الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
باب المبادرة إلى الخيرات-الحديث الأول
التصوف
جامع العادلية بحلب
12/7/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال:
بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرّجُلُ مُؤْمِنًا ويُمْسِي كَافِرًا، ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا./ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.‏
هذا الحديث يختصر السلوك, ومن معنى هذا الحديث قولُ صاحب الحكم العطائية رحمة الله عليه: "النورُ جُنْدُ القَلْبِ، كَمَا أَنَّ الظُّلْمَةَ جُنْدُ النَّفْسِ".
فهذا الحديث يخبر عن حربٍ بين النور والظلمة، والتي ينهزم فيها كثيرٌ من الناس فينقلبون من إيمانهم إلى الكفر.
قال: بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ الّليْلِ المُظْلِمِ, فقد تكون الظلمانيةُ ظلمانيةَ أعمال، فتُقابَلُ بالأعمال الظاهرة, فالفساد الذي فيه المنكرات والفواحش الظاهرة, يقابلُه المؤمنُ بأعمال الطاعة التي تُرضي مولاه، فتطفئ أنوارُ الطاعاتِ ظلماتِ المعاصي والمنكرات والفواحش، وتُذهِبُ أنوارُ الأعمال المرضية في طاعة الله سبحانه وتعالى ظلمانيةَ الفتن الظاهرة، وأنوارُ أعمال القلوب تنفي ظلمةَ أعمال القلوب الخبيثة، لأن الأعمال نوعان: أعمال ظاهرة كظاهر الصلاة والصيام والحج، وأعمال باطنة كالصدق والصبر والشكر والإخلاص والتوكل على الله ...
فإذا كانت الفتن بسبب شيوع الفواحش, مع وجود الإيمان الباطن في الغالب، فوجودُ الطاعات يطفئُ تلك الفتنة ويذهبُها وينفيها (أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا), {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ} [هود: 114].
هذا إذا كانت تلك الفتنةُ والظلمةُ ناجمةً عن كثرة المعاصي الظاهرة مع وجود قلوبٍ مؤمنة، حيث غلبتها النفسُ في لحظةِ غفلةٍ فانزلقت وارتكبت مخالفةً، أما إذا فسدت القلوب وكثر الحسدُ والغلُّ والاعتمادُ على الخلق، وكثرت البغضاء، وانعدم الصبرُ وحلَّ محلَّه الضجر، وانعدم الشكرُ وحلَّ محلَّه كفران النعمة، ونسي العبد فضل مولاه ... فالطاعات بظاهرها لا تُذهِبُ الفتنة، بل تحتاج إلى أعمالٍ قلبية وأنوار قلبية، فبهذه الأنوار تنتفي الفتن الباطنة.
ثم إنّ سرَّ الأعمال الأحوالُ، فحُسن الأعمال ناجمٌ عن حسن الأحوال، والأعمال الخبيثة الظاهرة أو الباطنة ناتجة عن خبث الأحوال، فلا يزيح الفتن التي سببها خبث الأحوال إلا صفاء الأحوال.
ثم قال: يُصْبِحُ الرّجُلُ مُؤْمِنًا ويُمْسِي كَافِرًا, لأن أنواره تزول، وإذا زالت أنوار الطاعات في الظاهر وأنوار القلوب في الباطن لم يبق من إيمانه شيء.
ثم قال: ويُمْسِي مُؤْمِنًا ويُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا, وهذه هي العلامة.
فإذا أراد الإنسان أن يختبر قلبه وباطنه وظاهره، فقد أعطانا سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم علامةً من العلامات التي يختبر من خلالها الإنسان ما في قلبه:
- فإذا كان معظِّمًا لدين الله, وكان دينُه عنده أغلى من نفسه وولده وماله ... فإنه في أمان.
- وإذا كان مالُه أو تزلّفُه أو التقرُّبُ من أصحاب الجاه أو الحُظوةُ التي ينالها في الدنيا ... أفضلَ في المكانة عنده من دينه، ومن صفاء قلبه، ومن استقامته، أي: إذا كان سيضيع دينه بسبب حظوةٍ، أو نيلٍ، أو مطمعٍ ... فهذا يدلُّ على أنه واقعٌ في الفتنة.
قال سيِّدنا خبيب:
ولستُ أبالي حين أُقتِل مسلمًا ..........على أيِّ جنبٍ كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ .......... يبارِك على أوصال شِـــــــــــلْوٍ ممــــــــــــزَّعِ

وهذا من أعلى ما يقال في التصوف.
فأصحاب النفوس الذين لم تذُقْ قلوبهم لذَّة القرب، ولا استأنست أرواحهم بالمحبوب، يأنَسُون بالجِيَف، ويقفون مع المطامع، فهؤلاء يحتاجون إلى توبة وبكاء، وهؤلاء أقلُّ القليل في حقِّهم أن يبكيَ الواحدُ منهم على نفسه، وأن يسارع بالإنقاذ حتى لا يهلك.
فالذي يحصل على الدنيا كلِّها ويضيِّع دينه, حصّل جزءًا من جناح البعوضة, والذي يصير صاحبَ سلطانٍ أو جاهٍ أو منصبٍ ويضيِّع دينه، ما الذي حصَّله؟
هذه نتيجة التصوف: أن يرتقيَ بهمَّته فوق الأشياء، فإذا لم يُنْتِجِ الشوقُ والحبُّ وذكرُ المحبوب والتجلي الذي تذوق الأرواح منه اللذائذ وتسترْوِحُ من ريحانه القلوب، التعزُّزَ على الأشياء بالعزيز، والتفرُّدَ عن الخلق بالفرد، وإذا لم يكن حالُه حالَ: "وَلَسْتُ أُبَالِي"، وإذا لم يكن قصدُه في معنى: "إِلَهِي! أَنْتَ مَقْصُوْدِيْ, وَرِضَاكَ مَطْلُوْبِيْ", فإنه لا دخل التصوف، ولا صفا, ولا ذاق منه.
فعليه أن يوجّه قلبه إلى مولاه وحده, فقد يعامله بالجمال وقد يعامله بالجلال.
وكثيرٌ من الناس حين يعامله مولاه بالجمال فإنه ينصرف عنه، وكثيرٌ منهم حين يعامله مولاه بالجلال فإنه ينصرف عنه، فعليه إذًا أن يُخلصَ ويَصدُقَ ويُصحِّحَ مقصودَه.
وطالما أنه يتنفس، وأنه ما زال في حياته الدنيوية فهو في معاملة، فإذا انتقل المؤمن من دار المعاملة, يدخلُه الحقُّ في دار الكرامة, ويُسقط عنه التكليف في الدار الآخرة, لأنه يريد تشريفه وتكريمه.
وقد قالوا: كل بلية تحصل هي في حقيقة أمرها تكفيرٌ ورفعٌ, إلا البليَّة في القلب، لأنها قسوة وبُعد، وإلى هذه البليَّة يشير هذا الحديث النبويُّ محذِّرًا.
فالعلامة إذًا: "يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا".
وعلى كل واحد منا أن يسألَ نفسه كلَّ يوم: ما هو أعظم شيء عندي؟
فإذا كان دينَه, أي هو فوق ماله ونفسه وحياته وولده, فهو ناجح في الامتحان، وإذا وجد فوق دينه في المكانة شيئًا فإنه فاشل في الامتحان، فليس السلوك والطريق والتصوف إلا لتحصيل هذا, والحمد لله ربِّ العالمين.
أعلى الصفحة