حتى تتفق معه على أجرة، أما حبيبك فلا يليق أن تقول له: اعمل كذا فأعطيك أجرة كذا, بل مجرَّد أن تنظر إليه وينظر إليك صار عندك وصرت عنده، وبعد ذلك أنت له وهو لك.
يقول سهل بن عبد الله التستري رحمة الله عليه: "من عرف نفسه لربِّه عرف ربَّه لنفسه".
وهذا هو الحدُّ، فنفسك ليست لك، إنما هي لله، فمن عرف نفسه لربِّه عرف ربَّه لنفسه، وعند ذلك تجد أنه يسارع في مرضاتك.
تقول السيِّدة عائشة رضي الله تعالى عنها: رأيت ربَّك يسارع في هواك، أي في كلِّ ما تريده نفسك, أي يبحث المولى عمَّا يرضيك.
فلما تخلَّصوا من كلِّ العلائق كان لهم كلُّ شيء، ومن كان له الله فما الذي يفقده؟
ماذا فقد من وجدك؟ وما الذي وجد من فقدك؟
لذلك إذا كنت تبحث عن أجرٍ عظيم وحسنات ودرجات ... فعليك بالمجاهدة، أي أن تتصدَّق وأنت صحيح شحيح.
فإذا كنت شحيحًا, وبخيلاً, وحريصًا, وتجد قيمةً للمال، ونفسُك متعلِّقةٌ به ... ومع ذلك تنفق, فهذا أعظم الدرجات والحسنات.
أما إذا صرت كريمًا فهذا أدنى درجة منه، لأنه لم يعد عندك تجاذبٌ مع النفس.
وإذا صار الإنفاق عندك سجيَّةً فلم تعد تعاني فيه، واقتربت من وصف العبد، فعندها لن يكون هناك أجرةٌ مخصَّصة، فقد صرت من أهل القرب، وإذا صرت من أهل القرب وتخلَّصتَ من النفس وجذبِها وعلائقِها، عندئذٍ تكون له ويكون لك، وإذا كان الله لك فماذا تعني الجنة كلُّها وما فيها؟
لذلك قال: وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ.
ثم قال: تَخْشَى الفَقْرَ، أما العبد فلا يخشى إلا الله.
وَتَأْمُلُ الغِنَى, أما العبد فلا يأمل إلا مولاه.
وَلاَ تُمْهِلُ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ, فأتى لك بمثال:
أي هذا الذي أيقن أن الدنيا ستفارقه أصبح في حكم المستسلم {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاَ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] أي صار عبدًا اضطرارًا، فالذي وصلت روحه إلى الحلقوم صار عبدًا، لكن اضطرارًا، فلم يكن عبدًا اختيارًا.
فأتى بهذا المثال ليقول لك: كن بهذا الحال قبل أن تصل إليَّ، كما ورد: "موتوا قبل أن تموتوا"، وكذلك: "الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا".
فإذا بلغت الحلقوم صرت عبدًا اضطرارًا, وعندها لا يوجد عندك ذرَّةٌ من تجاذب النفس، ولا المعاناة، ولا المجاهدة ... وعندئذٍ:
قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا, وَلِفُلاَنٍ كَذَا, وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ, أي أعطوا فلانًا وأعطوا فلانًا، ولا تريد أن يبقى لأحد حقٌّ عليك، وتكون كالعبد المتحقِّق!
لكن ليس هذا المطلوب، بل المطلوب أن تكون كذلك قبل أن تبلغ الحلقوم.
صر عبدًا باختيارك، وعندها تتحوَّل من أجيرٍ إلى عبدٍ باختيارك.
فهذا المثال الأخير الذي أتى به هو حيث أنت عبدٌ, لكن مكرهًا، فلم يعد لك أيُّ حول ولا قوَّة، والعبد ليس له حول ولا قوَّة.
فإذا شاهدت أنَّه لا حول لك ولا قوة إلا بالله, أي: {هَذَا عَطَاؤُنَا}, {بِغَيْرِ حِسَابٍ}, {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} وذلك بحسب الترتيب في المعنى, وشهدتَ أنَّ الكلَّ له تعالى، ولم تقل كما قال فرعون: أليس لي؟ تكون قد وصلت إلى حال العبديَّة الذي هو ثمرة التصوُّف.
فثمرة التصوف أن تخرج عن رؤية العمل وعن طلب الأعواض، فلا تطلب عوضًا من أخيك، فضلاً عن أن تطلب عوضًا من ربِّك، أو من سيِّدك, جاء في الحكم: "لا تَطْلُبْ عِوَضًا عَلَى عَمَلٍ لَسْتَ لَهُ فَاعِلاً"، "إِذَا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فَضْلَهُ عَلَيْكَ، خَلَقَ وَنَسَبَ إِلَيْكَ".
فهذه هي فائدة التصوف: ألا ترى لك عملاً, فكيف تطلب بعد ذلك عِوَضًا على العمل الذي لم تره أصلاً؟
اليوم يمسك الواحد بالسبحة ويسبِّح الله كثيرًا، أو يصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو يهلِّل بلا إله إلا الله ... ثم يأتي ويقول: لماذا لم أر منامًا؟ أو لماذا تعسَّرت الأمور عليّ؟ ...
فهل تسبِّح من أجل أن ترى منامًا؟
أتريد أن تتيسَّر عليك؟ لماذا؟
يقول: لأنني سبَّحتُ, وصلَّيتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
نقول: أتريد أجرة؟
وربَّما لو خُيِّر بين أن يُعطَى ألف ليرة على كلِّ صلاة يصلِّيها على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أو أن يُعطَى مائة ألف حسنة, قد يختار الألف ليرة.
ولو قيل: كلُّ من يصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم مرَّةً فله ألف ليرة, لرأيتَ العالم الإسلاميَّ كلَّه يصلِّي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلَّ يوم مائة ألف مرَّة.
فمتى يرحل الإنسان بقلبه عن الدنيا الدنيَّة؟
فهذه الدنيا أقلُّ بكثير من أن يُكرِمَ اللهُ فيها أحبابَه.
ولكن قد يقول قائل: نحن نرى أن الله تعالى يكرمهم.
نقول: هذا لا يسمَّى كرمًا، لأن الله تعالى يعطيه لقضاء الحاجات، فالدنيا قضاءُ حاجات، وهي ليست أهلاً أن تكون محلاًّ للإكرام، فقد أجلَّ أقدارَهم أن تكون هذه الدار محلَّ إكرامه لهم.
وهكذا يرتقي الإنسان حينما يعلِّق قلبه بالله وحده.
وهذه فائدة التصوف.
فلا تشكُ عسرًا، ولا تفرحْ بيسرٍ، ولا تشكُ مولاك:
فما في الهوى شكوى ولو مُزِّقَ الحشا
هذا هو المعنى البعيد في هذا الحديث، والذي يلوح من وراء الأستار.
وعلى المستوى العمليِّ:
يُرَغِّبُ هذا الحديثُ الإنسان بادئ ذي بدء بالدخول، فإذا قلت: أنا أعاني, أقول: فأنت أعظمُ أجرًا.
فالذي يتعتع في قراءة القرآن له أجران.
فإذا كان الذكر مما يصعب عليك فأنت أعظم أجرًا، وإذا كان قيام الليل أو الإنفاق في سبيل الله أو تلاوة القرآن الكريم أو طلب العلم أو خدمة إخوانك في الله أو التواضع ... مما يصعب عليك فأنت أعظم أجرًا.
يقول: الذلُّ لله فقط، نقول له: الذلُّ لله لا مظهر له إلا بالذلِّ لإخوانك، وهذا مما لا يفهمه أكثر الناس.
فإذا لم يذلَّ لإخوانه فما ذلَّ لربِّه، وهو متكبِّر, ويرى إخوانه أصنامًا.
فلِمَ لا يراهم كعبة؟
أليس المؤمن أعظم حرمةً عند الله من الكعبة؟
فانظر إليه على أنه كعبة، فإذا رأيته كذلك طُف حوله بالخدمة والإيثار والتواضع، وهل ترى أحدًا يتكبَّر عند الكعبة؟ فلماذا إذًا تتكبَّر عند أخيك؟
وهذا هو مظهر الذلِّ لله, فكلما ذلَّ لأهل الإيمان تحقَّق ذلُّه لله.
وهذا يصعب فهمه إلا على من ذاق الحقائق.
هذا الانفصام في الشخصية الذي يعيشه الإنسان ناجمٌ عن جهله بمعنى الذل لله.
فإذًا: إذا كان التواضع والذل لإخوانك مما يصعب عليك فأنت أعظم أجرًا
فإذا وَجَدَ أن قيام الليل، والإنفاق، وخدمة إخوانه، والتواضع، والذكر، وطلب العلم ... مما يسهل عليه, فنقول له: صرت عبدًا.
فلا تفرح بتلك الأيام التي أُجْرتُها كثيرة، فقد كان الأجر لعملك, وقد رأيته من المخلوقات، فلما صرتَ عبده صار ربَّك، وقد صرتَ له وصار لك.
وليس هناك غير هاتين الحالتين: فإما أن يصعب عليك أو لا، وفي الحالتين هو خير.
فإن رأيته عسيرًا فهو خير لأنك أعظم أجرًا، وإن رأيته يسيرًا فالله يهنيك لأنك صرت عبدًا.
لكن المصيبة هي أن لا يبادر أصلاً، فيقول: لا تحدِّثني عن التواضع والإنفاق والخدمة والتفتي والتضحية والذكر و ... فلديَّ مشروعاتٌ في ذهني سأفعلها، فهذا كمن قيل فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] وهذا لم يعد لنا شغلٌ معه, ونقول له: صرتَ عبدَ نفسك، إذ لم يعد عندك توكُّلٌ على الله, فتوكَّلْ على نفسك، والحقُّ يكلك إلى نفسك.
إذًا:
- أن تبادر إلى الخيرات وتجد هذه المبادرة ثقيلة عليك، فهذا عظيم, وأنت أعظم أجرًا.
- أن تبادر دون أن تجد صعوبة, فقد صرت عبدًا.
- أن لا تبادر أصلاً وتبقى في شأنك الخاصِّ بعيدًا عن خدمة دين الله، وعن التفتي، وعن هذه السجايا العظيمة ... فأنت لا من هؤلاء ولا من هؤلاء إنما صرت عبد نفسك.
هذا تشخيص عام.
بقي أن نقول: إن مما يخفف عليك المعاناة ويلحقك بالعبدية أن تخرج عن فرديتك إلى الجماعة، لأن بقاءك في فرديتك هو بمثابة الداعم لنفسك، أمَّا وجودك في الجماعة فإنه يمحو الأنا، قال تعالى: {وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، وقال: {وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] وقال عن السيِّدة مريم: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].
ففي الجماعة يكون السرُّ والتأييد, وبمقدار ما تكون وحدك تُضَخَّمُ نفسُك ومآربُها وأغراضُها، ويضعف فيك حسُّ العبد وإن توهَّمتَ أنك عبد، أما في الجماعة فالوصول إلى العبدية أسرع، والبعد عن المعاناة أكبر.
فهذه الرؤية التي يجد الإنسان فيها صورةَ الجماعة كبديلٍ عن النفس المشخَّصَة تقرِّبه من العبدية.
قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَقَالُوا سَلامًا} [الفرقان: 63] وهنا نلاحظ كيف صاغ الحقُّ سبحانه وتعالى جماعتهم, ولم يقل: وعبدُ الرحمن الذي يمشي على الأرض هونًا وإذا خاطبه الجاهلون قال سلامًا, {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64] وهذا كلُّه تشخيصٌ للحال الواحد في الجماعة.
وأول كلمة في الآيات هي: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} أي هؤلاء عبيد.
فلما كان في الجماعة تحقَّق له وصف العبد.
اللهم حققنا بذلك يا ربَّ العالمين, والحمد لله ربِّ العالمين.
أعلى الصفحة