الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
10- معنى جوهرة التوحيد
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
21/7/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وصلنا إلى قول صاحب النظم:
وَهــــذِهِ أُرْجُــــــــــــوزَةٌ لَقَّبْــــــــــتُها .......... جَوْهَرَةَ التَّوْحِيْدِ قَدْ هَذَّبْتُهَا
واللهَ أرْجُو في القَبُولِ نَافِعًا ..........بها مُرِيْدًا للثَّوَابِ طَامِعــــــــًا
أمَّا الأُرْجُوْزَة: فهي الأبيات الشعرية المنظومة على بحر الرَّجَز، حيث نظم شعراء العرب الشعر على ستَّةَ عشرَ بحرًا، منها: الكامل، والبسيط، والطويل ... ومنها بحرُ الرَّجَز، فما نُظم على هذا البحر يسمَّى أرجوزة.
وبحر الرَّجَز يستعمله العلماء لنظم المتون التي من خلالها يجمعون خلاصات العلوم, حيث تجد منظوماتٍ شعريَّةً في اللغة العربية، وفي الفقه، وفي التوحيد، وفي الحديث ... تُسَهِّلُ على طالب العلم الحفظَ.
فمن المشهور: في اللغة العربية ألفيَّةُ ابنِ مالك، وفي الفقه نظمُ متن الزُّبَد للعمريطي، وفي الحديث البيقونيَّةُ ...
ومن المتون المنظومة الجميلة, لكنها ليست على بحر الرَّجَز إنما نُظمت لتكون قصيدةً في الغزل لكنها معبِّرةٌ عن العلم: "غرامي صحيحٌ والرجا فيكَ مُعْضَلُ", وقد نظمها صاحبُها مستخدمًا اصطلاحاتِ علمِ الحديث، فلكي يحبِّبَ علمَ الحديث إلى القلوب نظمه على هذا الوصف الغزليّ، فاستخدم كلمة صحيح ومعضل وغير ذلك من اصطلاحات علم الحديث.
فنحن إذًا مع نوع من أنواع المتون الشعرية التي نُظمت على بحر الرَّجَز، وهي جوهرة التوحيد, فهذا معنى أرجوزة.
لَقَّبْتُها: أي سمَّيْتُها وأطلقتُ عليها.
جَوْهَرَةَ التَّوْحِيْدِ: والذي أفهمه من تسميتها بجوهرة التوحيد أنه استعار معنى الكلمة الطيبة، لأن الجوهرة توضع على التاج, وهي أعلى شيء, ويكون كالدالِّ على ما أشير إليه أو أضيف إليه، وجوهرة التوحيد في الحقيقة هي معنى "لا إله إلا الله"، فلما كانت هذه الأرجوزةُ معبِّرةً عن معاني الكلمة الطيبة "لا إله إلا الله محمَّدٌ رسول الله"، فقد جعل اسم المنظومة "جوهرة التوحيد" ليقول: إن هذه الأرجوزة دالَّةٌ على معنى الكلمة الطيبة.
هَذَّبْتُهَا: أي صفَّيتُها ونقَّيتُها، والتصفية والتهذيب والتنقية في هذا العلم تكون من الشوائب التي تدخل على العقائد, أي من العقائد الفاسدة.
وكم أتمنى أن أحظى بكتاب من الكتب المعاصرة في علم التوحيد - غير الكتب المعتمدة – دون أن أرى فيه شوائب من العقائد الفاسدة أو شوائب دخيلة، لكن مع الأسف هذا واقع هذا العلم، لأن الناس منذ مدَّة طويلة لم يتلقَّوا هذا العلم تلقِّيًا عن أهله وبالسند.
فلما بحث الإنسان بنفسه في هذا العلم دون أن يأخذه من أصوله ومراجعه ومصادره، ودون أن يتلقَّى ممن تلقَّى, وقع في شوائب كثيرة, وأكثر الكتب التي طبعت في العقائد فيها شوائب كثيرة.
ومن المؤسف جدًّا أن المدارس والجامعات الشرعيَّة، في بلادنا وفي البلاد الإسلامية المتعدِّدة, لم تُقرِّر كتبَ علم التوحيد المعتمدة التي كتبها أساطين علم التوحيد, فرأينا في كتبهم العَجَبَ العُجاب.
وقد قلت مرَّاتٍ كثيرة: إن في الكتب التي تدرَّس في المعاهد والمدارس الشرعية خللاً كبيرًا, فقيل: "اكتبوا لنا في هذا"، لكننا نعلم أن هذه الكتابة إذا لم تكن في بيئة تعتمد ذلك وتتبنَّاه, وإذا لم تكن عن طريق لجانٍ معتمدة وصاحبة قرار، فلن تلقى أذنًا, فكثيرًا ما كَتَبَ المدقِّقون ثم طُوِيَت الأوراق ووُضِعَت في الأدراج.
فعلينا أن لا نقرأ أيَّ كتابٍ كُتِبَ في العقائد إلا أن نتحقَّق أنه كتابٌ أشار إليه علماء العقائد من أهل السنة والجماعة على أنه كتابٌ معتمدٌ ومقبولٌ، فهذه الكتب الوزنُ فيها يجب أن يكون بميزان أدقّ من ميزان الذهب.
وعندما أراد المُزَني (صاحبُ الشافعيِّ رحمة الله عليهما) أن يكتب في العقائد، قال له الإمام: لا تكتب، مع أن الإمام الشافعيَّ كتب كتاب "الفقه الأكبر" في التوحيد, وهو غير الفقه الأكبر الذي كتبه الإمام أبو حنيفة، فمع ذلك منع المزني من ذلك لأنه رأى أن استعداده فقهيٌّ، لأن الكتابة في علم التوحيد دقيقة جدًّا، فقال الشافعيُّ رحمه الله للمزني: أن يقال لك: أخطأتَ, خيرٌ من أن يقال لك: كفرتَ، فإذا كتبت في الفقه فأخطأت يقال لك: أخطأت، وإذا كتبت في التوحيد فأخطأت يقال لك: كفرت، لذلك قال الشيخ:
قَدْ هذَّبتهُا, حتى لم يعد فيها من العقائد الفاسدة شيء، فلا تجد فيها أن السبب يؤثر بذاته، ولا أن الله أودع قوَّةً في هذا السبب، فعقيدة أهل السنة والجماعة هي أن الله تعالى يخلق عند السبب لا به, وهذا شيء سنُفَصِّلُه فيما بعد إن شاء الله تعالى.
قال بعضهم: الشيخ يمدح فعل نفسه، فهل يصحُّ أن يمدح الإنسان فعل نفسه؟
قيل: يصحُّ إذا كان هذا من باب الإرشاد إلى العلم، أي إذا كان صاحبَ اختصاصٍ، كما إذا كان هناك جماعةٌ وكان بينهم مَنْ يعلم أنه أقرؤهم في الصلاة، أفلا يخبرهم بذلك؟ أو إذا كان هناك طبيبٌ عنده شهادات في اختصاص نادر، ألا يخبرُ الناس أنه صاحب اختصاص؟
إذًا: إذا كان هذا المدحُ للدلالة على العلم, أو من باب التحدُّثِ بنعمة الله {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] يصحّ.
فإذا كان قد تلقَّى عن أساتذةٍ أصحابِ تخصُّصٍ في هذا العلم، ثم شهدوا له أنه صاحب تحقيق وتدقيق في هذا العلم, فإنه يتحدَّث بنعمة الله سبحانه بشهادة مَنْ شَهِدَ، وبعد أن يأمره أهل العلم بأن يبلِّغ, لا يشهد هو لنفسه.
فيصحُّ في هذه الحالة أن يتحدَّث بنعمة الله ويقول: هذا العلم الذي كتبتُه هو بفضل الله وتوفيقه وإحسانه وبِرِّه وإنعامه قد خلا من الشوائب والعقائد الفاسدة.
ثم قال: واللهَ أرْجُو, ولفظ الجلالة هنا مفعول به مقدَّم, أي: وأرجو اللهَ.
وهناك كثيرٌ ممن يخلط بين الرجاء والتمنِّي، والفارق بينهما كبير، وأكثر واقعنا واقعُ تمنٍّ ليس واقعَ رجاء، لأن الفارق بينهما هو العمل، إذ: "الرَّجَاءُ مَا قَارَنَهُ عَمَلٌ, وَإِلاَّ فَهُوَ أُمْنِيةٌ"، فإذا تعلَّقَ الشخص بمرغوبٍ ما وأخذ بأسبابه يكون صاحب رجاء، وإذا تعلق بمرغوب دون أن يأخذ بأسبابه فهو متمنٍّ.
فنحن نتمنى النصر، ونتمنى السيادة على العالم بالنهضة، وبالأخلاق، وبالإنسانية ... وعندنا أسباب السيادة على العالم لكننا لا نأخذ بها، ونتمنَّى أن نتفوَّق، وأن نُحَصَّن، وأن نتوحَّد، وأن نُظْهِر حضارتنا التي تميَّزْنا بها يومًا من الأيام ... لكنها أماني، لأننا لا نأخذ بأسباب النصر، ولا بأسباب الحضارة، ولا بأسباب التحصُّن من العدوِّ، ولا نحصِّن أخلاقنا، ولا قلوبنا، ولا عقولنا، ولا بيوتنا، ولا أطفالنا، ولا نساءنا، ولا جامعاتنا، ولا واقعنا، ولا نأخذ بالأسباب ...
رأينا كيف استطاع الأطفال في يوم من الأيام أن يهزُّوا الكيان الصهيونيَّ بالحجارة فيما عُرِفَ بانتفاضة الحجارة.
ورأينا ما تفعله مجموعةٌ صغيرةٌ على أرض فلسطين مع أنهم لا يملكون شيئًا، حيث يدخل واحدهم على ورشةٍ للحدادة ويأخذ أسطوانة حديدٍ ثم يضع فيه القليل من المتفجرات ويصنع منها صاروخًا، لكنه يحب الشهادة، وهو صادق في طلب إنسانيته وكرامته، فهزَّ هؤلاء الإخوة المجاهدون على أرض فلسطين هذا الكيانَ المتجبِّرَ الذي يملك الطائرات والدبابات وهو مدجَّجٌ بالأسلحة.
وها هم المجاهدون المقاومون في جنوب لبنان، إنهم مجموعة صغيرة, لا جيشًا منظَّمًا, لكنَّهم يملكون الصدق، وعندهم الهمَّة، فقد توجَّهوا بقوَّة وأخذوا بالأسباب, فهزُّوا هذا الكيان المتجبِّرَ الذي وصف الله أصحابه بقوله: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ} [الحشر: 14] فهم أصحاب خوفٍ وجُبنٍ شديدٍ جدًّا.
وها هو الطريق إلى قبرص, لقد فتحوا فيه خطًّا للهروب.
ومع أننا لسنا على مستوى الصمود والثبات كما كان سلفنا، لكننا ما نـزال أفضل بكثير من هؤلاء الجبناء، فمع أن القصف مستمرٌّ في شوارع لبنان من الطائرات، إلا أن جنودنا يتجوَّلون فيها, لكن أكثر من مليوني يهوديّ يختبئون في الملاجئ كالفأر الذي يدخل إلى جحره.
فعندما قام بعض الصادقين بالأخذ بالأسباب صاروا أصحاب رجاء، لكنْ هناك جيوشٌ عربيَّةٌ كثيرةٌ، من الخليج إلى المحيط, لا تأخذ بالأسباب, فسورية هي البلد الوحيد الذي فتح أبوابه لهؤلاء, واستقبلهم وأمدَّهم بالأموال وأعطاهم فُرَصًا كثيرة, ومع كلِّ هذا فقد قمنا بأقل ما يمكن أن يقوم به صاحبُ المروءة.
أما بقية البلدان فهناك من يقول لهم: أنتم وحدكم تتحملون ما يحدث، وهذا شأنكم.
لقد فَقَدَ الإنسان مروءته وإنسانيته وأخلاقه ... فلم يعد من أصحاب الرجاء, إنما صار من أصحاب الأماني.
أمَّة تتمنَّى، لكنها لا ترجو ..
والله سبحانه وتعالى يؤكد على معنى الرجاء, فقد قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ} [الأحزاب: 21] ولم يقل: لمن كان يتمنَّى.
وقال: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ} [الكهف: 110] لأن الرجاء لا يصح إلا بالعمل والأخذ بالسبب.
كما وصف سبحانه الكتابيين بقوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فهم يتمنَّون الجنة، {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] حيث تعلقوا بالمرغوب وقالوا: نريد الجنة, لكنهم لم يأخذوا بأسباب دخولها، فأسبابُ دخول الجنة: "لا إله إلا الله محمَّد رسول الله"، والذي لا يدخل من باب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بعد بعثته لا يدخل الجنة, فهو صلى الله عليه وسلم الباب.
فكلُّ الناس لا يدخلون بعد بعثته إلا من بابه صلى الله عليه وسلم:
كلُّ أبواب الورى مغلوقةٌ ..........غيرَ بابِ المصطفى منه الدخولْ

وقد قيل:
فأنت بابُ الله كلُّ امرئٍ ......... أتاه من غيــــــــــــرك لا يدخلُ

إذًا: لقد تعلَّقت قلوبُهم بالمرغوب لكنهم لم يأخذوا بأسباب ذلك المرغوب، وأوَّل أسبابه الإيمانُ بالله ورسوله، فإذا لم يكن في قلوبهم الإيمانُ باللهِ الواحد على الوصف الذي أخبر به عن نفسه سبحانه, وبرسولِهِ الخاتَم الذي جاء رحمةً للناس, فكيف يمكن أن يدخلوا الجنة؟
فهذا أول شرط وأول سبب يمكن أن يأخذوا به لدخول الجنة.
وجاء في حديثٍ قدسيٍّ:
يَقُوْلُ اللهُ تَعَالَى: (مَا أَقَلَّ حَيَاءَ مَنْ يَطْمَعُ فِيْ جَنَّتِيْ بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَيْفَ أَجُوْدُ بِرَحْمَتِيْ عَلَى مَنْ بَخِلَ بِطَاعَتِيْ؟).
فإذا أخذ هذا الإنسان بالأسباب, مع تعلُّقِ قلبه, يكون صاحبَ رجاء.
ثم قال:
واللهَ أرْجُو في القَبُولِ نَافِعًا ........ بِهَا مُرِيْدًا للثَّوَابِ طَامِعًا

أي: لقد أخذتُ بالسبب وكتبتُ واجتهدتُ, ونقلتُ هذا العلم كما هو وكما ينبغي أن يؤخذ من مصادره التي أراد الله سبحانه وتعالى أن نأخذ منها, فأرجو الله أن ينفع بها مريدَ الثواب ومريدَ المعرفة, لكنني مع هذا أطلبُ من الله القَبول.
فما معنى القبول؟
القبول: هو خلقُ الثواب, أو الإثابة على العمل الذي يرتضيه الله سبحانه.
فإذا خلق الله سبحانه وتعالى الثواب على العمل فقد قَبِلَهُ.
فما هو الثواب؟
الثواب: هو مقدارٌ من الجزاء والمكافأة يعلمها الله سبحانه وتعالى.
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت, وقد أعدَّ الله سبحانه وتعالى هذا الثواب لمن شاء من عباده.
وقد أوجب بعض المنحرفين الإثابة على الله سبحانه، بمعنى: إذا عمل الإنسان عملاً فعلى الله أن يكافئه به.
وهذا الاعتقاد مردودٌ لأنه سبحانه يخلق الثواب بمحض فضله، لا باستحقاقٍ منَّا.
وكلُّنا يعرف قصة الذي عَبَدَ الله خمسمائة سنة، ثم هو يُبعَث يوم القيامة فيُوقَف بين يدي الله عزَّ وجلَّ, فيقول له الربُّ: ادخل الجنة برحمتي، فيقول: يا ربّ, بل بعملي، فأنا أعبدك في الليل والنهار، وما خالفتُ أمرك، وأتحمَّل التعب الشديد والمشقَّة ...
فيأمر الله سبحانه وتعالى أن يُوزَن عملُه بنعمة البصر.
وهنا أرادت النعم أن تنظر إلى ما يكافئها من الشكر، فقالت العين: أنا لي شكر، وكذلك الأذن واليد ... وهناك من فَقَدَ إحساس اللمس، وهناك من فَقَدَ إحساس الشم، وهناك من فَقَدَ إحساس الذوق، وهناك من فَقَدَ التوازن، وهناك من فَقَدَ القوة العضلية، وهناك من فَقَدَ الإدراك ...
فجاءت أول نعمة: نعمة البصر، فرجحت على أعماله كلِّها.
فيقول عزَّ وجلَّ: خذوا به إلى النار, فيقول: يا ربّ, بل بفضلك.
لذلك فكلُّ عملنا لا يكافئ نِعَمَ الله سبحانه وتعالى.
وقد ورد في الحديث أن الله سبحانه وتعالى خلق ملائكةً, وهم راكعون منذ خَلَقَهُمْ، ومنهم ساجدون منذ خَلَقَهُمْ، فهم في ركوع أو سجود ملايين ومليارات السنين، فإذا كان يوم القيامة يأمرهم الحقُّ سبحانه وتعالى أن يرفعوا رؤوسهم من الركوع أو السجود، ويتجلَّى الحقُّ سبحانه وتعالى لهم ويكشف الحجاب، فإذا نظر أحدهم إلى جمال تجلِّياته سبحانه قال: يا ربّ, ما عبدتُك حقَّ عبادتك.
فإذا كان هذا الملك - وهو راكعٌ أو ساجدٌ منذ خَلَقَهُ الله - حين ينظر إلى جمال تجلِّيات الحقِّ, يقول: ما عبدتُك حقَّ عبادتك، فهل يتصوَّر الإنسان أنه إذا قام ببعض الأعمال الصالحة يكون قد قام بما يجب عليه, ثم هو مستحقٌّ بعمله؟
لا، إنما هو بمحض فضل الله سبحانه.
بل إذا حقَّقنا نجدُ أن كلَّ هذه الطاعات التي قمنا بها هي فضلٌ من الله علينا, لأنه هو خالقها، قال صاحب الحكم العطائية: "إِذَا أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فَضْلَهُ عَلَيْكَ، خَلَقَ وَنَسَبَ إِلَيْكَ".
إذًا: حتى وأنت في طاعتك فقد تفضَّل الحقُّ عليك, لأنه هو الذي خلق الطاعة, قال سبحانه وتعالى: {اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 19] وقال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96].
إذًا: حينما يكافئ الحقُّ أحبابه فإنه يعطي الجزاء بمحض فضله، لا باستحقاق.
فالذين وقفوا مع عقولهم من أهل الانحراف والضلال قالوا: إذا لم يكافئ المولى سبحانه وتعالى عباده ولم يجازِهم يكون بهذا ظالمًا.
لكنَّ أهلَ السنة أجابوهم، فقالوا:
الظلم: هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه.
فهل يتصرَّف الحقُّ سبحانه وتعالى حينما يعذِّب المطيع إن شاء, وحينما يتجاوز عن المسيء إن شاء ... بِمُلكه أم بِمُلك غيره؟
إذًا: من المستحيل أن يوصَف الحقُّ سبحانه وتعالى بالظلم، لأنه لا ملك لغيره, فهو يتصرَّف في ملكه.
لهذا قال أهل السنة: الثواب هو بمحض فضل الله سبحانه وتعالى وهو راجع للمشيئة: {إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48].
إذًا: الثوابُ مقدارٌ من الجزاء يعلمه الله وحده، أعدَّه لمن شاء من عباده مكافأةً على أعمالهم الحسنة وبمحض فضله واختياره.
ثم قال: نَافِعًا بِهَا, أي: أن ينفع الله بها من يريد الثواب.
فهل يصحُّ أن يريدَ الإنسانُ الثوابَ؟
ألا يجرح هذا في إخلاصه؟ أي: أليس الإخلاص أن تعبد الله سبحانه وتعالى وأنت تريد وجهه وحده، ولا تريد معه شيئًا آخر؟
فهل إرادة الثواب تُجرِّح حقيقةَ الإخلاص؟
وكثيرًا ما نسمع من كلام بعض المحبِّين أنهم توجَّهوا بالعبادة إلى الله سبحانه وتعالى دون أن تلتفت قلوبهم حتى إلى الجنة.
نقول: للإخلاص درجات ثلاث:
1- أن يعمل لله سبحانه وتعالى لأن الله أمره, أي قيامًا بالعبوديَّة: فهو عبد, وهناك فارق كبير بين العبد والأجير:
- الأجير: تقول له: ستعمل اليومَ عملاً ما وأعطيك عليه أجرة, وتتفق معه على مبلغٍ معيَّن، فهذا يسمَّى في الفقه إجارة.
- أما العبد: فيقول له سيِّده: افعل كذا, فهل يقول له: ماذا ستعطيني؟
فالذي يتحقَّق بالعبوديَّة لله سبحانه لا يطلب من الله أجرة، والله سبحانه وتعالى يعطيه الثواب بمحض فضله وكرمه وإحسانه.
فهو حين قيامه بالعمل: كما إذا جاهد في سبيل الله, أو أنفق, أو أكرم اليتيم, أو صلى لله سبحانه وتعالى, أو أدى الزكاة، أو صام رمضان, أو حجَّ البيت ... لا يريد إلا الله، وسيِّدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا لا رِيَاءَ فِيهِ وَلا سُمْعَة).
وفي أيامنا هذه يفكر الحاجُّ بالسمعة قبل أن يفكر بالحجّ، وإذا لم يستقبلوه بالفيديو والسيارات المكشوفة والبروتوكولات والمراسم ... تقوم القيامة.
فهذا يطلب من الناس أجرة، فيقول: لقد حججتُ فأعطوني أجرة..
أما إذا حصل إكرامُ الناس لك وزاروك وهنّؤوك وأكرمتهم ... دون أن يكون هذا مطمعًا عندك ومرادًا لك، فهذا ليس فيه إلا الخير, لأن القادم يُزار.
لكن أن يكون هذا ما تطلبه بقلبك، فهنا تكمن المشكلة.
الحجُّ: القصدُ, فأنت ذهبت إلى بيت الله تريد الله, لكنْ هل هذا هو حالك على الحقيقة, أم اختلط عليك المقصود, بحيث ذهبت إلى الحجِّ ليقولوا: الحاجّ فلان؟
2- أن يعمل وهو يطلب ثواب الله، ويخاف من عقابه: وهو أقل درجة من سابقه، أي لا يطلب الثواب إلا من الله.
فالأول يطلب الله، ولا يفكر بالأجرة.
أما الثاني فيطلب ثواب الله وحده, ولا يطلب من الخلق ثوابًا، فلا يخشى من ترهيب الناس إنما هو كـ: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَ اللَّهَ} [الأحزاب: 39].
3- أن يعمل لأنه فَهِمَ أن الله سبحانه وتعالى وَعَدَ المؤمن بالإكرام في الدنيا: فقد قرأ في القرآن الكريم: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا،وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] فوجد أن طريق الاستقامة تحصل معه نضارة الوجه وكرامة الله له في الدنيا، والله سبحانه وتعالى يحوطه بعنايته:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا،يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا، مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 10-13] فالله سبحانه وتعالى وعد بالثواب الدنيويّ.
لكنَّ أهلَ الله قالوا: إن هذا من الطفوليَّة في الفهم عن الله، لأنه استعجالُ كرامة الله في محلٍّ هو أهون محلٍّ على الله، وهو أقل عند الله من أن يجعل فيه مكافأته وكرامته لأحبابه، فهذا المحلُّ لا يُناسب إكرامَ الله لأحبابه، لأنه أهون عنده من جناح البعوضة.
فلذلك إذا أراد الله إكرام أحبابه نقلهم من هذا المحلِّ، وبعد ذلك يكرمهم، وهذا فهمُ أهل الفهم.
لكن الذي ليس في دائرة تعلُّقاته إلا هذا المحلّ فهو مخلصٌ لكنه أقل درجة من سابقيه، فهو يطمع في ثواب الله العاجل الدنيويِّ، ويخشى من الخزي في الدنيا، لأن الله سبحانه وتعالى وَعَدَ مَنْ شذَّ عن الطريق بالخزي.
ماذا فعل الله سبحانه وتعالى بقوم لوط؟
قلب قريتهم عاليها سافلها، وهذا من الخزي والعياذ بالله, لأنه حصل عندهم انقلابٌ في المزاج وشذوذٌ في الطبيعة, فانقلبوا بالشذوذ والانحراف الغريزيِّ الجنسيِّ الفاسد, فقلب الله عليهم عاليها سافلها، فكان هذا من الخزي المستعجل في الدنيا.
فالذي يعمل هروبًا من الخزي في الدنيا وطمعًا بالكرامة فيها, فهو مخلص, لأنه علم أن هذه الدنيا هي بيد الله، وليس أحدٌ يؤثر فيها إلا الله، فهو توجَّه إلى الله سبحانه وتعالى من أجل هذا، فهذا مخلص لم يرد غير الله، لكنه أراد عطاء الله العاجل.
وعلى هذا فلا مانع أن يكون مريدُ الثواب من أهل الإخلاص, وأن تكون إرادة الثواب من مراتب الإخلاص.
فهل يصحُّ أن يجمع الإنسان بين الأمور الثلاثة؟
نقول: نعم، ففي باطنه وروحه هو متعلِّق بالله، وبقلبه يرجو الجنة، ونفسُه التي استقامت تطلب أن يكرمها الحقُّ سبحانه, لكن دون أن تعترض على الله تعالى.
فإذا أَنـزل به مصيبةً لا يقول: لمَ فعلتَ هذا؟ لأنه إذا نظر إلى سير الرسل عليهم الصلاة والسلام والدعاة وأهل الصدق ... وجد أن الله سبحانه وتعالى قد ابتلاهم، وأشدُّ الناس بلاء الأنبياء، فإذا أنـزل الله سبحانه وتعالى به الضرَّ فلا يعترض {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً} [الفجر: 27-28] فشرط الرجوع الرضى.
ثم قال: طَامِعَا, أي أطمع في ثواب ربِّي على التفصيل الذي ذكرناه.
نسأل الله سبحانه أن يقبلنا في عباده الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون, والحمد لله ربِّ العالمين.
أعلى الصفحة