الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
باب الاستقامة-الحديث الأول
التصوف
جامع العادلية بحلب
17/5/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
عن أبي عمرو, وقيل أبي عَمْرَة سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ, قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدًا غَيْرَكَ, قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِالله, ثُمَّ اسْتَقِمْ/ رَوَاهُ مُسْلِمٌ.الإسلام تارة يُطلق على ركن واحد من أركان الدِّين, وتارة يُطلق على الدِّين كله بأركانه الثلاثة, فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19] أفاد عموم الأركان الثلاثة, وأما حديث جبريل فقد ورد فيه لفظ الإسلام بالمعنى الخاص.وهنا في هذا الحديث يسأل سيّدنا سفيانُ بن عبد الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم, أن يقول له في الإسلام قولاً, أي في الدِّين قولاً, فهو يسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يُوصِيَه وصيّة جامعةً مانعةً, فيها الاختصار, وفي معانيها كل التفصيل.يقول: قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ: أي في الدِّين بكل أركانه.قَوْلاً لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدًا غَيْرَكَ: أي أريد خلاصة مع صورة صادرة عن نور الوحي لا يختلط فيها رأيٌ ولا اجتهادٌ ولا استنباطٌ ولا احتمالٌ ... قُل لي قولاً آخذه ممن لا ينطق عن الهوى, {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} فأنا أريد أن أتلقَّى منك قولاً, وصية, توجيهًا, لا يختلط أمرها مع من سيأتي من بعدك يا رسول الله, لأنك لا تجتهد, إنما تنطق بالوحي, وأما من يأتي بعدك, أي بعد انتقال جسدك الشريف, يجتهد في معاني قولك, في معاني ما نقل من وحي الكتاب ووحي السُنَّة, وهما وحي واحد.فهو يريد من الوحي خلاصة فيها جوامع الكَلِم, تختصر الدِّين كله, فقال صلوات الله وسلاماته عليه, وهو صاحب جوامع الكَلِم:"قُلْ: آمَنْتُ بِالله": و(قُلْ) غير (قالوا), ففي الآية قال: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا} [فصلت: 30] وهنا: (قُلْ), ورسول الله صلى الله عليه وسلم حينما يخاطب عربيًا, فذلك العربي لا يعرف الظهور بوجهين, فهو حين يقول, لا يقول إلا مُعبِّرًا عما هو في باطنه, لهذا عندما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي جهل كلمةً, قال: أعطيك عشرًا, فلما قال: "لا إله إلا الله" عَلِم أبو جهل أن هذا الكلام له مُقتضى, فالعربي الأصيل إذا قال, لا يمكن أن يقول إلا ما يُعبِّر عما في باطنه.لذلك لم تظهر ظاهرة النِفاق في مكّة, لأن القُرشيين كانوا صفوة العرب, ولم يكونوا أصحاب اختلاط بالأنساب, إنما كانوا الصفوة المُعبِّرة عن العرب الذين سكنوا في قرية, والقرية هي المدينة, أما الذي لا يسكن القرية (أو المدينة) فلا يُقال له عربي, وإنما أعرابي أي البدوي الذي يرحل وليس له استقرار, وكأن كثرة تنقله تعطيه التنقُّل حتى في المعاني, فلا يَثْبُت على شيء, لذلك قال سبحانه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات: 14].لكن العربي الذي يسكن القرى, وخاصة القُرشيون, كان يعتبر الكَذِب من أكبر أنواع العيب والعار, لذلك لما سأل هرقل أبا سفيان عن سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم, وكان زعيم أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم, لم يقدر أن يكذب لأنه كان يعلم أنه إن كذب كذبة واحدة, فإن العار سيلحقه إلى يوم القيامة في كل العرب, لأن أشد أنواع العار الكذب, وما استطاع أن يُدخِلَ في كلامه شيئًا فيه ريبة إلا عندما سأله عن الحروب بين مكة والمدينة, فقال: "مرة ننتصر, ومرة ينتصرون, وأما في المرة القادمة فلا ندري, فقد ننتصر", فما استطاع أن يُدخل في الكلام إلا هذه, لأنها تقبل الاحتمالات, فهو يتحدث عن مستقبل, لا عن ماضي.فرسول الله صلى الله عليه وسلم عندما يقول له: (قُلْ: آمَنْتُ بِالله) فهو يعني: قُل مُعبِّرًا عما في باطنك, فإذا وُجد في باطنك حقّ الإيمان وحقيقته فأظهِرْه, ولا تَكُن كمؤمن آل فرعون الذي بقي مدة طويلة يكتم إيمانه: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28].وكأنه صلى الله عليه وسلم في هذا يُبيّن له أن حقيقة الإيمان ينبغي أن يُظهرها المؤمن على الظاهر, فلا قيمة لإيمانٍ في الباطن لا ظهور له, وما أقبح كلمة العوام: "الشيء في القلب", فأين العلامة على ما في القلب؟ وأين الدليل على ما في القلب؟فإن كنتَ صاحب إيمان, صاحب محبَّة, صاحب انتماء ... لماذا لا تُظهر حقيقة إيمانك قولاً وفعلاً؟فأما القول فهو: (قُلْ), وأما الفعل فهو: (اسْتَقِمْ).هذا يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بأمر باطن, يتفاعل في باطنه, ثم يُظهره قولاً وفعلاً, وهذه هي خلاصة الدِّين.فخلاصة الدِّين: إيمانٌ بالله تبارك وتعالى, قد يكون فيه التصديق أكبر من الأذواق, وقد يكون فيه التصديق كثيرًا وفيه أذواق, وقد تكون الأذواق أكثر من التصديق, وكله إيمان, فآمن أي صدَّق.فإن كنت تُصدِّق خبر من يقول لك: قد قَدِم قادم اسمه زيد, فإذا دخل زيد إلى حيث أنت, فهل يزول تصديقك أم يزداد؟إذًا سواء كان ذلك تصديقًا بخبر أو تصديقًا بنَظَر فهو إيمان, لهذا إذا استعرضت القرآن الكريم, وجدته يَصِف كثيرًا من الرسل بأنهم من المؤمنين: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ, وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ... وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي في أمة رسول الله, {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ, إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ, إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 75-81] فزاد الثناء عليه بعد أن ذكر: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} إذ خصَّه بزيادة الثناء عندما قال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}.وهذه الصيغ كلها فيها توكيد شديد.فالإيمان عظيم جدًّا, لا تقل: " أريد الإحسان ولا أريد الإيمان", فالإحسان يزيدك إيمانًا, حيث يكون إيمانك بخبر, ثم يصير فيه الخبر والنظر, وما أحلى الخبر والنظر!




حديثه أو حديثٌ عنه يُطربني


لكنَّ أحلاهما ما وافق النظراإذًا لفظُ الإيمان لفظٌ يشمل ما في الباطن: من العقل والقلب والروح, فهو في العقل جذب ودليل, وهو في الروح محبَّة وهُيام, وهو في القلب استئناس وحلاوة ونور, وهو في الروح انجذاب واستغراق, وكلها إيمان, فالعقل له إيمان الأدلّة, والقلب يستأنس بالأهِلَّة, أما الروح فتقول: لا حول ولا قوة إلا بالله, أي خرجتُ عن كل الدعاوي.فالقلب يميل إلى أهل الإيمان, ويستأنس بهم, ويحلو له الجَمع والجماعة, وأما الروح فإنها منجذبة إلى مولاها, به تَصُول وبه تَجُول, خرجَتْ عن كل الدعاوي وانجذبت إلى مولاها, وهذا كله إيمان.ولا بدَّ أن يُصاحب هذا الإيمان بدرجاته الثلاثة, قولٌ وفعلٌ, فلا بد إذًا من القول, فحينما تقول: آمنت بالله, رضيت بالله ربًَّا, أنت ربِّي وأنا عبدك ... تخرج عن الدعوى.قلت لبعضهم: "كُن كالوادي المُقدَّس", والوادي منخفض جدًّا, فكيف يكون منخفضًا ومُقدَّسًا؟نقول: لأنه صار مرآة, فلما صار كذلك, ظهر فيه وجه الحبيب, فصار مُقدَّسًا بالحبيب لا لأنه وادٍ, فكُن واديًا أي: كُن عميقًا, وإذا كنت في صفائك مرآة, يظهر فيك وأنت الوادي وجه المحبوب, فتصير المرآةُ ليست مُقدَّسةً لذاتها, وإنما تشرَّفَتْ بصورة المحبوب.إذًا حين تقول: أنت ربِّي وأنا عبدك, وأنا ما لي فيهاش ... تخرج عن الدعوى, وهذا معنى: (قُلْ).لا تقل: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ} [الزخرف: 51] فليس من الضروري أن تقول: مصر, فقد تقول: أليس لي مُلك الجلابية؟ أو مُلك الطربوش؟ أو مُلك الألف ليرة التي في جيبي؟ ...ففرعون قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْر} وأنت قد تقول: أليس لي مُلك الذي أتاني بعد العصر؟ ولكنكما تستويان في {لِي}.ولا تقل: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص: 78] ومثلها قدرةٍ عندي, أو ذكاءٍ وفِهمٍ عندي, أو شطارةٍ عندي, أو مزايا وسجايا عندي ... فـ: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] لذلك ثق بما عنده, لا بما عندك.وأما قوله: اسْتَقِمْ: فمعناه: اجتنب المنهيات, وتلك المنهيات مثالها كأماكن رمي القمامة, وكلما وقعت في معصية فكأنك وقعت في مكان النجاسات, لذلك تحتاج إلى التَطهير.فمثال المعصية كأماكن رمي القمامة وأماكن النجاسات, وأما مثال الطاعات فهي كالعطور والطيوب.فإذا لم تقع في مجرى الأوساخ, وبقيت دون روائح كريهة, تطهَّرْ بالماء, فهذا يكفي, أما إذا وضعت العطور فهذا أطيب وأطيب.فمثال الطاعة التي هي زيادة وزيادة, وطيوب على طيوب, وحُلل ... كمن لَبِس الحُلَّة ووضع الطيب وصار أحلى من العريس, فهذا يَتقرَّب بالنوافل كما يتقرَّب العريس من عروسته بالحُلل والطيوب, فهو في ليلة عُرسه يرتّب شعره ويسرَّحه ويلبس أحلى الملابس, وهذا كله حتى يتقرَّب إليها, وهي كذلك طول النهار تتزين, في بدنها وشعرها وطيوبها ... وذلك حتى تتقرَّب إليه.فهذا مخلوق يتقرَّب من مخلوق, فلِمَ لا تتقرَّب من مولاك؟!ومن الطريف أن نذكر هنا قصة العروس التي زيَّنها أهلها وأقرباؤها من العصر إلى العشاء, حتى تلقى عريسها في أحسن صورة, وبعد العشاء جاء عريسها, فدخل وقال: السلام عليكم, هل صلَّيتِ العشاء؟فهو معتادٌ عُمُرَهُ كلَّه أن يتقرَّب من مولاه, فأقرب قريبٍ له مولاه, وهو يريد أن يكون قريبًا منه حتى في ليلة عرسه, فأول خاطر خَطر له, وهو عريس شاب صغير في العشرينات من عمره أو أقل, أول شيء قاله: هل صليِّتِ العشاء؟ قالت: لقد نسيت أمر الصلاة منذ يومين, وأنا أتزين حتى ألقاك هذه الليلة في أحسن حلة, قال: لا, يجب أن نبدأ حياتنا على قُرب, قالت: أنا غير متوضئة, وإذا توضأتُ ستتخرب كل الزينة التي وضعتها من أجلك, فقال لها: لا, هذا الكلام لا يجوز, بل يجب أن نتوضأ ونصلي.وهنا غضبت المرأة وقالت في نفسها: أنا أتهيأ من العصر إلى ما بعد العشاء حتى ألقاك في هذه الساعة, وأنت تضيع كل هذا التعب, وكل تلك الزينة, فلا بد أن أنتقم من هذا الفعل.وبما أنهما سيبنيان حياتهما على الطاعة, فكل ما عليها من القضاء من الصلوات بدأت تقضيه في هذه الساعة, وهو على الفراش ينظر إليها وينتظرها, هل انتهت أم لا؟ولماذا تتقرَّب إليه, فهي تتقرب من مخلوق, تتقرب من عروس ... أفلا تتقرَّبُ من سيِّدك؟ثم هل ترضى, بعد أن تزوجْتَ وصار عندك أربعة أو خمسة أولاد, أن تدخل بيتك والنجس عليك؟فالمعصية هذا مثالها, لذلك ابتعد عنها, حتى لو كنت ستنال من خلالها بعض الدنيا, بعض الشُهرة, بعض, بعض ... فهذا كله نَجِس, وقليل من الحلال فيه كثير من الجمال.إذًا (اسْتَقِمْ) اجتنب المنهيات أولاً, لأنها نجاسات, ثم افعل الفرائض حتى تبقى كالمُغتسِل بالماء, فإن زدت بالنوافل صرت كالمُتطيِّب بالطِيب.أرأيتم كيف جمع سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام بهاتين الكلمتين كل الدِّين؟!واليوم الواحدُ فينا يحفظ كتبًا كثيرة, ويتكلم, ويقول: حفظت كذا, وصار عندي ثقافة كذا, واطَّلعت على كذا, وصرت كذا, و ...نقول: وحالك؟ وأعمالك؟ وقلبُك أهو مُنوَّر؟ هل أنت مُستقيم؟ هل أنت بعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قريب؟فهذا سؤال ينبغي أن نسأله أنفسنا دائمًا: أين نحن من الاهتداء بالهدي صلوات الله وسلامه عليه؟نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُوجِّه قلوبنا إليه, ونسأله أن يتولاّنا بولايته, وأن يكلأنا بعنايته, وأن يحرسنا بعينه التي لا تنام, والحمد لله رب العالمين.
أعلى الصفحة