الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
باب التفكر في عظيم مخلوقات الله تعالى(1)
التصوف
جامع العادلية بحلب
7/6/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
قال اللَّه تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ: 46].فبقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ} جمع كلَّ معاني الموعظة في واحدة, وكلُّ موعظةٍ إنما ترجع إلى هذه الواحدة, فهي أمُّ كل موعظة, فما من موعظة في الكتاب أو سنَّة سيِّد الأحباب إلا وترجع إلى هذه الواحدة.فقولهa: {أَعِظُكُم} المخاطبُ به كلُّ الناس, بل كلُّ المكلفين من الجنِّ والإنس, فاختصر قولُه: (أَعِظُكُم) أمَّةَ الدعوة من الجنِّ والإنس.فما مضمون هذه الموعظة الأم التي تكفي؟ إذ لو أنَّ كلَّ الناس فهموها وعملوا بها لكفتهم.هذه الموعظة مضمونها عملٌ موجَّهٌ في مقصود واحد, يعقبه صفاءُ طويَّةٍ ونقاءُ قلبٍ, فيصبح عند ذلك مرآةً للفكرة, فتكون الفكرة كالثمرة: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} و(ثُمَّ) تفيد الترتيب والزمن.فما هو العمل الموجَّه بالمقصود الواحد؟{أَن تَقُومُوا لِلَّهِ}فاختصر بقوله: {أَن تَقُومُوا} كل عمل, واختصر المقصود بقوله: {لِلَّهِ}.فكل حركة هي قيام, وكل فعل هو قيام, فأنت تقوم بالبناء, وتقوم بالخدمة, وتقوم بالعبادة, وتقوم بالمعاملة, وتقوم بالمؤاخاة, وتقوم بالدعوة, وتقوم بالتفتِّي, وتقوم بالإنفاق من حالك, وتقوم, وتقوم ... فاجتمع بقوله: {أَن تَقُومُوا} كلّ عمل.ولمَّا علم أن الإنسان قد يكون قائمًا بالبناء لنفسه: قائمًا بالدعوة للشهرة, قائمًا بالخدمة ليُمدَحَ ... وكلُّ عمل يقوم به قد يكون لغير الله, لذلك لخَّص كل العمل الذي يمكن أن يكون نافعًا ومجديًا ومفيدًا ومنتجًا بقوله: {أَن تَقُومُوا} ولخص مقصود العمل بقوله: {لِلَّهِ}.فإذا قمت ببناء الدولة, فهل فعلت هذا لتضمن قوَّةً مادّيَّة, لتضمن بقاء المنصب, أم قمت بذلك عبوديَّة؟ أم قمت بذلك لله لا لسواه؟وإذا قمت ببناء الدولة, قمت ببناء الاقتصاد, قمت ببناء صفاء روحك وصفاء سرّك, قمت ببناء التواصل بينك وبين أخيك ... فمن أجل أي شيء؟فأتى باختصار العمل كله بقوله: {أَن تَقُومُوا}, وأتى باختصار المقصود كله بقوله: {لِلَّهِ}.ولما كان العمل لا يمكن ظهوره إلا بشكل ما, ذكر هذا الشكل, فأشار إلى العمل الفردي والعمل الجماعي, بقوله: {مَثْنَى وَفُرَادَى}فكيف يكون العمل لله؟نقول: لا يوجد إلا شكلان للعمل: إما جماعي أو فردي, ولكنه قدَّمَ (مَثْنَى) لأن الأصل في العمل أن يكون جماعيًّا, فإن لم تجد من يعمل لله فعندها: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] فاجتهد أن تصل إلى عمل جماعيٍّ مقصوده الله, فإن لم تجد وحصل عندك يأسٌ أن تجد, فعند ذلك: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] وعند ذلك يأتي الشكل الثاني من العمل الذي هو (وَفُرَادَى).فالأصل في العمل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ} [آل عمران: 110] فإن لم يكن من الممكن ذلك (أي العمل في جماعة), عندها يكون الفرد أمة, فإذا حصل هذا العمل وكان مقصوده لله, فقد قام بما كُلِّف به, فأنتج قيامُه بالواجب صفاءً ونقاءً, حيث صفت مرآة قلبه بسبب أنوار الطاعات, وبسبب ما أكرمه الحق سبحانه من رفع الدرجات, وتوالي الحسنات, وزيادة البركات, والنـزول بالمقامات, فصفا باطنه, فلما صفا باطنه جاء بالثمرة التي هي المرحلة التالية:{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} فالفكرة لا يُعتدُّ بها إلا إذا كانت بعد صفاء ونقاء, لذلك قال صلى الله عليه وسلم لسيّدنا وابصة: (اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ), لأنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى باطنه فرآه صفائيًّا, فقال له: (اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ), أمّا من غَلَبَتْ نفسُه على قلبه فلا يستفتي قلبَه, لأن الذي سيجيب هو النفس, حيث ستملي على القلب وتقول: أجب بكذا, وسيقول الشيطان للقلب: أجب بكذا, وستقول الدنيا له: أجب بكذا, وسيقول الخلق له: أجب بكذا ... فهم مهيمنون عليه, فلا يمكن أن يستفتيَ قلبَه.فالذي يستفتي قلبَه هو الذي اجتاز المرحلة الأولى الصفائيَّة, فلما صفا سرُّه حتى لم يبقَ بينه وبين محبوبه حُجُبٌ, انطبعت في المرآة أنوار المحبوب, وصار قلبه لوحًا للغيوب, وهي صفته المعتبرة, لأن الفكرةَ التي تأتيه من الاستدلال فكرةٌ شكوكُها أكثرُ من يقينها, ولقد ورد أن عجوزًا قالت عندما مرَّت بالإمام الفخر الرازي: لو لم يكن عنده ألف شكٍّ لما أتى بألف دليل, فقال: (اللهم إيمانًا كإيمان العجائز).فالفكرة الاستدلالية تحيط بها الشكوك, أما الفكرة الصفائية, التي تكون انطباعًا في مرآة القلب من الغيب, فلا تدخلها الشكوك, فهي فكرة تنـزل إلى اللب باللباب, أما الذي يقف مع السطور, فلا يصل إليه إلا القشور, فمن كان ينظر إلى الظواهر ولا يتجاوزها إلى البواطن قد يخدع, ويكون أسير الغش, أما من ينظر بقلبه, فإنه يستمد من ربه, وعند الامتحان, يكرم المرء أو يهان.إذًا: {أَن تَقُومُوا لِلَّهِ} أي بكل ما آتاكم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] فما أُعطيتَه وما أُوتيتَه تقوم به لله, فمن أعطاه الله خبرة في البرمجة على الحاسوب مثلاً فهو يقوم بما أعطاه لله, ومن أعطاه علمًا في مصطلح الحديث يقوم به لله, ومن أعطاه علمًا في التجويد, أو في الإلكترونيات يقوم به لله, ومن أعطاه قوةً يقوم بها لله, ومن أعطاه صوتًا يقوم به لله ...لا تقل: لا أستطيع أن أدرِّسَ درسًا, نقول: ومن قال: إن القيام لله أن تقرأ كتابًا للناس؟ ما الذي أوتيتَه؟ بأي شيء تتميز؟(إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قدْرَكَ عِنْدَهُ, فَانْظُرْ فِي مَاذا يُقِيمُكَ) (الحكم العطائية 73), فالمطلوب منك أن تقوم, ففي أي شيء أقامك؟ بماذا قمت؟ هل قمت بما هو في محل محبته وبما يرضيه؟ أم أنك وجهته إلى الأهواء والنفس والأغراض؟ فكل إنسان أعطاه الله سبحانه وتعالى شيئًا أو أشياء.قال تعالى لابن الدنيا قارون: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ} [القصص:77] وقال لمن توجَّه قلبه إلى الله, قال لحبيبه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ} [الأنفال: 64] فمن كان من أبناء الدنيا ينتظره خطاب: (ابْتَغِ الدَّارَ الآخِرَةَ), ومن كان متوجهًا إلى ربِّ الدنيا والآخرة يأتيه خطاب: (حَسْبُكَ اللّهُ).{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي حسبه الله, أي ممن سار على هذه الهمة, وكان على قدمك بالسير, وأنت تقوم لله لا لسواه.فكيف لا تكون هذه الموعظة أمَّ المواعظ؟ فهي جامعة لكل شيء, وتتفرع عنها كل المواعظ.ثم حتى لو وُجِدَ الإنسانُ في جماعة فلا بد من ساعة يقول فيها: (لِيْ وَقْتٌ لا يَسَعُنِيْ فِيْهِ غَيْرُ رَبِّيْ), وهو من معاني "فرادى", ومن معانيه: (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ), فهم فرادى لأنهم توجَّهوا إلى الفرد, فكان الواحد منهم فردًا.إذًا ننتقل من المعنى الظاهر العددي إلى المعنى النوعي: سَبَقَ الْمُفَرّدُونَ, وفي رواية: الْمُفْرِدُونَ, أي الذين صاروا في النوع أفرادًا, فصار الواحد منهم في نوعه فردًا, فإن لم يكن كذلك فإنه يُكَمِّلُ أخاه ويكمِّلُه أخوه, فهو في معنى "مثنى", وقد بدأ بها لأنه بدأ بالأضعف, ثم انتقل بعد ذلك إلى الأفراد, وكذلك قال: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} بصيغة الجمع فقط وما قال: تتفكروا مثنى وفرادى, فأفاد أنَّ ما يَرِدُ على الفرد في الجماعة يعمُّهم, فإذا جاء الرزق للفرد في الفكرة فإنه يعمُّ الجماعة, فبصفاء قلبٍ توهب القلوب.قال: {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} لتأتي الثمرة كما ينـزل الغيث, حيث يخرج الناس للاستسقاء وفيهم رجل صالح فينـزل الغيث على الجميع, فالذي يستحق الغيث واحد لكن الغيث يعمُّ الجميع, فلا يأتي الغيث بالماء والخير إلا لمن يستحق أن يجاب, فكأن الفرد قام مقام الأمة.إذًا: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} وهو فرد, {كَانَ أُمَّةً} لأنه لمَّا استحق الإجابة, فكأنّه أصبح يعبّر عن الأمّة, وبه ترزق الأمة, وقد ورد الحديث الصحيح في الأبدال الأربعين الذين هم على قلب سيّدنا إبراهيم, وبهم يرزق الناس.وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له الحق: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ} [الحج: 27] كل الناس, فأخرجه من الخطاب الضيق, فالواحد فينا يخاطب أسرته, وآخر يخاطب عشيرته, وآخر يخاطب مؤسسته, وآخر ... لكن الله قال لسيّدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ}, وهذا الخطاب الذي هو خطاب الفرد, لكنه خطاب الأمة, لهذا كان أمَّةً.فالذي يُخرج الناس عن الضيق صار بحكم نوعه للناس إمامًا, لا أنه يقدم نفسه على الناس: {قَالَ} أي الله: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] فإمامته انفعالية, أي هي وارد وليست بورد, فهو لم يسعَ إلى الإمامة, إنما بنوعه الذي تفرَّدَ به صار الإمام, وشتان بين من يطلب أن يكون إمامًا, وبين من يجعله الحقُّ إمامًا.وهناك معانٍ كثيرةٌ لا تنتهي في هذه الموعظة, لأنَّ كلَّ المواعظ فيها, فنكتفي بما أورده الحق سبحانه وتعالى من بعض معانيها, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ قلوبنا لهذا التفكُّر, وأن يرزقنا بمنِّه وفضله وكرمه وإحسانه أن نقوم لله, إنه سبحانه وتعالى نِعم المُجيب, والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة