الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
9- الهمَّة
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
14/7/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، سبحانك لا علم إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، لا فهم لنا إلا فهمتنا إنك أنت الجواد الكريم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما وعملا وفهمًا وفقهًا في الدين، ورد ذلك علينا عند الاحتياج يا رب العالمين.
وبعدُ فالعِلمُ بأصلِ الدينِ.......... محتُــــــــــمٌ يحتاجُ للتَّبيينِ
لكنْ مِن التَّطْوِيلِ كَلَّتِ الهِمَمْ........فَصَارَ فِيْهِ الاْختِصَارُ مُلَتَزَمْ
وصلنا عند قوله في البيت السادس من الجوهرة:
لكنْ مِن التَّطْوِيلِ كَلَّتِ الهِمَمْ........فَصَارَ فِيْهِ الاْختِصَارُ مُلَتَزَمْ

كان المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يتخلل أصحابه بالموعظة مخافة السآمة، يعني مخافة الملل، لأن النفس يا إخوتي إذا لم تُعطها شيئًا ربما تثور وتتمرد.
لإمام البوصيري قال:
ورعاها وهي في الأعمال سائمة ...... ...... ......
يعني إذا كانت النفس مطيعة لأمر الله سبحانه وتعالى فأعطها من الشريعة شيئًا.
النفس تطلب الطعام، تطلب الشراب، تطلب النكاح تطلب ما تشتهيه...، فلا ينبغي أن تمنع عن ما تشتهيه إذا كان شرع ربنا يعطيها ما تشتهيه، يمنعها عن المخالفات، يوقفها على الصراط المستقيم، لكنه يعطيها من الشريعة، يعطيها من كف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت سياسة الإنسان مع نفسه على هذا فإن ملله وضجره وتمرد نفسه يزول، لأن الإنسان بحاجة إلى سياسة مع نفسه، فإذا كان الإنسان يقول للنفس لا، مبدأ المخالفة للنفس ليس هو مبدأ من أجل المخالفة، لا..
وخالف النفس والشيطان واعصهما ..... ....... .......
يعني حتى تتدرب النفس على أنها مدعوة للانضباط، ليست مخالفة النفس من أجل المخالفة، إنما النفس في أول أمرها تريد كل شيء، انظروا إلى الغرب في ليلة الأحد، تجد أن النفس تريد كل شيء، لا يوجد ضابط يضبطها، فمخالفة النفس حتى تتعلم أن هناك قيدًا لابد أن تتقيد به فإذا فهمت ضرورة الانضباط عند ذلك يا إخوتي يعطيها، لكن من خلال الشريعة، قال تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُم ْإِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء:29]، فالمراد ليس محو كل مرادات هذه النفس حتى لو كانت من الطريق المباح، لا، إنما عالم الحكمة وعالم الأخذ بالسبب يدعونا إلى أن نكون متوازنين في معاملتنا مع النفس.
إذًا الشيخ أشار في هذا البيت إلى ضرورة سياسة الإنسان لنفسه، وهذا أصله كما قلنا من الحديث فقد كان صلى الله عليه وسلم كما يخبر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، كان يتخوِّل الأصحاب بالموعظة، فالموعظة فيها ترقيق للقلوب إذا كان الإنسان لا يأخذ إلا علمًا، لا يأخذ إلا ما فيه جمود أو ما فيه جلال، أو ما فيه جلال، أو ما فيه شدة، أو ما فيه دفع إلى التحمل، والصبر...
الموعظة تأتي لترقق، إذا كان الإنسان لا يمر بهذا الترقيق سوف يعاني بعد مدة من مشكلة الانقباض.
أنا أعرف هذا يا إخواني على مستوى التجربة الذي لا يلون الطاعات، مثلاً إنسان لا شغل له إلا في نوع واحد من العبادة، فقط يتلوا كتاب الله، القرآن له صدمة جلالية، تجد أن هذا الإنسان بعد مدة يعاني من الانقباض الشديد، فلماذا إذًا جعل الله سبحانه وتعالى من الطاعات متنوعة، من الطاعات أن تأخذ بيدك لقمة، ثم تضع هذه اللقمة في فم زوجتك، فهذه عبادة تقترب بها إلى الله، بل من العبادة أن تأتي أهلك، (وفي بضع أحدكم صدقة) أنظر إذًا هذه عبادة: (تبسمك في وجه أخيك لك صدقه) فإذا تبسَّمت فهي عبادة.
إذًا ليست العبادة فقط بمفهوم القربات أن تجلس لتقرأ كتاب الله، هذا نوع من أنواع العبادات، لا مانع أن يكون الغالب، لكن بشرط أن لا يكون كله، إنما التلوين، هذا مفيد في التربية، فتارة تذكر الله، وتارة تُصلي، وتارة تقوم بخدمة أخ لك في الله، وتارة تشفع له عند أحد، وتارة تنفق من مالك، وتارة تؤنس أهلك، وتارة تربي ولدك، ... فإذا نظرت إلى هذه القربات بمجموعها رأيت أنك تتعامل مع الأشياء بعقلك تارة، وبروحك تارة، وبقلبك تارة، وبنفسك تارة..، وفي كل هذا تقرب إلى الله.
إذًا: لكن من التطويل.
يعني لو أننا جلسنا لا نتكلم إلا في العقليات، لا نتكلم إلا في الأدلة العقلية، ونقول قدم مولانا سبحانه وتعالى واجب لأنه يستحيل الدور والتسلسل.. بدأنا نحكي في المنطق، وبدأنا نحكي في الأدلة العقلية الطويلة..، ايش يحصل؟ يحصل ضجر ملالة سآمه..
لذلك الشيخ قال:
لكنْ مِن التَّطْوِيلِ كَلَّتِ الهِمَمْ.......فَصَارَ فِيْهِ الاْختِصَارُ مُلَتَزَمْ

أي لابد من أن تعامَل النفس بسياسة بحيث لا تقع هذه النفس في الضجر أو الملل أو السآمة، وهذا من كمال التربية، فإذا وافقت العبادة طبعك فأنت رابح من جهة نفسك، ورابح لأن ربك يريدك أن تكون في هذه العبادة، (وفي بضع أحدكم صدقة) فهذا يوافق طبع الإنسان لكن يتقرب به إلى الله، فيقترب بسبب النية، لأنه ينوي أن يتقرب إلى الله بهذه الشهوة التي من خلالها يؤسس أسرة صالحة، من خلالها يرزق الولد (فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)[البقرة: 187]
إذًا أنظر وأنت في لحظات تلتذ النفس بها، تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فما كل عبادة تنفر الطباع منها، لا إنما جعل الله سبحانه وتعالى القربات منها ما تألفه النفس، ومنها ما لا تألفه، إذًا هذه الملاحظة الأولى.
ثم ما معنى الهمم؟
قال: لكنْ مِن التَّطْوِيلِ كَلَّتِ الهِمَمْ.
كلت يعني ضعفت عجزت، فما هي الهمم، الهمم مجموع همة، الهمة في اللغة القوة، لكن في الاصطلاح كما وردت هنا، الهمة هي: قوة انبعاث النفس إلى مقصود، فإذا وجد الإنسان أن نفسه تنبعث إلى مقصود ما، هذا الانبعاث في قوته اسمه همة، فإذا رأى أن نفسه متوجه بقوة نحو الرياسة، دائمًا يحب أن يصبح وجه، دائمًا يحب أن يكون مترئسًا لغيره، هذه شهوة حب الرياسة، وتجد أنه يحرص ويدبر ويخطط، نقول همته متوجه نحو الرياسة، ثم هناك من الخلق من همتهم نفوسهم منبعثة بقوة متوجهة إلى مدح الخلق فإذا شعر أن الخلق يذمون شيئًا فيه انقبض وحزن، وإذا رأى أن الخلق يمدحونه سُرَّ، وهذا من الأمور التي تكون فيها زلة القدم، لأن كثيرًا من الناس يمدحون المخطئ، مخطئ ويمدحونه ويقولون له أنت كذا وأنت كذا... يخدّر، وقد قالوا: خدعوها بقولهم حسناء، فإذا وقع الإنسان أسير مدح الخلق، ربما يكون مسيئًا فمَدح الخلق..وما أكثر المنافقين الذين يبحثون عن من يتقربون إليه ويمدحونه فيسكر بهذا المديح، إذًا هناك من يبحث عن مديح الخلق، هذا همته متوجهة إلى مدح الخلق، متوجهة إلى الشهرة، هناك من همته متوجهة إلى قيام الليل، هناك من همته متوجهة إلى الإنفاق في سبيل الله، هناك من همته متوجهة إلى أن يكون صادقًا مع الله، هناك من همته متوجهة إلى تحصيل معرفة الله.
إذًا نلاحظ أن الهمة قد تتعلق بمعالي الأمور، وقد تتعلق بسفسافها، فإذا تعلقت هذه الهمة بمعالي الأمور كانت همة علية، يقال لها هي همة عليه، وإذا تعلقت هذه الهمة بسفساف الأمور فإنها تسمى همة دنية.
لاحظوا : المولى سبحانه وتعالى في القرآن عالج هذه القضية كثيرًا على سبيل المثال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ....) لتكن همتكم متعلقة بالجهاد في سبيل الله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) [التوبة: 38] وماذا يعني أن تتعلق الهمة بالجهاد في سبيل الله؟
يعني تتعلق بمفتاح الجنة، لأن الجهاد في سبيل الله مفتاح الجنة، والذي يقاتل في سبيل الله ساعة تجب له الجنة، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل ودخان جهنم، فإذا تعلقت الهمة بالجهاد في سبيل الله لِقتال أعداء الله فإن هذا قد أمسك بمفتاح الجنة، لأنه تعلَّق بالآخرة، ولأنه أعرض عن الدنيا، ولأنه تحقق بقوله: (وَلَلاخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاولَى)[الضحى: 4] إذًا عندما يقول الله سبحانه: (انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) يعني: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ)[آل عمران: 133] كان صلى الله عليه وسلم قبيل كل غزوة من الغزوات يقول لأصحابه: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض) ثم يدع من في غزو بدر، دعا من ليكون أول المقاتلين، من الذي دعاهم فغي غزوة بدر الكبرى، هل دعا الغريب أم دعا القريب؟
قال يا حمزة يدعو عمه، يا علي، وسيدنا علي، حمزة أخو رسول الله في الرضاعة، وعمه في النسب، وسيدنا علي أخو رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آخى بين المهاجرين والأنصار، قال أنت أخي، جاء يبكي سيدنا علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله آخيت بين كل واحد من المهجرين وواحد من الأنصار وأنا لم تآخي بيني وبين أحد، قال: (أنت أخي)، هذا أخو رسول الله عندما آخى بين المهاجرين والأنصار، وابن عمه في النسب، وكذلك عبيده بن الحارث ابن عمه، دعا ثلاثة ليكونوا مقدمة المقاتلين في غزوة بدر، فهو يقدم أحب الناس أليه، يعني عندما يدعوهم يقول لهم تعالوا إلى الجنة، هكذا تكون الهمة عليّه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ..) لتكون همتكم عليّه(... اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) كانت همتكم دنية، مالكم كلّما دعاكم مولاكم لتكون همتكم عليه مالت نفوسكم إلى الأرض فصارت الهمة دنية، يلتفت يقول مالي، الأموال المتاع الأولاد...، اليوم قلت في خطبة الجمعة، قلت الآن الإنسان يقول أولادي، أنا مستقبل أولادي..لا يهمني إلا مستقبل أولادي، أنا سأرحل من هذه الدنيا، لكنني أريد أن أترك لأولادي، قلت انظروا إلى ما يحصل الآن، عائلة بأكملها تمحى، لا يبقى أب ولا أولاد ولا جد ولا أصول ولا فروع..!
الآن نحن في زمن الفتنة، في الزمن الذي كثر فيه الهرج، يعني القتل، انظروا إلى ما يحصل في العراق، يكون الإنسان في الشارع وإذًا سيارة مفخخة والعياذ بالله ولا تفرق بين ظالم أو مظلوم، ولا تفرق بين معتدي أو بريء.. هذا زمن الفتنة، بدأ زمن الفتنة، هؤلاء إخواننا في فلسطين، هؤلاء إخواننا في لبنان، هؤلاء... العالم الإسلامي، العالم بدأت الفتنة فيه.
إذًا في هذا الحال يضمن الإنسان سلامته، وهل سلامته بسلامة جسده أم سلامته أن يكون الله سبحانه وتعالى راضيًا عنه؟
هذه حقيقة سلامته، لأن الإنسان لا يدري متى يرحل، أولاده متى يرحلون.
إذًا عندما يبقى الإنسان متعلقًا بالعلائق...
وحكينا أيضًا لهم في خطبة الجمعة قصة سلفنا الصالح سعيد، من الأصحاب عندما دخل معركة فوجد أن نفسه مترددة، الآن أمامه فرصه حتى يكون من ملوك الآخرة، لكن نفسه تقول له عندك أربع زوجات، وعندك أموال وبساتين وارض وحدائق، وتجارات، تترك هذا لمن؟ تقول له نفسه أنظر.
الجنة تفتح أبوابها له، والنفس تشده إلى الأرض.
جلس وهو في بداية المعركة في حالة من التردد، لابد أن يحسم القضية، ما الذي يفعله؟
وجد أن نفسه لا تستجيب، يقول لها تعالي إلى الجنة تقول لا، لا أريد الآن بكّير، لحقانين على الجنة، يقول لها أبواب الجنة مفتوحة الآن، أقدمي تقول لا..
فما كان منه وقد وصل إلى طريق مسدود، لا يوجد اتفاق مع النفس، حاول يعمل معها، أتريدين أموال، أتريدين متاع، تريدين لذائذ، هذه الجنة أمامك، تريدين نساء هذه الحور العين..
النفس تريد العاجلة.
فما كان منه إلا أن أراد أن يتخلص ويحسم المعادلة لأن النفس لا تستجيب، فاشهد من حوله أن نسائه طوالق، ثم اشهد من حوله بأن كل أمواله صدقة في سبيل الله وقال للنفس تفضلي لم يبقى عندك لا نساء ولا أموال، هذا طريق الجنة ستمشين فيه أعجبك أم لم يعجبك، ثم لما تخلّص من كل العلائق وصفا، كشف له الحجاب، فرأى أبواب الجنة وقد فتحت له، فقال:
أحسن بمولاك سعيد ظنا..........هذا الذي كنت له تمنى

فخرجت الحور العين تقول له: نحن مشتاقون إليك، أشتقنا إليك، تعال، في حالة توق وانتظار لك، فنظر وقال نحن انتقلنا من تعلق النفس بالمادة في الدنيا، أنعلقها بمادة أخرى في الآخرة، نحن نريد وجه الله.
فرأى أن مراده هذا مدخول معلول.
قال:
أحسن بمولاك سعيد ظنا....... هذا الذي كنت له تمنى
إليك يا حور الجنان عنا....... مالك قاتلنا ولا قوتلنا
إنا إلى ألهكن اشتقن....... قد علم السر وما أخفينا
هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان صاحب همة عليّه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ..؟) كيف هذه المقارنة، الحياة الدنيا تقارنونها بالآخرة، كيف يمكن أن تكون الدنيا التي هي بالمقدار النسبي، إذا ما وزنت بما هو عند الله في الآخرة، لا تساوي جناح بعوضه، يعني التناسب أو هذه المقارنة النسبية، يعني ربما الإنسان يكون في حاجة إلى خاتم حديد لأن سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم مرة قال تزوج ولو بخاتم من حديد، قد يكون بحاجة إلى خاتم من حديد لكن عندما يكون إلى جانب هذا الخاتم الحديدي خاتم من كل المجوهرات الماسية والمعدنية الثمينة، هل يلتفت إلى الخاتم الحديد، إذًا بهذه المقارنة النسبية، صحيح الدنيا أنت تراها الآن حلوة، لكن عندما تقارن نسبيًا بالآخرة لا تساوي جناح بعوضه، بهذه المقارنة النسبية: (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ؟) كم هي همة دنية أن يتعلق بالدنيا ويترك الآخرة!!(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ، إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا)[التوبة: 38-39]
ويقول سبحانه وتعالى وهو يشير إلى هذه الحالة حالة تعلق الهمة:
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ..)
يعني يحكي عن حال علاقة المنافقين بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو أنك تقول لهم الآن يوجد توزيع غنائم، تجد أنهم يهرعون إليك، (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا) يوجد مال، الآن دعونا نعمل مثال بسيط جدًا، لو قلنا في جامع أبو حنيفة الساعة الثانية ليلاً يوجد تهجد توجه إلى الله قنوت.. أو قلنا في جامع سيدنا أبو حنيفة يوجد توزيع شيك بخمسمئة ألف لك من يحضر الساعة الثانية ليلاً، ترى الطرقات في المنطقة كلها مقطوعة من كل الجهات، لماذا؟ لأن الإنسان وجد أن شيك بخمسمئة ألف بيسوى أكثر بكثر من ركعتين تهجد، أما الركعتان عند الله فهما أعلى ليس من خمسمئة ألف، لو جمعت الدنيا بكل مالها وجواهرها، ومتعها وما فيها لوجدت أنها أعظم عند الله وعند من يفهم.
إذًا هنا يظهر من يرى، ومن لا يرى.
الذي يرى يستطيع أن يفهم هذه المعادلة، والذي لا يرى: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ)[الأعراف: 198] (وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى)[الإسراء: 72]
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا...) يعني يوجد فلوس، يوجد متاع مادي، (وَسَفَرًا قَاصِدًا...) من ورائه يجنون تجارات أو تجنون أرباحًا مالية مادية (..لاَّتَّبَعُوكَ) ما أكثر من يتبعك من أجل هذا.
وتعرفون المثل الحلبي، لما ماتت الدابة التي يركب عليها الوالي خرجت البلد كلها في جنازتها، ولما مات الوالي لم يخرج أحد في جنازته، لأنه إذا الوالي مات الدابة لا يمكن أن تصرف لهم وتعطيهم، لكن الدابة لما ماتت والوالي موجود يعطيهم، فتقربًا للوالي جاء أهل البلدة من أجل جنازة الدابة التي كان يركبها.
إذًا هذه إشكالية.
أين الإنسان، أين صاحب الهمة، أين الذي همته عليّه، أين الذي لا يأبه..؟
يا إخواننا أبو نواس كما كان الشافعي شاعر لكن غالب عليه الفقه، كان أبو نواس عالم لكن غالب عليه الشعر، تمامًا وأكثر الحكايات التي تحكى عن أبي نواس أنه كان ماجنًا وأنه كان فاسدًا كذب، أبو نواس في التحقيق رجل صالح وعالم.
أبو نواس كان في مجلس هارون الرشيد وهما يتمازحان، هناك مؤانسة بينهما، فقال هارون مهما تنكر الإنسان، يعني حاول يغير ملامحه، فإنني أستطيع بالفراسة أن أعرفه، قال أبو نواس: ما أظنك تقدر يا أمير المؤمنين، قال: لا أقدر، فقال: إذا كان استطعت أن أتنكر ولا تعرفني حينما أتنكر؟ قال لك ألف دينار ذهب إن أنت استطعت أن تفعل هذا، قال خيرًا.
فذهب أبو نواس وبدأ يعظ الناس في المساجد، ولبس لباس الزهّاد والوعاظ، وما عاد يعرف أن هذا الذي يعظ الناس هو أبو نواس، وبدأ يطوف في البلدان حتى نزل إلى بغداد واجتمع الناس عليه ودُهشوا من علمه...
وجاء في من جاء هارون الرشيد، وكان يبحث بين حلق العلم حتى يرى السوية العليمة التي فيها أهل بغداد وعلمائها، فحضر وسمع وأعجب ولم يعرف أبو نواس، قال لوزيره هذا عالم جليل، خذ هذه العشرة آلاف دينار، خذها من الذهب وأعطِها هدية لهذا العالم، ذهب الوزير وقال يُسلِّم عليك الخليفة هارون الرشيد وهذه عشرة آلاف هدية من الخليفة إليك، فاعتزر وما قبلها، وأدرك أن هارون لم يعرفه، وانتهت القضية وبعد عدة ساعات ذهب إلى هارون فقال له هارون أين كنت هذه الفترة؟ قال كيف أين كنت، أنت كنت قبل قليل تحضر درسي، قال هذا أنت، قال نعم، إذًا أنت الذي ربحت وهذه هي الألف دينار، لكنني أريد أن أسألك، أرسلت لك بعشرة آلاف دينار فلماذا لم تأخذ العشرة آلاف دينار والقضية بيننا على آلف؟
فأجاب أبو نواس بكلمة ينبغي أن تسطر وتكتب بماء الذهب، بل بماء النور، قال:
ذلك موضع لا تمد فيه اليد.
هكذا يكون أهل العلم، هكذا يكون صاحب الكرامة، هكذا يكون صاحب العزّة، لا أن ينطرح الإنسان أمام الرغبة وأن يهرب أمام الرهبة، هذا ليس بإنسان، هذا إمَّعه، الإنسان بإنسانيته لا يكون هكذا.
يقول سبحانه: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ..)
لو كانوا أصحاب همة عليّه لاتبعوك وأنت تسير في سبيل الله وتتحمل ما تتحمل، فإذا كان الأمر يسير يتبعونك لجني المنافع، وإذا كان عسيرًا يهربون لأنهم لا يملكون الهمَّة العلية، (.. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[التوبة:42]
وقال سبحانه وهو يبين معنى الهمة، هل الهمة أن تتمنى وتقول نعم أنا أنوي الآن أن أفعل كذا وكذا وكذا ثم يصف نفسه بأنه صاحب همّه، أنا أتمنى أن أكون مجاهدًا وعالمًا ووو..؟
قال سبحانه: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً)[التوبة: 46]
إذًا هنا يظهر معنى الهمَّة بشكل واضح فلا يكفي أن تتوجه النفس إلى المقصود بل لابد معه من الأخذ بالسبب وإعداد العُدة، فإذا وجد الإنسان أنه يأخذ بالسبب مع توجه نفسه فهو صاحب همّه على الحقيقة.
مثال أخير على الهمة من القرآن:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا..)
هذا في زمن سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام أعطي الهداية، والولاية وتعلق بالروحانيات وأصبح صاحب مقام عظيم ثم عرضوا عليه أموال كثيرة حتى يدعو على سيدنا موسى لأنه كان مجاب الدعاء، مقابل هذا المال نسي دينه، نسي ثوابته، ورفع يدعه يريد أن يدعو على سيدنا موسى فانقلب الدعاء عليه، وسُلب كل شيء، وجعله لله نموذج من تكون همته عليّه فتنحط.
قال سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ) [الأعراف: 175-176] توجهت همته إلى الأرض إلدنيا، إلى المتاع إلى المادة فصارت همّة دنية.
(...وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
إذا كنت يومًا من الأيام في بريّه ومررت بكلب، إذا شمته ينبح عليك، إذا تركته ينبع عليك.
إذًا هذا له اتجاه واحد، اتجاه لا يقبل الانعكاس، هذا شأن من يتبع الهوى، هذا شأن من يتبع المادة، لكن (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ)[الأعراف: 201] وإذًا يتغير الاتجاه، يتعقل، المؤمن دائمًا في حالة تعقُّل، فإذا زلت قدمه سرعان ما يرجع ويتوب. (أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ)[هود: 114] ورحم الله من قال: حسناتي في هواكم مذهبات السيئات.
إذًا عندما يعيش الإنسان حالة التوازن، ولا يكون ماديًا صرفًا، يخرج عن هذا المثال، (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
قال:
لكنْ مِن التَّطْوِيلِ كَلَّتِ الهِمَمْ. عرفنا معنى الهمة التي جمعها الهمم،
فَصَارَ فِيْهِ الاْختِصَارُ مُلَتَزَمْ
وهنا أستطيع في مقدمة صغيرة جدًا لا تتجاوز الدقائق أن أقول لكم إن علم التوحيد كله من باب الاختصار، علم التوحيد كله مرجعه إلى كلمتين.
الكلمة الأولى تنزيه، والكلمة الثانية إثبات.
كل علم التوحيد مرجعه إلى كلمتين تنزيه وإثبات.
تنزيهيعني تنزه الحق سبحانه وتعالى أن يكون أحد من المخلوقين مشابهًا له.
الإثبات تثبت ما أثبت الحق لنفسه، هذا كل علم التوحيد باختصار.
مثال: قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)[الشورى:11] هذا مثال عن التنزيه، (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الشورى:11] مثال عن الإثبات، ما أثبته تعالى لنفسه، فهو سبحانه أثبت لنفسه الوجود، يعني وجوده سبحانه ثابت، قال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)[الحج: 62] يعني الذي وجوده ثابت، (وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ) [الحج: 62]
قال: سبحانه وتعالى: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ)[الصافات: 180]
هذا من التنزيه، يعني كمل ما يمكن أن تصف به المخلوق لا ينبغي أن تصف به الخالق. وقال: (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ)[الإخلاص: 4]
لا يوجد مكافئ ولا مماثل ولا نظير، ولا مشابه لمولانا سبحانه، هذا من التنزيه.
وكذلك المخلوقون لوجودهم بداية، ولوجودهم نهاية، ومولانا سبحانه أثبت لذاته أنه لا بداية لوجوده ولا نهاية فقال سبحانه: (هُوَ الاوَّلُ وَالاخِرُ)[الحديد:3]
وقال سبحانه وتعالى وهو يثبت الغِنى لنفسه، وينفي أن يكون في حاجة إلى أحد وأن كل أحد محتاج إليه سبحانه بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)[فاطر: 15-16].
وقال: (الله الصمد)[الإخلاص: 2]يعني تصمد الحوائج إليه، فالكل محتاج إليه.
وقال سبحانه وتعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)[الإخلاص: 1]
فنفى الكثرة، وأثبت الكثرة لنا حن المخلوقين، قال: (وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ)[الأعراف: 86] أثبت الكثرة لنا، هذه نماذج أثبت سبحانه وتعالى أنه الحي، وأنه سبحانه وتعالى العليم، وأنه سبحانه وتعالى القدير، وأنه سبحانه وتعالى الفعال لما يريد، وأنه سبحانه وتعالى السميع، وأنه سبحانه وتعالى البصير، وأنه سبحانه وتعالى الذي كلّم الرسل وكلّم موسى تكليمًا..
إذًا هذه إثباتات.
إذًا كل علم التوحيد مختصر في كلمتين، التنزيه والإثبات، فالتنزيه يعني ليس مخلوق من المخلوق يوصف بشيء وتصف مولانا سبحانه وتعالى بشيء.
ربما يقول قائل المولى قال عين، وصف نفسه بالعين، باليد..
نقول هذا عند علماء التوحيد اسمه اشتراك لفظي، يعني الاشتراك في اللفظ فقط لا في المعنى.
خذوا كلمة العين في اللغة العربية، العين تطلق على الباصرة، هذه الجارحة المبصرة، والعين أيضًا نبع الماء.
إذا لا يوجد بين معنى العين في اللفظ الأول، ومعنى العين في اللفظ الثاني أي اشتراك إلا في اللفظ، وهكذا لا يوجد أي اشتراك بين المخلوق والخالق في الوصف أبدًا.
هذا اختصار علم التوحيد، لأن الشيخ قال: فَصَارَ فِيْهِ الاْختِصَارُ مُلَتَزَمْ فأحببنا أن نختصر لكم في هذه الخاتمة في هذا الدرس المبارك، علم التوحيد بكلمتين الكلمة الأولى التنـزيه والكلمة الثانية نثبت ما أثبت الحق لنفسه.
اللهم صل على سيدنا محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم. ربنا تقبل منا واقبلنا بسر الفاتحة.


أعلى الصفحة