الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
12- معنى الحكم وأقسامه
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
11/8/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربِّ العالمين، اللهم صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ عبدِك ورسولِك النبيِّ الأمِّيّ وعلى آله وصحبه وسلِّم, وبعدُ:
فأكثر ما يؤثِّر في الإنسان تصوُّراتُه، فقد تكون هذه التصوُّرات صحيحةً، وقد تكون خاطئة، لكنه يحكم على ما يتصوَّر، وكما يقول أهل العلم: "الحكمُ على الشيء فرعُ تصوُّرِه".
وهناك تصوُّرٌ في الغرب عن الإسلام بأنه مجموعة انفعالاتٍ وعواطفَ تدعو إلى القتل والتدمير والتخريب ...
وقد أخبرني أستاذٌ (بروفسور) أنه اجتمع بأحد المواطنين الأمريكيين فأحبَّه ذلك المواطن محبَّةً شديدةً, ثم فوجئ يومًا من الأيام بأنه مسلم، فقال: هل يُعقَل أنك مسلم؟ فقال له: لماذا تستغرب؟ قال: لأنك لم تقتلني مع أنني لست مسلمًا, فأنا على دين النصرانية، فلمَ لم تقتلني؟ فقال له هذا الأستاذ: ومَنِ الذي أعلمك بأن الإسلام يدعو إلى القتل؟
فمع أن هذا الإنسان على سويَّةٍ عاليةٍ من الثقافة والعلم, لكنه حَكَمَ على الإسلام من خلال تصوُّره, مع أن رسول الإسلام هو سيِّدُنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم, الذي هو مظهر الأخلاق وصاحب الشمائل العظيمة, والذي اختصر الله سبحانه وتعالى كلَّ رسالته بكلمةٍ عندما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
مثال آخر: مفهوم الرئيس في الولايات المتحدة (أو أكثر الدول الغربية) هو عبارة عن سلطةٍ تنفيذيَّةٍ للقانون، فهو يقوم خلال ولايته بتنفيذ القانون، فأيُّ مواطنٍ في تلك الدول تذكرُ أمامه كلمةَ "الرئيس" فلا تجد أنه ينفعل لها كثيرًا, لأنها تعني له شخصًا موظَّفًا يقوم بوظيفته لمدة ثلاث أو أربع سنوات ثم تنتهي مهمته، وبعدها تتيح له بعض الدول أن يكرِّر ولايته لمرَّة, وبعضها لا تتيح.
لذلك لا تجد أن هذا المواطن ينفعل كثيرًا لهذه الكلمة, لأنه يتصوَّر معناها في ذاكرته وفي مخزونه المعرفي، فلا يجد أنها تُشكِّلُ شيئًا بالنسبة له.
ونرى في أكبر المنتديات في بعض الدول كيف أن الرئيس يُنتقَدُ انتقادًا شديدًا جدًّا، ويُشتَم بأبشع أنواع الشتائم دون أي تحفُّظ.
فإذا انتقلنا إلى دولٍ أخرى، نجد أن كلمة الرئيس في الاتحاد السوفييتي مثلاً تحمل معنىً كبيرًا, حيث كان الحكمُ حكمَ الحديد والنار، وفي الصين كانت تعني المعبودَ، وفي أثيوبيا إذا مرَّ موكبُ الرئيس ولم يُسجَد له من قِبَلِ شخصٍ ما يُطلَق عليه النار.
إذًا: هذا التصوُّر يفرز حكمًا, ومن هنا نفهم معنى قولهم: "الحكمُ على الشيء فرعُ تصوُّرِه".
فلو أنَّ مواطنًا غربيًّا كان في أثيوبيا أو في الصين فإنه سيبقى على تصوُّره، ولو أن مواطنًا من تلك البلدان ذهب إلى الدول الغربيَّة فإنه سيبقى أسير تصوُّره.
وبعد بيان العلاقة بين الحكم على الشيء والتصوُّر، ننطلق إلى بوابة علم التوحيد - حيث كنا قبل البوابة - وبوابتُه معرفةُ الأبجديات، أي المصطلحات الأساسية التي من خلالها نستطيع أن ندخل إلى هذا العلم.
فكما أنه لا يمكن أن ندخل إلى علمٍ مثلِ علم الفقه دون أن نعلم معنى الركن, أو الشرط, أو السنَّة, أو الواجب, أو المحرَّم ... فكذلك علمُ التوحيد.
وقد وصلنا في شرح جوهرة التوحيد إلى قول الناظم رحمة الله عليه:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا.......عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجَبَا
لِلَّهِ والجائِزَ والمُمتَنِــــعَا.......وَمِثــــْلَ ذا لِرُسْلــِهِ فَاسْتَـمِعَا

وهنا لدينا ثلاثة مصطلحات جديدة هي: الواجب، والجائز، والممتنع أو المستحيل, وعلينا أن نتعرف إلى ماهية هذه المصطلحات, مثل:
يجب لمولانا سبحانه وتعالى ..
يستحيل أو يمتنع في حقِّ مولانا ..
يجوز في حقِّ مولانا ..
يجب في حقِّ الرسل عليهم الصلاة والسلام ...
إذًا: فالمصطلحات هي البوابة التي من خلالها نستطيع أن ندخل إلى هذا العلم.
التصوُّر هو: إدراكُ أمرٍ من الأمور.
فإذا قلنا: هذا قلم, أو ميكرفون، أو مسجد، أو معبد ... فهذه ألفاظٌ تحتاج إلى تصوُّرها، وذلك دون أن تثبتها لأمرٍ أو تنفيَ عنها أمرًا.
فإذا قلتَ: المسجدُ جميلٌ، أو المسجدُ نورانيٌّ، أو المسجدُ بهندسةٍ رفيعةٍ ... فقد أثبتَّ له شيئًا آخرَ, وكذلك إذا قلتَ: المعبدُ فيه تحلُّلٌ خُلُقيٌّ.
فنحتاج هنا إلى إدراك أمرين: كلمة معبد وكلمة تحلُّل، أو كلمة مسجد وكلمة هندسة ... ثم نحتاج إلى ربط هذين الأمرين، فهذا يعتبر تركيبًا، لكننا نتحدث هنا في البسائط أي التصوُّر.
فكلُّ لفظةٍ لا بد أولاً أن نَتَصوَّرَ أو نُدرِكَ معناها، دون أن نثبت لها أو ننفي عنها شيئًا.
وهناك إثباتٌ ونفيٌ، فإذا قلنا: هذا القلم ليس عسيرًا في استعماله، فهذا نفيٌ, حيث ربطنا الاستعمال بكلمة "عسير".
إذًا: نحن تصوَّرْنا معنى القلم، وتصوَّرْنا معنى الاستعمال, وتصوَّرْنا معنى كلمتي "يسير وعسير", ثم حكمنا على القلم بأنه يسير أو عسير الاستعمال, وهذه مُرَكَّبات.
فالتصوُّر: إدراكُ أمرٍ من الأمور مع عدم إثباته لأمرٍ أو نفيِه عنه.
أما عندما ننتقل إلى التركيب, فندركُ أمرًا من الأمور ثم نثبته لأمرٍ آخر، فهذا يسمَّى حكمًا.
فمثلاً نقول: برنامج الـ "Power Point" يسهِّلُ الحفظ، فنحتاج أولاً إلى تصوُّر البرنامج، ثم إلى إدراك أو تصوُّر مفهوم سهولة العرض، أو مفهوم الحفظ، أو مفهوم الفهم، ثم يأتي الربط بين هذا الأمر وذاك، فهذا يسمَّى حكمًا.
وعندما ننفي ونقول: استعمال هذا البرنامج ليس صعبًا, فهذا أيضًا يسمَّى حكمًا.
فعندما ربطنا بين تصوُّرٍ وتصوُّر عن طريق الإثبات أو النفي صار اسمه حكمًا، وهذا معنى الحكم.
فالتصوُّرُ إدراكٌ بسيطٌ دون إثبات أو نفي, فإذا حصل مع هذا الإدراك تركيبٌ, أي بين أمرٍ وأمرٍ آخر, بحيث تثبت هذا الأمر للآخر أو تنفيه عنه فهذا حكمٌ.
نضرب بعض الأمثلة:
- إذا قلنا: الصلاةُ فريضةٌ، فلا بد أن يكون في المخزون المعرفيّ تصوُّرٌ عن الصلاة، وعن الفريضة، فعندما نثبت هذا لذاك بقولنا: الصلاة فريضة, أي فرضيتها ثابتة، فهذا يسمَّى حكمًا.
- وعندما نقول: البيع ليس بمحرَّم، فهذا حكم, لأننا نتصوَّر معنى البيع، ونتصوَّر معنى التحريم, ثم ننفي التحريم عن البيع.
- وعندما نقول: الدواء الذي اسمه العلميُّ إيبوبروفن، يفيد بشكلٍ جيِّد في علاج الشقيقة, الذي هو توسُّعٌ في الأوعية - أي هو مسكّنٌ للشقيقة - فهذا ربطٌ, ولولا تصوُّرُنا عن الإيبوبروفن وعن مرض الشقيقة, لما استطعنا أن نقوم بهذا الربط.
وفي نفس الوقت نستطيع أن نقول: إن دواء الديجوكسين لا ينفع في الشقيقة، لأنه مقوٍّ للقلب وليس مسكِّنًا.
إذًا: لم نستطع أن نصل إلى هذا الحكم إلا بعد التصوُّر.
والذين درسوا الهندسة لديهم مصطلحات خاصة يعرفونها، ومن خلالها يربطون أو ينفون.
إذًا: فكلُّ تصوُّرٍ هو مقدِّمةٌ لحكمٍ، فعندما نربطُ بين التصوُّرات نصلُ إلى أحكامٍ.
فصاحب المطبعة عنده تصوُّرات، وصاحب الهندسة عنده تصوُّرات، وصاحب الطبِّ عنده تصوُّرات ...
وهناك ما لا يحصى من الروابط التي تسمَّى أحكامًا، حيث نربط بين أمرٍ وأمرٍ بنفي أو إثبات, فيسمَّى هذا حكمًا.
لكن مَن الذي يحكم بهذا الحكم؟
نلاحظ في الأمثلة تنوُّعًا, فكلمة "الصلاة فريضة" تختلف عن كلمة "الإيبوبروفن مسكِّنٌ للشقيقة"، فما الفارق بين هذه الأحكام؟
نقول: إذا كان الذي يثبت أو ينفي هو الشارع سبحانه وتعالى، فيسمَّى الحكمُ شرعيًّا.
فالمُشرِّع سبحانه يثبت أو ينفي, ويقول لنا: الربا حرام، وأكل الميتة حرام، وصيام رمضان واجب ... ولا علاقة لأحدٍ في هذه الأحكام، فالشارع الذي ينظم حياة الإنسان هو الذي قام بهذا الربط, فتسمَّى هذه الأحكام شرعيَّة.
فهو حكمٌ وربطٌ بين أمرين، لكنه حكمٌ شرعيٌّ، لأن الذي ربط بهذا الربط هو المشرِّع سبحانه وتعالى.
وقس على ذلك كلَّ الأحكام الشرعيَّة المتعلِّقة بالعبادات والمعاملات، والمتعلقة بالحدود ...
أمثلة: السرقة محرمة، الرشوة محرمة، الزكاة فريضة، صيام يوم الاثنين مندوب، قيام رُكيعات في الليل مستحبّ ...
فهذه كلُّها أحكامٌ وروابط بين تصوُّراتٍ ليس لأحدٍ أيُّ علاقةٍ فيها, لأنها من وضع المشرِّع سبحانه وتعالى الذي ينظِّم الحياة.
وشتَّان بين ما هو من وضع الشارع سبحانه وبين ما هو من وضع البشر, وكم هو الفارق كبيرٌ بين نظام الزكاة ونظام الضرائب:
- فقد نظّم ربُّنا سبحانه هذا النظام الماليَّ العظيم الذي هو نظام الزكاة، بحيث لا تؤخذ الزكاة إلا ممن يملك المال، وهذا المال يجب أن يكون متراكمًا عنده، إذ لو كان يملك معامل بالمليارات فلا تؤخذ منه الزكاة, ولكن إذا تجمَّع لديه المال وأصبح متراكمًا فتؤخذ منه.
- أما نظام الضريبة الظالم الذي وضعه الإنسان, فترى أنه يأخذ الضريبة من شخص لديه معملٌ خاسرٌ، ولا يملك المال لدفع الضرائب، لكنها متراكمة عليه.
فهو إذًا نظامٌ ظالمٌ، أما نظام المال الإسلاميِّ فهو: صدقات وزكاة وتكافل اجتماعيٌّ ...
إذًا: فالحكمُ الشرعيُّ هو من وضع المشرِّع الذي نظّم حياة الإنسان {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
ثمَّ في المثال الآخر: الإيبوبروفن مفيد جدًّا ونافع في حالة الشقيقة، هل وصلوا إلى ذلك بالتفكير، أم بحسب الأبحاث والتجارب؟
هل جلس أرسطو أو سُقراط أو أبقراط ... يفكرون فوصلوا إلى هذا, أم أن هذا الربط بين الشقيقة وبين هذه المادة هو نتيجة التجربة؟
وحين نقول على مستوى علم المعادن: هذا المعدن صالحٌ لاستخدام التفاعلات النووية, فكم يحتاج هذا إلى اختبارات؟
وحتى الآن يقولون: إنَّ سرَّ السيف الدمشقيِّ عظيم, لأن التركيبة والخليطة المعدنية خاصَّة جدًّا.
ويحكي لنا التاريخ أن ملك الفرنجة أراد أن يقطع قطعة قماشية من الحرير بأن مرَّرها على سيفه فلم يقطعها، أما صلاح الدين الأيوبيّ فقد ألقاها في الهواء وضربها بالسيف فشطرها نصفين.
ثم إن السيف الإسلامي العربي يزن حوالي 750غ, أما السيف الروماني فيزن حوالي 19كغ، فالأول يعتمد على الرشاقة والخفة, أما الثاني فيعتمد على التكسير والتهشيم.
فكيف وصلوا إلى هذا؟
نقول: هذا العلم حصل نتيجة التجربة, وهذا هو النوع الثاني من الأحكام.
فكلُّ ما نصل إليه بالتجربة يسمَّى حكمًا عاديًّا.
أي وصلنا إلى هذا الشيء بالعادة والتكرار, أي حكمنا عليه بعد التجربة, حيث جربناه مرتين أو ثلاثة فوجدنا أنه صحيح.
فيسمَّى ما وصلنا إليه بالتكرار والعادة حكمًا عاديًّا.
مثلاً: يقول شخص: بقيتُ مدَّةً أتناول خبز الحنطة مع التمر كوجبة صباحية يومية, وأشرب معها كأس حليب صغير، فوجدتُ أن صحتي قد تحسَّنت كثيرًا, فهذا حكمٌ وصل إليه بالتكرار وبالتجربة، فهو إذًا حكمٌ عاديٌّ.
إذًا:
- أول نوع من الأحكام: الشرعيُّ, وهذا لا علاقة لأحد به، فهو من وضع المشرِّع سبحانه.
- النوع الثاني: يحصل بالتجربة أو بالتكرار أو بالعادة, فهو حكمٌ عاديٌّ.
- أما النوع الثالث الذي هو بوابة علم التوحيد فهو: الحكم العقليُّ المجرَّد.
وهناك أحكام عقلية كثيرة، فعلى سبيل المثال:
عندما نقول: هذا الصندوق يحتاج إلى حجم من الفراغ, فهل يختلف اثنان من العقلاء على ذلك؟
وعندما نقول: المربع أكبر من ضلعه، فهل يختلف اثنان على ذلك؟
هل يحتاج إلى تجربة؟
هل يحتاج إلى وضعِ نظامٍ شرعيٍّ حتى نؤمن به؟
فهذا مما يتفق عليه كلُّ العقلاء.
وهذه الأمثلة بسيطة، لكن - كما تحدثنا في قضية التصوُّر والحكم - هناك بسائط ومُرَكَّبات:
فعندما نقول: الواحدُ نصفُ الاثنين, فهذا من البسائط أو البديهيَّات.
أما عندما نقول: الواحدُ رُبْعُ عُشْرِ الأربعين, فهذه عملية مُركَّبة، وتحتاج إلى شيء من التفكير والتأمل, لكنَّ العقلاء كلَّهم يتَّفقون على ذلك, فالعملية الأولى بسيطة أو بدهيَّة، أما الثانية فهي مركَّبة.
فما كان يحتاج إلى شيءٍ من النظر والتأمُّل يسمَّى نظريًّا.
والخلاصة:
1- إذا كان الذي ينفي أو يثبت هو المشرِّع سبحانه وتعالى, وينطق عنه سيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم, فهذا الحكمٌ شرعيٌّ.
2- وإذا كانت العادة والتجربة والتكرار هي التي تثبت أو تنفي, فهذا الحكمٌ عاديٌّ.
3- وإذا كان العقل المجرَّد هو الذي يصل إليه، فهذا الحكمٌ عقليٌّ.
نذكر بعض الأمثلة من القرآن الكريم للتوضيح:
أ- أمثلة عن الحكم الشرعيِّ:
1- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] أي فُرِضَ, ونلاحظ أنَّ الحاكمَ في هذا الحكم الذي أثبت الوجوب والفرضية للصيام هو الشارع سبحانه وتعالى، فالحكم شرعيٌّ.
2- قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنـزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ} [المائدة: 3] فمن الذي أثبت التحريم, بحيث لا يجوز أكل الميتة، ولا أكل الدم، ولا أكل لحم الخنـزير، ولا أكل ما ذُبِحَ لغير الله؟
ومن الملاحظ الذي لا بد من التنويه إليه أن بعض الناس اعتادوا عند استقبال الحاجِّ أن يضعوا الذبيحة على الأرض ويذبحوها عندما يصل ويمرُّ من فوقها, وهذا مما أُهِلَّ لغير الله به, وهي نجسة لا تؤكل، وهي من المحرَّمات.
فإذا أردت أن تولم, فاذبح وادعُ من شئت, وقل: هذا شكرٌ لله على الوصول بالسلامة.
فهذا مثال من الحكم الشرعيِّ، لأن الذي أثبت التحريم لأكل الميتة وما ذُكِرَ بعدها في الآية هو الشارع سبحانه وتعالى.
3- قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] أي تجوز المباشرة في شهر رمضان في الليل، وهي محرَّمة في النهار، لكنها غير محرَّمة في الليل، فالحاكم الذي نفى التحريم عن المباشرة في ليلة الصيام هو الشارع سبحانه وتعالى، إذًا فالحكمُ شرعيٌّ.
ففي النفي والإثبات هناك أمثلة ونماذج على الحكم الشرعيِّ.
ب- أمثلة عن الحكم العاديِّ:
1- قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] فالحق سبحانه وتعالى يحكي لنا أن الإنسان يستخدم ثيابًا، منها ما يستخدمه ليقيَ نفسه من الحرِّ، فاللباس الأبيض يعكس أشعة الشمس عن البشرة فيصرف التأذي عنها، وكذلك جعل لنا لباسًا يقينا البرد.
ثم قال: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} أي وثيابًا أخرى هي للوقاية من الإصابات أثناء القتال، وعندما تحتدم المعارك.
وحتى أيامنا هذه نرى الدروع التي يلبسها الجنود والتي تحمي الصدر من الطلق الناريِّ، فالدروع ليست فقط على زمن سيدنا داوود عليه السلام وعلى زمن القتال بالسيف، بل هي موجودة حتى وقتنا هذا.
ومراسلو القنوات الفضائية يلبسون هذه الدروع على شكل معاطف تقي من اختراق الرصاص للصدر، ويلبسون الخوذة التي تقي من وصول الطلقات إلى الرأس.
وهكذا نرى أن الإنسان كان يلبس الدروع منذ زمن بعيد لكنه طوَّرها الآن.
فلو اطَّلعنا على الدروع اليابانية، أو الصينية، أو المغولية، أو العربية، أو الرومانية ... سنجد أنَّ كلاًّ منها له مدرسة صنعته، فبعضهم كان يصنع الدروع من الزَّرَد (أي: الحلقات المترابطة)، وبعضهم من الصفائح ... فكلٌّ له نظرية, لكنهم جميعًا يحاولون صناعة دروعٍ خفيفة لا ثقيلة تقيِّدُ المقاتل في الحركة، وفي نفس الوقت تكون واقية من الضربات، فكيف وصلوا إلى هذا؟
نقول: بالتجربة وبعد دراسات طويلة واختبارات معدنية ...
والمولى سبحانه وتعالى يلفت انتباهنا إلى أن ما نصنعه بالتجربة والتكرار هو مِنْ خَلْقِهِ، فلا تتكبَّر على مولاك، واعترف له، لأنه قال في آية أخرى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وقال: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].
فقد بحثتَ ووصلتَ إلى نتيجةٍ ما بالتجربة والتكرار, لكنَّ هذه النتيجة مجعولة ومخلوقة مِنْ قِبَلِ الله سبحانه.
فنحن نربط بين السرابيل والحرِّ، وبين السرابيل والوقاية من البأس، لكن لا من حيث الخلق، فالحقُّ هو الذي يخلق كلَّ شيء, بل من حيث ما تعوَّدْنا عليه, نتيجةَ أبحاثٍ وتجارب.
هذا المثال من القرآن الكريم يربط لنا فيه ربُّنا بين السرابيل والوقاية من البأس أو من الإصابات في أرض المعركة، وكذلك يربط بين الثياب والوقاية من الحرِّ.
فالذي أثبت الوقاية من الحرِّ والوقاية من الجراح هو التجربة والعادة، فنحن نتيجة العادة والتجربة والتكرار وصلنا إلى الحكم على هذا الثوب بأنه يقي من الطلقات النارية أو لا يقي، وهذا نموذج ومثال من الحكم العاديِّ.
2- قال سيِّدُنا موسى عليه الصلاة والسلام في المناجاة: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه: 18] أي: أضربُ بها الشجر فيتساقط الورق على الأرض فتأكله الأغنام, لا أنه يضرب الغنم بها.
وقد وجد الإنسان نوعًا من الأخشاب اسمه الخيزران يستطيع أن يستند عليه، فلو استعمل العرق سوس مثلاً فلن يستطيع أن يستند عليه, وكذلك لو استعمل القصب، إذ من الصعب أن ينثني، ثم هو سهل الكسر.
فكيف وصل إلى هذا؟
نقول: بالتجربة.
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} فقد أثبت التحمل للعصا، أي أصبحت تحمل ثقل رجلٍ قويِّ البنية كسيِّدنا موسى عليه الصلاة والسلام، الذي كان عملاقًا في بنيته البدنية, وقد قال: "أتوكأ عليها"، فهذه عصا قويَّة جدًّا.
فالذي أثبت التحمل للعصا والاستعمال في الهشِّ هو التجربة والعادة.
وسيِّدُنا موسى عليه الصلاة والسلام قبل أن يُرسَل تعلَّم أنَّ هذا النوع من العصا جيِّدٌ من خلال ما اعتاد الناس عليه, ومن خلال العادة والتكرار, فالحكم إذًا هنا عاديٌّ.
3- قال تعالى: {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49].
والقرآن يستعمل مصطلح الباطل للدلالة على غير الله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] وكذلك استخدمه صلى الله عليه وسلم حين قال في صحيح البخاري: (أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللَّهَ بَاطِلٌ).
فالمولى في هذه الآية يبيِّنُ أنَّ غير الله لا يقدر على الخلق.
وحتى الآن لم يوجد على وجه الأرض إنسانٌ استطاع أن يخلق من العدم شيئًا، أما التطوير والتصنيع فهو ممكن, والتحدِّي قائم، فلا يَخْلُقُ من العدم مخلوقٌ.
فالذي نفى قدرة المخلوقات على الخلق من العدم هو التجربة والعادة، فهذا حكمٌ عاديٌّ.
ج- مثال عن الحكم العقليِّ:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40] أي: حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة.
وهنا الذي أثبت استحالة دخول الجمل في ثقب الإبرة هو العقل، لأنه يقول: الأصغر لا يمكن أن يسع الأكبر، فالأصغر الذي هو ثقب الإبرة، لا يمكن أن يسع الأكبر الذي هو الجمل, فالعقل يُحيل ولوج الجمل في ثقب الإبرة.
قد يقول قائل: ألا يقدر ربُّنا سبحانه أن يخلق جَمَلاً صغيرًا ويُدخلَه في الإبرة، أو أن يخلق إبرة كبيرة تُدخِلُ جملاً؟
نقول: ربُّنا هنا يخاطبنا من حيث المعتاد والمعهود, فأكبر ثقب إبرة على وجه الأرض قد يصل حجمه إلى "2سم" مثلاً, أما إن وصل إلى حجم يتَّسع لجمل فلا يسمَّى عندها ثقب إبرة.
إذًا: عندما يقول القرآن: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فالذي نعرفه أن الجملَ كبيرٌ، وثقب الإبرةَ التي نخيط بها الثوب صغيرٌ، فلا يقبل العقل دخول الجمل الكبير في ثقب الإبرة الصغير أبدًا.
فأتى القرآن الكريم بمثال من الحكم العقليِّ الذي هو استحالة دخول الجمل في ثقب الإبرة, حتى يخبرَنا أنهم (أي الكفَّار) لا يدخلون الجنة أبدًا.
يحكى أن إبليس جاء مرَّة إلى سيِّدِنا إدريس حين كان يخيط ثوبًا, فقال له: هل يقدر الله سبحانه وتعالى أن يضع الأرض أو الدنيا في بيضة؟ فقال: نعم يقدر, وثقب عينه بالإبرة.
فمن حيث الإمكان: يستطيع الله سبحانه أن يحوِّل الدنيا كلَّها إلى قطعة صغيرة، وأن يكبِّرَ البيضة حتى تكون أكبر من الدنيا, فهذا جائز.
لكنَّ المقصودَ من الخطاب هنا هو أن الله سبحانه وتعالى وضع قوانين ثابتة, فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون الأصغر أكبر من الأكبر، أي: لا يلج الجمل في سَمِّ الخِياط، وبقوله: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} يريد أن يقول لك: يستحيل أن يدخل الكافر الجنة.
وبعد هذه المقدمة وصلنا إلى البيت الذي أردنا شرحه وهو:
فَكُلُّ مَنْ كُلِّفَ شَرْعًا وَجَبَا ........ عَلَيْه أَنْ يَعْرِفَ مَا قَدْ وَجبَا
لِلهِ والجائِزَ والمُمتنِـــعَا ........ ومَثلَ ذا لِرُسْلهِ فاستمِــعا

فبعد أن عرفنا معنى التصوُّر، والحكم، وأقسام الحكم، والحكم العقليّ ... وصلنا إلى أقسام الحكم العقليِّ الذي من خلاله سننفذ إلى علم التوحيد, وهي:
الواجب، والمستحيل، والجائز.
وكلٌّ منها ينقسم إلى قسمين:
- بديهيّ أو ضروريّ: أي لا يحتاج إلى أدلَّة.
- ونظريّ: أي يحتاج إلى أدلَّة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يفهِّمنا ديننا، وأن يعرِّفنا، وأن يمنَّ علينا بصفاء المعرفة, والحمد لله ربِّ العالمين.
أعلى الصفحة