الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
14 - الواجب والمستحيل العَرَضِيَّان
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان
1/9/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرّحمن الرّحيم, الحمد لله ربِّ العالمين, اللهم صلِّ على سيّدنا محمّد عبدك ورسولك النبيّ الأمّيّ وعلى آله وصحبه وسلّم.
الاصطلاحات في العلوم هي كالأدوات والكؤوس التي من خلالها يُفهم القرآن العظيم، وتُفهم سُنّة حبيبِنا سيِّدِنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
لا شك أن دين الله سبحانه وتعالى نـزل على سيِّدِنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقيناه من خلاله صلى الله عليه وسلّم، ثمّ جاء العلماء وضبطوا الاصطلاحات تيسيرًا لنا.
وهكذا استطعنا من خلال الاصطلاحات في الفقه، أو الاصطلاحات في الحديث ... أن نصل إلى فهم ديننا وضبطه.
فمثلاً نشأ علم الجرح والتعديل من أجل ضبط السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وفي الفقه نسمع اصطلاحاتٍ مثل: الشروط، والأركان، والأسباب، والموانع، والفساد، والصِحّة ...
وفَهْمُ اصطلاح عِلْمِ التوحيد يُسهِّل على الإنسان اعتقادَه، لأن القرآن والسُنّة فيهما كلُّ الدين، والاصطلاحات التي وضعها العلماء رضي الله تعالى عنهم يَسَّرَتْ للإنسان فَهْمَ دينِه: في الركن الأول الإسلامي الذي عِلْمُه الفقه، وفي الركن الثاني الذي عِلمُه التّوحيد أو العقيدة، وفي الركن الثالث الإحساني الذي علمُه التّصوُّف.
ونتابع في علم التّوحيد مع اصطلاح من الاصطلاحات الدقيقة التي من خلالها نستطيع فهم قضايا كثيرة.
ورد في جوهرة التّوحيد قولُه:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا....... عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَا
للهِ وَالجَائِزَ وَالمُمْتَنِـــعَا..........وَمِثْلَ ذَا لِرُسْلِهِ فَاسْتَمِعَا

فينبغي أن نفهم معنى قوله: (وجبا)، ومعنى قوله: (والجائز والممتنع)، أي أقسام الحُكم العقليِّ التي هي: الواجب والجائز والمستحيل.
فعندما يكون الحاكمُ بالإثبات أو النفي هو الشارع سبحانه وتعالى، يكون الحُكم شرعيًّا، مثل: الصّلاة واجبة.
وعندما يكون التجربةَ والتكرارَ، فهذا هو الحُكم العاديُّ، مثل: الأسبرين مُسكِّن للصّداع.
وعندما يكون العقلَ المجرَّد، ينتج عن ذلك حُكمٌ هو الحكم العقليُّ، حيث يحكم العقل من خلال الضّرورة التي تعطي البسائط، أو من خلال المركبات.
وأمثلة الحكم العقليِّ كثيرة جدًا، فمثلاً: عندما نقول: "الواحد نصف الاثنين"، فهذا مثال عن الحكم العقليِّ.
إن أقسام الحكم العقليِّ هي: الواجب والجائز والمستحيل:
• فالواجب: هو الذي يقبل الثبوت فقط، أو لا يُصدِّق العقل انتفاءه أو عدمه.
• والمستحيل: هو الذي يقبل النفيَ فقط، فلا يُصدّق العقل وجوده، أو لا يَتصوّر العقل وجوده.
• والجائز: هو الذي يقبل الثبوت ويقبل النفي.
ثم إن كُلاًّ من الواجب والمستحيل والجائز ينقسم إلى ما يُسمّى بالضروريِّ والنظريّ:
• فالشيء الذي نصل إليه بدون برهان وبشكل بديهيٍّ يسمّى ضروريًا، بسر الضّرورة التي خلقها الله سبحانه في العقل.
• وما نصل إليه بالدليل والبرهان يسمّى نظريًّا.
و هناك بحثٌ اصطلاحيٌّ يتفرّع عن الحكم العقليّ يُسمّى بالواجب العرضيّ والمستحيل العرضيّ، وهما يتفرّعان عن الجائز الذاتيِّ.
وسنوضِّح لماذا سُمّي واجبًا عرضيًّا؟ وما معنى واجب عرضيّ؟
إن الواجب العرضي فرع من الجائز، وكما ذكرنا فالحكم العقليُّ: واجب ومستحيل وجائز، ويتفرّع من الجائز نوع اسمه الواجب العرضيّ، ونوع آخر اسمه المستحيل العرضيّ.
ولنذكر بعض الأمثلة حتّى نصل إلى فهم ذلك:
1- نقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء} [المائدة: 17]
وهنا يتحدّث القرآن الكريم عن كلمةِ الله وروحِهِ، الوجيهِ المُقرَّبِ، الذي لم يَذكر ذنبًا في حديث الشّفاعة، وفيه أنَّ النّاس يذهبون إلى الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وكلٌّ منهم يصرف الخلائق عنه، وكلّهم يذكر ذنبًا إلا سيّدنا عيسى عليه الصّلاة والسّلام فلا يذكر ذنبًا، هذا النبيُّ الروحانيُّ المُقرَّب والوجيه عند الله، الذي بَشَّر بسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].
فالقرآن الكريم يلفت انتباهنا إلى مسألة عجيبة فيقول: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} وهذا مفسَّرٌ بقوله: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لأنّ المسيحَ عبدُ الله، ومريمَ أَمَةُ الله، ومن في الأرض جميعًا مملوكون لله، وهو سبحانه يملكهم جميعًا، وله أن يتصرّف في ملكه كيف يشاء {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فهو السّلطان المنفرد في المملكة، ولا ينازعه في مملكته أحد.
هذا هو الجائز في حقّه تعالى، فمن ذا الذي يوجب شيئًا على الله تعالى في مملكته وسلطانه؟!
فإذا أراد فعل شيء فهذا من حقّه، لأنه السّلطان المنفرد، وهذا جائز له، ولا يوجِبُ عليه أحدٌ شيئًا، ولا يمنعه أحد من شيء.
لذلك قال: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ} هذه الأمّ الطّاهرة العذراء الوليّة الصدِّيقة التي {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يا مَرْيَمُ أََنّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ} [آل عمران: 37].
ثم قال: {وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} أي كلّ النّاس، الصّالح منهم والطّالح، فهذا يجوز له، ولا يُسأَلُ فيه عمّا يفعل.
ثم قال: {وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء} إهلاكًا أو إيجادًا، أو إمدادًا أو رزقًا، أو إحياءً أو إماتةً ... فيفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء.
فمفهوم هذه الآية بلغة علم التّوحيد أنَّ إهلاكَ المسيح وإهلاكَ أمِّه جائزٌ ذاتيٌّ، أي يجوز في حقّه تعالى إهلاك المسيح وإهلاك أمِّه، ولا يجب ولا يستحيل عليه تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
قيل لأحد العارفين: بمَ عرفتَ الله؟ قال: بنقض العزائم.
فكلمّا عزمت على شيء وخططت له وأردته، أرى أنّه لا يتمّ، ويكون غير ما أريد، فهذا يدلّ على أنّ إرادة الله هي التي تنفذ.
إذًا يجوز لمولانا فعل هذا، ولا يسأل عمّا يفعل، ولا يجب عليه ولا يستحيل شيء من ذلك.
2- ونقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45].
وهنا يدلُّ الخبر على بشارة للسيدة مريم، وقربٍ وكرامةٍ ووجاهةٍ للسيد المسيح، فكرامة المسيح وقربه عند الله تعالى، يسمَّى واجبًا عرضيًّا، أي:
عَرَضَ خبرٌ من الله تعالى على هذا الجائز، ولهذا سمِّي عَرَضيًّا، والجائز يحتمل الوجود والعدم، فبيَّن الله بهذا الخبر وجود احتمالٍ واحدٍ فقط وهو تكريم المسيح.
فقولنا: هو جائز، أي هناك احتمالان: إمّا إكرام المسيح أو إهلاكه، فتكريم مولانا للمسيح أو إهلاكه له جائزٌ في حقّه تعالى، لكنْ جاء الخبر، فألغى احتمالَ الإهلاك وأبقى احتمالَ التّكريم، لكنّه لم يُلغِه بالنّظر إلى ذاته، إنّما جاء هذا الإلغاءُ عَرَضًا، فبقي الأصل على ما هو عليه جائزًا بالنّظر إلى ذات الأمر، لكن بالنّظر إلى الخبر الذي عرض عليه أصبح واجبًا عرضيًّا، والذي يترتّب على عروض هذا الخبر أنه يجب علينا شرعًا الجزم به.
فهنا معنى "واجب" أي: واجب على المكلّفين، وليس على الله، لأنَّه تعالى لا يجب عليه شيء.
فعندنا إذًا كلمتان: "واجب" وَ"عرضيّ":
• فالعَرَضيُّ: لعروض الخبر.
• وواجبٌ: لأنه يجب علينا الجزم به، أي من قبيل الوجوب الشرعيّ.
وهذا الذي ميَّز أهل السنّة والجماعة عن مذهب الاعتزال الباطل الضّالّ، الذي أوجبوه فيه على الله، وسيأتي قول صاحب الجوهرة:
وَقَولُهُمْ: إنَّ الصَّلاحَ وَاجِبُ..........عَلَيْهِ، زُورٌ، مَا عَلَيْهِ وَاجِبُ

وَقَولُهُمْ: أي المعتزلة.
إنَّ الصَّلاحَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ: أي على الله تعالى.
زُورٌ: أي هذا قولٌ باطل.
مَا عَلَيْهِ وَاجِبُ: فلا يجب على مولانا شيءٌ.
إذًا: يجب علينا شرعًا أن نجزم بأنه سبحانه كرَّم المسيح ويكرِّمه.
3- ولنقرأ آية أخرى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} [الأعراف: 155]
ويُستفاد من هذا النّص أن إهلاك موسى وإهلاك الخواص من تلامذته جائزٌ ذاتيٌّ، أي جائز في حقّه تعالى، فيجوز لمولانا سبحانه فعله، ولا يجب ولا يستحيل عليه تعالى.
فسيدنا موسى عليه الصّلاة والسّلام قال: أنا مملوك من مماليك الله، ويجوز للمَلِكِ أن يفعل بمملوكه ما شاء، فهو جائز ذاتيّ.
ثم نقرأ قوله: {قَالَ يا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} [الأعراف: 144] وفي موضع آخر قال: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى} [طه: 68] وهذا في حقّ سيّدنا موسى عليه الصّلاة والسّلام.
أما في حقّ تلاميذه فنقرأ قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]
ويُستفاد من هذه النّصوص:
• اصطفاء موسى بالرّسالة: فهو رسول من الله.
• واصطفاؤه بالكلام: فهو كليم الله.
• ويُستفاد أيضًا كرامةُ بعض تلامذته عليه الصّلاة والسّلام.
فهذا الاصطفاء واجبٌ عرضيٌّ، أي عرض الخبر به ، ويجب علينا شرعًا أن نجزم به، فيجب أن نجزم أن موسى عليه الصّلاة والسّلام قد اصطفاه الله برسالته وبكلامه.
إذًا: ليس هناك تعارض، فالنّص الأول يبيِّن أن الأمر جائزٌ بالنظر إلى ذاته، أما باقي النصوص فتبيِّن أنّه واجبٌ عرضيٌّ بالنّظر لعروض الخبر.
4- ونقرأ في النّصوص قوله: {وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} [آل عمران: 129] فهذا النّص يُبيّن أنّ المغفرة هي لمن يشاء سبحانه، فله تعالى أن يغفر لمن شاء، وله أن يُعذّب من شاء.
ونقرأ في آية أخرى قوله: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} [الفتح: 14].
فمغفرته تعالى لمن شاء جائزٌ ذاتيٌّ، أي يجوز لمولانا سبحانه فعلُ هذا الجائز، ولا يجب ولا يستحيل عليه تعالى فعلُه.
لكنّنا نقرأ: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ، قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص: 73-78]
قد يقول قائل: تشير هذه الآية إلى طرد إبليس حتّى يوم الدّين أي حتّى يوم القيامة، لكنّه لم يقل: إنّه سيدخل النّار، فهو مطرود إلى يوم الدّين ثم بعدها يغفر له.
نردّ عليه فنقول: أكمل الآية فستجد: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ، إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ،‏ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ، لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 79-84] فجاء النّص القرآنيّ مُصرِّحًا قاطعًا، وهذا ما يسمَّى عروض الخبر.
إذًا: المغفرة لإبليس مستحيلٌ عرضيٌّ، لعروض الخبر بذلك.
صحيح أنّه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء} لكن عرض خبرٌ بدخول إبليس نار جهنم، فلن يُغفر له.
إذًا المغفرة لإبليس مستحيلٌ عرضيٌّ، أي عرض خبر المولى بعدم وقوعها، فيجب علينا شرعًا أن نجزم بعدم وقوعها.
ثم يجوز في حقّه تعالى أن يغفر لإبليس، ويجوز أن يُعذّبه، ويجوز أن يُعذّب الأتقياء، ويجوز أن يغفر للأشقياء، لكن عندما عرض الخبر جعلنا نجزم بعدم وقوع عفو مولانا عن إبليس، لأنه أخبر أنّه سيُدخله جهنّم، وأنّه سيملأ جهنّم منه وممّن تبعه.
5- ونقرأ في قِصار السور من القرآن: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3] وقد ورد معنا أنه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}.
فبالنّظر إلى ذات الأمر نقول: يجوز في حقه تعالى أن يعفو عن أبي لهب، أو أن يُعذّبه، لأنه أحدُ المخلوقين، وهو سبحانه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}، فدلّ هذا النّص على الجواز الذاتيّ.
لكنْ عرض الخبر {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} ثم قال بعدها: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} فدلّ هذا النّص أن العفو والمغفرة لأبي لهب مستحيلٌ عرضيٌّ.
إذًا:
الواجب العرضيُّ: يجب علينا شرعًا الجزم بوقوعه.
والمستحيل العرضيُّ: يجب علينا شرعًا الجزم بعدم وقوعه.
فكلّما جاء الخبر في النّص بأنه لن يقع، وجب علينا شرعًا أن نجزم بأنّه لن يقع.
6- ثم إن آيات دخول فرعون النار كثيرة جدًا، كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 98]، وليس هناك احتمالات، أمَّا أن فرعون آمَنَ فهذا ثابت، لأنّ الله سبحانه وتعالى قال: {آلآنَ} [يونس: 92] أي آلآنَ آمنت؟
فقد آمَن، لكنّ إيمانه لم يُقبَل، لأنه آمن عند الغرغرة، وإيمان الغرغرة لا يُقبل.
فمن هذا الميزان يمكننا امتلاك لغة اصطلاحية من خلالها يمكن فهم النّصوص.
قال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 108] أي له تعالى أن يفعل ما يشاء، فهذا نصّ واضح أنّه يجوز لمولانا فعلُ ما يُريد.
ومن جملة أفعاله أن يدخل من يشاء الجنّة، أو يخرج من يشاء من النّار، فإخراج الكفّار من جهنّم هو من جملة أفعاله، وهذا جائز بالنّظر إلى النّص: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} فلو أراد لأخرجهم، فهذا جائزٌ ذاتيٌّ يجوز لمولانا فعله، ولا يجب ولا يستحيل عليه.
لكن عندما نقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة: 161-162] نجد أنّهم خالدون في النّار، فهذا نصٌّ قرآنيٌّ يثبت خلود أهل الكفر في نار جهنّم.
صحيح أنه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وهذا النّص أفاد معنى الجائز في حقّه تعالى، ويجوز له أن يفعل ما يشاء، لكنْ عرض خبرٌ بأنّ الذي يموت كافرًا خالدٌ مخلَّدٌ في نار جهنّم.
إذًا: فخروج الكفّار من النّار مع كونه جائزًا في حقّه تعالى، لكنّه مستحيلٌ عرضيٌّ، أي عرض خبرُ مولانا بعدم وقوعه، فيجب علينا شرعًا الجزم بعدم وقوعه.
فنكون بهذه الأمثلة قد وضّحنا معنى الجائز، ومعنى الواجب العرضيّ المُتفرِّع عن الجائز، وكذلك المستحيل العرضيّ، والذي لا يلغي كون أصله جائزًا، والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة