الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
8- وجوب العلم بالله
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
7/7/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، اللهم صلِّ على سيِّدنا محمَّد عبدك ورسولك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلم.
قال صاحب الجوهرة الإمام اللقاني رحمة الله عليه:
وَبَعْدُ, فَالعِلْمُ بِأَصْلِ الدِّيْنِ..........مُحَتَّمٌ يَحْتَاجُ لِلتَّبْيِيْنِ

فبعد أن انتهى من المقدمة التي فيها الحمدُ والصلاةُ على الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، بدأ يتحدّث في المقصود الذي هو عِلْم التوحيد، وبين مقدّمته وبدئه بالمقصود، أتى استحبابًا واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
وَبَعْدُ, فقوله: (وبعد) أو (أما بعد) هو من السُنّة، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يأتي بها في خُطَبه، فمن الاقتداء به صلى الله عليه وسلم أن يأتي بقوله: (أما بعد) أو (وبعد)، وهي للانتقال من غرض إلى آخر.
وأول من قال: "أما بعد" هو سيِّدنا داوود عليه الصلاة والسلام، الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى فَصْلَ الخِطَاب، وقيل: هو قس بن ساعدة، العربي الذي كان يدعو الناس إلى التوحيد، ويُرجّح العلماء أن أول من قالها سيِّدُنا داوود عليه السلام، وهناك أقوال أخرى.
ومعناها: وبعدَ الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحمدِ له, وبعد الحمدِ لله، فأقولُ.
عادة يكون الظرف منصوبًا، وقد بُنيَتْ هنا على الضم، كما في قوله تعالى: {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] لوجود مُقدَّر، وهو المضاف الذي ذكرناه, أي: "الصلاةِ والسلامِ ...", فهذا مضاف إليه, لهذا قال: "وَبَعْدُ"، وهي ظرف زمان, أي: وبعد الذي حصل من حمدنا لله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقول, فهذا ظرف مبني على الضم، لأن الإضافة محذوفة ومُقدَّرة.
قال بعضهم: هي ظرف مكان, لكن هذا القول ضعيف، حيث اعتبروا ورودها في الكتابة، أي إنها وردت بعد الجمل الأولى, وهو بعيد، إنما الصحيح أنها ظرفٌ للزمان.
إذًا هي سُنّة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإتيان بها مُستحَبٌّ اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ثم قال: فَالعِلْمُ بِأَصْلِ الدِّيْنِ, فما هو العِلْم؟
العِلْم هو: إدراك الشيء بحقيقته, فإذا قلتَ: أعلم أين المكان الفلاني, فإذا كانت معرفتك مطابقة للواقع، فهذا يكون عِلْمًا, فإن لم تكن مطابقة, كأن ذكرتَ مكانًا في غير المكان الحقيقيّ له, فهذا لا يُسمى عِلْمًا، لأنه لم يكن مطابقًا، فلم يُدرِك الأمر على حقيقته، إنما أدركه على خلاف ما هو عليه.
إذا سألته من هو سيدنا عمار بن ياسر؟ فقال: هو رجل في العصر العباسي, فهذا ليس بعِلْم، لأن سيدنا عمار بن ياسر هو صحابيٌّ جليل من شيوخ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
فإذا أدرك الشيء بحقيقته، أو أدركه على ما هو عليه، فإن ذلك يكون عِلْمًا.
وفصَّل العلماء في التعريف فقالوا: هو جزمٌ مُطابِقٌ للواقع عن دليلٍ, فهي ثلاث عناصر, فإذا قال: أنا أظن أن عمار بن ياسر صحابي, فهذا لا يُسمى عِلْمًا, فقد ذكر شيئًا مطابقًا للواقع، وهو أنه صحابي، لكنه لم يجزم بذلك.
فلابد من التميز بين أمور ثلاث:
1- الوهم: حيث عنده احتمالان: صحابيّ أو تابعيّ، لكنه يُغلِّب أنه تابعي، فهذا يسمى وهمًا.
2- الشكّ: إذا تساوى عنده الاحتمالان: احتمال كونه صحابيًّا، واحتمال كونه تابعيًّا، فهذا يُسمَّى شكًّا.
فإذا كان الرجحان للاحتمال الخاطئ فإنه يُسمى وهمًا، وإذا كان هناك تساوٍ بين الاحتمالين فإنه يُسمَّى شكًَّا.
3- الظنّ: إذا غلَّب الجانبَ الصحيح، أي غَلَبَ في ذهنه الاحتمالُ الصادقُ الصحيحُ الاحتمالَ الخاطئ، فإنه يُسمَّى ظنًّا.
وكل هذه الثلاثة لا ترقى إلى رُتبة العِلْم، لذلك عاب الله سبحانه على النصارى اتّباعهم للظنّ.
والعقائد لا يُقبل فيها الظنُّ أبدًا، أما الفقه فيُقبل فيه.
فإذا قال: أظنُّ أن الله تعالى واحد, فهذا لا يُقبل، أما إذا قال: أظن أن فرض مسح الرأس رُبعُه, فهذا مقبول, وإذا قال حنبليٌّ: أظن أن فرض مسح الرأس كلُّه، أو قال شافعيٌّ: أظن أن فرض مسح الرأس بعضُه, فهذا كله مقبول، لأن الله سبحانه وتعالى تعبّدنا في الأحكام الفقهية العملية الفرعية بالظنّ، أما في العقائد فلا يُقبل إلا الجزم واليقين.
فلا بد أن يجزم جزمًا لا يطرأ عليه شكٌّ، ولا يتطرق إليه أي ظنٍّ أو وهم، بأن الله سبحانه وتعالى هو الحقُّ، وأنه سبحانه واحد، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه على كل شيء قدير ... فهذه حقائق ثابتة لا تقبل في حالٍ من الأحوال أن يكون فيها احتمالات, لذلك لا يكون عِلْمًا حتى يكون جزمًا.
ثم لا بد لهذا الجزم أن يكون مطابقًا للواقع, فإذا قال: أجزم بأن عمار بن ياسر تابعيٌّ, أو قال: أجزم بأنه خليفةٌ عباسيٌّ, فهذا جَزْمٌ، لكنَّه غير مطابقٍ للواقع.
فإذا كان الجزم مخالفًا للواقع يُسمَّى جهلاً مُركَّبًا, لأن الجهل إما بسيطٌ أو مركَّبٌ:
- فإذا قال: لا أعلم من هو عمار بن ياسر, فهذا يُسمَّى جهلاً بسيطًا.
- أما إذا قال: أجزم أن عمار بن ياسر هو خليفةٌ عباسيٌّ, فهذا جاهل جهلاً مُركَّبًا، لأنه جاهل ويجهل أنه جاهل، وما أكثر هذا النوع بين المسلمين، فهناك من يدّعي العِلْم بشيء ما وهو جاهل به ويجهل أنه جاهل، وعندما يتوهم الإنسان أنه يعلم شيئًا ما فتلك مصيبةٌ كبرى، فإذا ما سئل بعض الناس في قضايا عقائدهم، وفي ثوابت دينهم، فإنهم يتوهَّمون أنهم على عِلْم، وهم على جهل، فيكونون أصحاب جهل مركَّب.
إذًا: إذا جزم جزمًا مطابقًا للواقع عن دليل، فإن هذا يُسمَّى علمًا:
- فإن لم يجزم، بأن وَهِمَ أو شكَّ أو ظَنّ، فلا يُسمَّى صاحب عِلْم.
- وإذا جزم جزمًا, لكن هذا الجزم لم يكن مطابقًا للواقع، فإنه يٍُسمَّى جهلاً مركَّبًا.
- وإذا جزم جزمًا مطابقًا للواقع ولم يكن لديه أي دليل، فهذا يُسمى مُقلِّدًا.
إذا قلنا لشخص: أنت تجزم أن الله على كل شيء قدير، فما دليلك؟ يقول: سمعت أبي يقول: إن الله على كل شيء قدير، فقلت كما قال, فهو لم يفكر لماذا الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير, فإذا فكَّر وقال: الذي يخلق هذا الكون كلَّه بكل عجائبه، ألا يكون على كل شيء قدير؟ نقول: أنت صاحب دليل.
الإسلام لا يريد منا أن نتبنّى أمرًا بدون عقل، فقد كرَّم الله هذا الإنسان بالعقل، فإذا أردت أن تتبنّى حقيقة من حقائق هذا الدين فَكِّرْ, فإذا نظرت بعقلك وتأملت هذا القرآن العظيم، ستقول: هو قرآن عظيم، وهو كتابنا، وهو منهجنا ... لأنك ستجد أن هذا القرآن لم يقدر أحدٌ على معارضته، مع اجتماع كل العرب على ذلك.
جاء سيدنا موسى في زمنٍ اشتهر أصحابه بالسحر، فأتى بمعجزة أبطلت سحرهم، وسيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام جاء في زمن اشتهر بالطب، وكان الطب اليوناني يصل إلى كل الأصقاع، فأتى بمعجزة شفاءِ الأبرص، وإحياء الموتى، التي عجز الطب عنها.
وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاء في زمنٍ اشتهر أصحابه باللغة, فأتى بكتاب بديعٍ في اللغة وسيبقى مُتحدِّيًا حتى آخر الزمان، وكلُّ زمان منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ستكون له مزايا، فالزمن الذي أُنـزل فيه القرآن كان زمن اللغة، فكان مُتحدِّيًا لهم باللغة، وفي زماننا أكثر ما يتفاخر الناس به هو الاكتشافات التجريبية، والقرآن الكريم يُذهل الناس في كل يوم بحقائقَ نصَّ عليها وذكرها ولم تُكتشف إلا في هذا الوقت، وهناك حقائقُ كثيرة إلى الآن غير مُكتشفَة والقرآن الكريم يذكرها.
فالقرآن معجزٌ في كل وقت، فعندما نتأمل هذا, نقول: إنه كتاب ربّنا، ومنهج ديننا الذي اخترناه, وعندما نكون أصحاب تفكيرٍ وعقل، فلا نكون مجرد مُقلِّدين، إنما نمتثل أمر الله سبحانه وتعالى في التفكُّر، وكم ورد في القرآن الكريم: {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}, {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا}, {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا}, {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وكل هذا لأن القرآن الكريم يريد هذا الإنسان عاقلاً، ويريده صاحب لُبٍّ، ويريده صاحب اهتداء بعقله, يهتدي بعقله بأنوار النقْل، التي أكرم الله سبحانه وتعالى بها الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
إذًا: إذا جزم جزمًا مطابقًا للواقع, لكن بدون دليل، فهذا يُسمى مُقلِّدًا.
والمُقلِّدُ إيمانُه صحيح، لأنه قال: الله على كل شيء قدير, وقال: الله سبحانه وتعالى واحد, وقال: القرآن عظيم، وهو كتابنا ومنهجنا ودستورنا ... لكن لم يكن لديه نظر, فمثل هذا يُقال: إيمانه صحيح، لكنه عاصٍ لله سبحانه بترك النظر إذا كان قادرًا على التفكُّر، فالله سبحانه وتعالى أمره بالتفكُّر كما أمره بالصلاة، وكما أمره بالصيام، حيث أمره أن يكون لعقله عمل.
ولمَ خلق الله هذه الأذن، وهذه العين، وهذا اللسان ..؟
خلق كل ذلك ليُوظَّف، وكذلك خلق الله سبحانه وتعالى لنا عقولاً، ولا بد من توظيفها، وتوظيفُها يكون بالتفكّر والنظر والاستدلال.
فإذا جزم جزمًا مطابقًا للواقع وكان جزمه هذا عن دليل، فإنه يكون عند ذلك صاحبَ عِلْم.
ثم قال: بِأَصْلِ الدِّيْنِ, ولمَ سمّى الناظمُ علمَ التوحيد أصلَ الدين؟
فنحن نصلِّي, وندعو إلى الله, ونصوم, وننافح عن القرآن ... فإذا لم يكن كلُّ هذا فرعًا عن اعتقادنا بأن الله سبحانه وتعالى هو إلهنا، وهو ربّنا، وهو معبودنا ... وإذا لم يكن هذا العمل: صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وإحساننا وإنفاقنا ... كلُّه فرعًا عن اعتقادنا، فلا قيمة له, فلا قيمة لعملٍ لا يكون فرعًا عن الاعتقاد.
فلما فهمنا أن أعمال الإسلام كلَّها فروع عن هذا الأصل، فهو إذًا أصل الدين.
فالشجرة جذورها عميقة، وبعد ذلك تخرج الفروع في السماء {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي جذرها وساقها متين راسخ، ثم يتفرع عنه الفروع {وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم: 24].
ولمّا كان عِلْمُ التوحيد العلم المتعلِّق بالله، والذي من خلاله نتعرّف إلى ربّنا: من هو؟ وما صفاته؟ وما أسماؤه؟ ... فهو أشرف العلوم، لأنه يتعلَّق بالله سبحانه وتعالى، وبرُسله، وبالكُتُب، وبالملائكة، وباليوم الآخر، فكيف لا يكون أشرف العلوم؟
وعندما تتعلّم كيف تتطهر، وكيف تزيل نجاسة عن ثوبك أو بدنك, فأنت تتعلّم هذا لأنك تتقرّب به إلى مولاك، ومن هو مولاك؟
من هنا كان عِلْمُ التوحيد أصلَ الدين، لأن كل الأعمال الإسلامية بدون استثناء هي فروع للاعتقاد، ورسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بقي في مكة ثلاثة عشر سنة وهو يغرس في القلوب أصل الدين.
وهل أمر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا في مكة بالصيام أو بالحج؟ وهل أمر أحدًا أن يمتنع عن شرب الخمر؟ وهل أمر امرأة أن تتحجّب؟
فكل هذا نـزل في المدينة المنورة، فبعد ثمانية عشر سنة من البعثة نـزل تشريع الحجاب، وفي السنة الخامسة من الهجرة النبوية نـزل تشريع تحريم الخمر ...
وهذا كله يدلنا على أنه صلى الله عليه وسلم ثبَّت أولاً أصل الدين، ثم بدأ ينظر إلى الثمرة، ويعتني بالفروع.
وهذه مسألة من الضروري أن نَعِيَهَا ونحن ندعو إلى الله, وعلينا أن نفهم أن أوَّلَ واجباتنا في الدعوة إلى الله تثبيتُ الإيمان في القلوب, فمشكلة المسلمين الآن في التقصير العام هي مشكلة إيمانية.
يقف الخطيب على المنبر ويقول: افعلوا هذا, ولا تفعلوا ذاك ... وهذه فروع.
إذا استشعرت القلوب عظمة الله سبحانه وتعالى، وإذا نـزلت فيها الخشية من الله سبحانه {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وإذا وُجِدَت هذه الحقيقة في القلوب، وتنوّر القلب بأنوار الإيمان، فإنه يعجز عن مخالفة أمر الله، لأن الله سبحانه جعل ثمرة الإيمان كراهيةَ المعصية وحبَّ الطاعة.
فإذا غُرست الشجرة تظهر فروعها، قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فلا تَلُمْ من يقع في المعصية على معصيته، بل اغرس في قلبه أنوار الإيمان, فستراه يكره المعصية.
وهذه قضية حسَّاسة جدًّا، عندما نوجّه الدعوة إلى الفروع، ونقول للناس: أنتم مخطئون.
فهل قام الدعاة بغرس بذور الإيمان وسقايتها ورعايتها؟ وهل فهموا أن علينا الاعتناء بأسباب الإيمان في الأمة؟
فإذا اعتنينا بأسباب الإيمان في الأمة، فلن يستطيع الشباب ولا النساء أن يخالفوا أمر الله، لكن إذا لم يُعتنَ بها ولم تتمَّ رعايتُها ولا سقايتُها, فسنرى ما نراه الآن في الطُّرقات.
لكن هل نلوم الشباب والفتيات أم نلوم أنفسنا لأننا نخطئ في توجيه الدعوة إلى المقدمات والأسباب؟ فنحن نتحدث عن النتائج مع إهمال المقدمات.
ينبغي أن تتوجّه التربية إلى أسباب زيادة الإيمان, ومنها:
1- تلاوة القرآن وفَهْمُه: فينبغي أن نعتني بها {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].
2- دخول المساجد: فينبغي أن نعتني بترغيب الشباب في ذلك (إِذَا رَأَيْتُمُ الرّجُلَ يَعْتَادُ المَسْجَدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بالإِيمَانِ).
3- المِحَن والشدائد: وقد ورد هذا في القرآن: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران: 173].
لماذا نرى إخواننا في فلسطين على أعلى درجة من الإيمان؟ لأن الشدّة أحاطت بهم، وأعادتهم إلى جذورهم.
ولماذا لا نشعر نحن بهذه المِحنة مع وجودها؟ لأنهم قطّعونا قِطَعًا، فنحن نقول: أنا سوريّ وهو فلسطينيّ والآخر عراقيّ ... وهذه لغة جديدة لم تكن في أمتنا.
لمَّا صاحت امرأةٌ: وامعتصماه, تحرَّكت الأمة الإسلامية كلها، أما اليوم فيصيح الألوفٌ، لكن لا أحد يسمع، ولا أحد تهتزُّ فيه شعرة.
بدأنا نعيش الحالة الإقليمية، ولا نعيش الشعور بالأمَّة، وكأن الذي يحصل في العراق، أو في أفغانستان، أو في فلسطين، أو في أي مكان من العالم لا يعنينا، فالمهم أننا في سورية في حالة أمن وأمان.
وهذا الشعور الإقليمي مصيبةٌ مدمِّرة، ولذلك دخلت المحنة، وكان من المفروض أن يرجع الإيمان بدخولها، لكننا ما شعرنا بها.
لو أن مدينة في سورية اقتحمها العدوّ، سنجد أن الجميع في حالة توثُّب، وفي حالة من الغضب، ومن الرجوع إلى الله، وفي حالة من الدعاء والتضرع ... وما الفارق بين محافظة من محافظات سورية، وبين غزَّة والضفة الغربية وبغداد والبصرة وجنوب لبنان ...؟
لقد أصابنا التخدير بسبب هذا التقطيع، وهذا التخدير قطع شعورنا، فالمحنة تنـزل، لكنها لا تعيدنا إلى الإيمان بسبب هذا التخدير.
إذًا من أسباب زيادة الإيمان: تلاوة القرآن الكريم وفهمه، والشعور بالشدّة، وارتياد المساجد حتى تعود للمسجد وظيفته.
فالمسجد ليس للصلاة وحسب، فقد كانت تقوم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مهرجانات شعر، حيث كان سيدنا حسان وسيدنا عبد الله بن رواحة, وفيه كانت تُعقد الألوية التي تتوجّه إلى أصقاع الدنيا ...
فالمسجد كان يُمثِّل مركزيةً في الحياة، والذي يدرس النظرية الهندسية الإسلامية (نظرية بناء المدن)، يجد أن مركز المدينة كان الجامع، لأن ما فيه من معانٍ ومضامين مركزٌ للحياة.
إذًا: من خلال هذا نستطيع أن نفهم لماذا كان عِلْمُ التوحيد أصلَ الدين، ولماذا كان الإيمانُ أصلَ الدين؟
ثم قال: مُحَتَّمٌ, ولم يقل: واجب، فمعنى "مُحَتَّمٌ" هنا أي: فرض أو واجب شرعيّ أوجبه الله سبحانه.
أي: العِلْمُ بالعقائد ومعرفتُها فرضٌ.
والله سبحانه وتعالى نصّ في القرآن الكريم على فرضيته، وذلك بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} [محمد: 19].
وعند علماء الأصول: مقتضى الأمر الوجوبُ, ومقتضى النهي التحريمُ, ما لم تَرِد قرينة من القرائن تصرف الوجوب إلى الندب، أو تصرف النهي إلى الكراهة.
وهنا لا توجد قرينة تصرف هذا الأمر الذي يأمر الله سبحانه وتعالى به إلى الندب, فتبيّن أن قوله سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} يفيد الوجوب، أي: هو فرضٌ عينيٌّ على كلِّ مُكلَّفٍ، أي على كلِّ بالغ عاقل سليم الحواس بَلَغَتْهُ دعوة الإسلام.
إذًا: من الفرض على كلِّ مُكلَّف أن يعرف هذه العقائد، ولو كان هذا بدليل إجماليٍّ، أي يكفي في العقائد كلِّها أن يقول: إن هذا الكون دليلٌ على أنه سبحانه هو الحقُّ، وهو الواحد الأحد، وهو الأوَّل والآخر، وهو الذي ليس كمثله شيء، وهو الغني ونحن الفقراء إليه، وهو العليم والحيّ والمريد والقدير والسميع والبصير ...
فإذا قلنا له: ما الدليل؟ فقال: هذا الكون، لأن هذا الكون لا يمكن أن يُظهرَه إلا من كان موصوفًا بكلِّ الكمالات، فهذا هو الفرض العينيّ.
أما التفصيلُ في الأدلَّة ورَدُّ الشبه فهو فرضٌ كفائيٌ, لأن الشُبه تَرِد على المسلمين في كل زمان، فوجود من هو قادرٌ على معرفة الأدلة والتفصيل فيها ورَدّ الشبه في كل بلدة من بلاد المسلمين فرضٌ كفائيٌ.
فإذا حفظت الأدلة، ولم تكن قادرًا على رَدّ شُبه الملاحدة وأهل الضلال، فلا تكون صاحب دليل تفصيليّ، ولا يكون الفرض الكفائيّ قد تحقَّق.
وما معنى الفرض الكفائي؟
أي: إذا قام به البعض سقط الإثم عن الجميع، وإذا لم يقم به أحد فالجميع آثمون.
إذًا: فوجود من يقدر على ردّ شُبه أهل الضلال التي يُوردونها على المسلمين في كل وقت فرضٌ كفائيٌّ.
وهذا معنى قوله: "مُحَتَّمٌ" أي فرضٌ على كلِّ مُكلَّفٍ, بدليل بسيط إجماليّ، لكنه كفائيّ على البعض، الذين يجب أن يَردُّوا الشُبه عن المسلمين.
ثم قال: يَحْتَاجُ لِلتَّبْيِينِ.
فهناك إذًا حاجة، فإذا أورد أهل الضلال شُبهةً فسيقع المسلمون في الفتنة، وهي حاجة كبيرة, وأشدُّ مِنْ حاجة الإنسان إلى الطعام، ومن حاجته لدفع العدوى، فالشبهة مثل العدوى، ومثل الطاعون.
إذا دخلت العدوى البلدَ فإن وزارات الصحة تأخذ كل الاحتياطات، وتُقاومه بشدّة, والشبه مثل هذا المرض تمامًا، فإذا لم ندرك أنها كالمرض، فسيُفتن المسلمون.
إذا كان هناك حاجة في بلادنا للوقاية من الملاريا، ومن الأمراض المُعدِيَة الأخرى، ولم نَعِ أن الأمة بحاجة أيضًا للوقاية من الشبه، فإن المسلمين سيقعون في الفتنة.
وهذه الوقاية من الشبه هي حاجة لا يمكن تحقيقها إلا بوجود أصحاب الفرض الكفائيّ، فإذا كان هناك من يلبس العمامة، ويُدجّل على المسلمين، ويفتنهم في عقائدهم وفي ثوابتهم، ولا يُتصدَّى له، فستكون فتنة عظيمة, لأن الشبه لا يُوردها في الغالب اليهود بشكل مباشر، وإنما يتم تلميعٌ لأهل الشبه ولأهل الضلال.
فإذا لم يوجد من يتصدَّى لأهل الضلال بالبراهين والحُجج، ويُبيِّنُ للمسلمين أن هذا ضلال، وأنه ليس من مَعين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن المسلمين يقعون في الفتنة.
لذلك قال الناظم: "يَحْتَاجُ لِلتَّبْيِينِ" أي: تبيينِ الحقّ، وتبيينِ الشبه، والتشريح الدقيق للحالة، التي من خلالها يُوصَّف المرض، وبعد ذلك يُوصَّف العلاج، فتندفع الشبهة عن المسلمين.
وهذا يحتاج أن يرتقي إلى مستوى الشبهة ومستوى وسائلها، أي إذا انتشرت الشبهة في التلفزيونات وفي الإنترنت, فيجب أن يكون ردّها على هذا المستوى وبنفس القوة، والمسلمون آثمون عندما يُقصِّرون في بذل الوسائل التي من خلالها تُردّ الشبه، والشبهة التي توردها قنوات إعلامية كبيرة لا يمكن أن نردَّها من خلال مجلس صغير في غرفة صغيرة، إنما ينبغي أن يجتهد المسلمون لإحداث وسائل تكون مقارعة للوسائل التي تنشر الشبه، وهذا مع الأسف ما لا يشعر به المسلمون، ولا يشعرون بقيمته.
وعندما نقول: ينبغي أن نهتم بالإعلام الإسلاميّ الصحيح، وينبغي أن نعطي الوسائل حقّها، فهذا حتى نرد على أعداء الله.
صحيح أن هناك دعوة الرجال للرجال، ودعوة النساء للنساء، لكن هناك أيضًا دعوة الوسائل، فلا بد أن نهتم بالوسائل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم في الدعوة الوسائل، كالرسائل التي أرسلها للملوك, وهي وسائل نقل للدعوة.
لذلك لا بد أن نعتني بكل الوسائل: كالإنترنت, والقنوات الفضائية, والإذاعة ... إلى آخر ما هناك, لكن الشعور بهذه المسؤولية ضعيف بسبب ضعف الشعور العام.
وما أكثر الشبه الواردة في وقتنا هذا، ولو أننا استمعنا للبرامج الإسلامية التي تُبَثُّ في القنوات الفضائية، لأخرجنا من الشبه ما يُصنّف فيه كُتُب، ومع الأسف فقد أصبح الناس يتلقَّون دينهم من القنوات الفضائية، وإذا كان مظهر الشيخ في التلفزيون جميلاً، ولحيته طويلة، و ... فإن الناس يُصدّقونه، ويقولون: قال الشيخ الفلاني.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنّ هَذَا العِلْمَ دِينٌ)، ويُروى هذا أيضًا عن التابعين, فقد قال ابن سيرين: "إِنّ هَذَا العِلْمَ دِينٌ، فَاعْرِفُوا عَمَّنْ تَأْخُذُوْنَ دِيْنَكُمْ", وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم لابن عمر: (دِيْنَكَ دِيْنَكَ, إِنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُك).
عندما زار بلادنا يومًا من الأيام أحد الباباوات، قال بعض النسوة: ما شاء الله, نظرنا إلى وجهه فوجدناه مُنوّرًا.
وهذا عجيب, حيث ينسى الإنسان ما معنى أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله سبحانه وتعالى, وهذا عندما تُختزل القضية في الحُكم على صاحب الكلام.
فلو نظرت إلى وجه سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، سترى فيه وجهًا أسمر غضبان, كما وصفه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا تحدَّث الإنسان بهذه الموازين، فقد يقول: سيدنا موسى غير مُنوّر, ويمكن أن يقول عن مُمثِّل أو مُمثِّلة بأنها مُنوّرة، وهذه مصيبة.
أين الموازين؟ الكتاب، السُنّة، العِلْم، ثوابتنا ...؟
إذًا: لا ينبغي لنا أن نستند في أخذ عِلْمنا إلى ما تسمعه الأذن "بئست مطيَّة المرء زعموا".
فلا بد من وجود اختصاصيين: في الفقه يردّون شبه الفقه، وفي التوحيد والعقائد يردّون شُبه العقائد، وفي كلِّ عِلْم من العلوم الإسلامية: في التفسير, وفي العلوم التي من خلالها نستطيع أن نفهم ديننا، وعلى مستوى الاقتصاد الإسلامي، وعلى مستوى الاجتماع، وعلى مستوى السياسة الشرعية ...
وأنا أعتب على من يشتغلون بالفقه، لأنهم ينشرون فقه الصلاة وفقه الطهارة، ولا ينشرون فقه السياسة الشرعية, فهي كالصلاة, لها فقه مُفصَّل تفصيلاً بدقائقه، لكن إذا سألت المسلمين عن أركان الصلاة فإنهم يعرفونها، وكذلك أركان الوضوء ...
أما عندما تسأل عن فقه السياسة الشرعية: ما حُكم الإسلام في الشورى (ما يُسمى الآن بالديمقراطية)؟ وما علاقة الديمقراطية بالنظام الإسلامي "الشورى"؟ وكيف تُنتج الأمة السلطة القضائية، أو السلطة التنفيذية ...؟ فلا تجد أحدًا يعرفها.
وهذه دقائق موجودة ومُفصَّلة وبفقه عجيب راقٍ جدًّا جدًّا.
وليت هذا يُبَثُّ ويسمعه الناس، لكنهم يقومون بندوات وبرامج للإجابة على أسئلة وفتاوى على الهاتف على أمور تافهة: هل أصبغ شعري أم لا؟ هل ألبس لباسًا أسود أم أصفر ...؟
لكن ما يتعلّق بالتغيير فلا يوجد له برامج.
هذا واجبنا، بل وواجب كل الأمة الإسلامية، وإذا لم نضع اليد باليد لا يمكن أن نستمر.
كتبت في يوم من الأيام مقالة بعنوان: "إما أن نُولَد وإما أن نموت", فنحن نحتاج إلى ولادة، إذ لا وجود لنا، فإما أن نولد بقيمتنا وقَدرنا وكرامتنا، وإما أن نموت بأشباحنا لنتناسب مع الأرض التي سنُدفن فيها.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا فهمًا لكتابه، واقتداءً بحبيبه سيِّدِنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأن يُلزمنا العِلْمَ الإسلاميَّ المُعتمَد الذي يُمثِّل استمرار النهر النبويِّ الجاري إلى يوم القيامة، فالنهر النبويُّ المحمّديُّ لا ينقطع ماؤه أبدًا (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ, وفي رواية: مَن خَذَلَهُمْ, حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله).
هذا الدين هو أسمى شيء في حياتنا، فهو أسمى من أموالنا، ومن أرواحنا، ومن أولادنا ... ومن هذا المنطلق انطلق الأصحاب فانتشر الدين، لكن عندما يكون الدين في الدرجة العاشرة من اهتماماتنا، فإنه لا ينتشر بل يتقلّص.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التمسُّك بدينه، والاقتداء والاهتداء بحبيبه سيِّدنا محمد صلى الله عليه وسلم, والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة