الموقع الشخصي للدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
الطب مهنتي والشعر أغنيتي وعلوم القرآن والسنة ثقافتي والتصوف ذوقي وسجيتي والفكر سلاحي وعلامتي والتربية بنقل الناس من علائق الكون إلى الاستغراق في حضرة الله وظيفتي وتحبيب الخلق بخالقهم فني وهوايتي
 

موقع الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني
 
Masjed Lessons دروس مسجدية
 
3- النبوة والرسالة
العقيدة
جامع الإمام أبي حنيفة النعمان بحلب
26/5/2006
 
ملف نصي   كتاب إلكتروني   استماع ²
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله ربّ العالمين, اللهم صلِّ على سيدنا محمد عبدك
ورسولك النبيِّ الأميِّ وعلى آله وصحبه وسلم.


يقول الإمام اللقَّاني رحمة الله عليه في جوهرة التوحيد:









الحمد لله على صِلاتِـهِ
عى نَبيٍّ جَاءَ بالتوحِيدِ






ثم سلامُ الله مَعْ صَلاتِهِ
وَقَدْ خَلا الدينُ عَنِ التوحِيدِ








قوله: على نبيٍّ جاء بالتوحيد.


الأصل في (النبيّ) النبأ, والنبأ هو الخبر, حيث جاء في القرآن الكريم:
{عَمَّ
يَتَسَاءلُونَ, عَنِ النَّبَإِ} [عم: 1-2] أي الخبر, وطالما أن النبأ هو الخبر,
فالنبيِّ معناه: إما مُنبِّئ أو مُنبَّأ, وكلا المعنيين صحيح, فباعتبار أنه يتلقى
النبأ (أي يتلقى الخبر) من الله سبحانه وتعالى بواسطة المَلَك فهو: مُنبَّأ أي
مُخبَر, وباعتبار أنه يُخبِر الناسَ فهو: مُنبِّئ.


فإن أخبرهم, مقتصرًا في خبره على أنه نبيٌّ قد أخبره الله سبحانه وتعالى, فيكون
مُنبِّئًا أو مُخبِرًا عن نفسه بأنه نبيّ, ويتوقف الأمر عند هذا الحدّ, وأما إن كان
رسولاً مع كونه نبيًّا, فإنه يخبر الناس ويُبلِّغهم.


فالنبيّ الذي ليس برسول, يخبره اللهُ سبحانه, وهو يخبر الناسَ أنه نبيّ, إذ واجب
عليه أن يُخبرهم أن الله نبَّأه, ويقف الأمر عند هذا الحد, وأما إن كان نبيًا
رسولاً, فهو يُبلِّغ خبر الله سبحانه وتعالى للناس, فيكون مُخبِرًا عن أنه نبيّ,
ومُبلِّغًا رسالة الله للناس, فيكون بذلك مُخبِرًا عن نبوته, ومخبرًا عن رسالته.


يقول سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ
وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن
دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] هذه الآية نـزلت في
نصارى نجران حينما جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وما جادل وفدٌ من الوفود
رسولَ الله صلى الله عليه وسلم جدالاً كثيرًا كوفد نصارى نجران, فنـزلت هذه الآية
لتُخبرهم أنه من المستحيل أن يكون المسيح عليه الصلاة والسلام نبيًّا وفي نفس الوقت
يقول للناس: {كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ}.


ولقد بحثت في نسخ الإنجيل الأربعة الموجودة حاليًا, التي يعترف بها كل العالم
المسيحي, وتتبعت لفظ (نبيّ) و(رسول), فرأيت أنها موجودة في النُسخ الأربعة, وأن
عيسى عليه الصلاة والسلام (وهو المَسيح) يُخبر عنه الناس ويقولون: هو نبيّ وهو
رسول, وهذا مما هو ثابت ويعترف به النصارى, فالنُسخ الموجودة الآن تقول: المسيح
رسول, وتقول: المسيح نبيّ, لكن هناك إضافة, وهي نسبة الألوهية إليه, تعالى الله عن
ذلك.


وهنا جاء الحوار في القرآن الكريم, حيث يقول لوفد نصارى نجران:
{مَا كَانَ
لِبَشَرٍ} والمُراد سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام, {أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ
الْكِتَابَ} والتوراة كتاب, فهو مُندرج في هذا اللفظ, وكذلك الإنجيل والقرآن, ولذلك
ورد في حقنا أننا ممن ورث الكتاب: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] فورد الكتاب بمعنى القرآن, وقال:
{ذَلِكَ
الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] أي القرآن, وبالتالي ورد الكتاب في معاني
الكتب السماوية جميعها, {أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ
وَالنُّبُوَّةَ}.


إذًا هذا في معنى الكتاب, فما معنى الحُكم؟


بعض المُفسِّرين يُفسِّر الحُكم بالعلم, لكن القرآن الكريم يجتنب الترادف, فحين
نقرأ قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا
وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] نجد أنه أفاد التغاير, لأنه أورد العلم بعد الحُكم,
فحينما يُفسَّر الحُكم على أنه مجرد العِلْم, يكون تفسير الآية السابقة عندها:
وكلاً آتينا عِلْمًا وعِلْمًا, والقرآن يجتنب الترادف, فهناك دلالة أخرى.


الحُكم بالمعنى الذي جاء في حق داوود وسليمان عليهما الصلاة والسلام, ظاهر بأنه
تنظيم أمور الناس وضبط شؤونهم, أي هو المعنى العُرفي للحُكم, لأن كلاً من داوود
وسليمان عليهما الصلاة والسلام كان نبيًّا ملكًا.


وخُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث نـزل سيدنا إسرافيل, وسيدنا جبريل كان
حاضرًا, وخيَّره بين أن يكون مَلِكًا نبيًّا, أو أن يكون نبيًَّا عبْدًا, فأشار له
سيدنا جبريل أن تواضع, فقال: بل نبيًا عبدًا.


لكن عندما ننظر إلى هذا اللفظ المكرر مع الأنبياء, فإنه يفيد لفظًا تربويًا كبيرًا.


فالإنسان عندما يحكم نفسه ويضبط شؤونها, فقد يكون هذا الحُكم من باب العِصمة بحيث
لا يستطيع تجاوز ذلك, وهذا في حقِّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, فشؤونه كلها
محكومة بأمر الله سبحانه وتعالى, فلا يستطيع أن يعصي.


ألم تر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة, عندما ذهب ليحضر العُرس سلَّط
الله عليه النُعاس والنوم, فنام؟!


إذًا: إما أن يحكم الإنسان شؤون نفسه بأمر الله, فيكون ممن أوتي الحُكم, بمعنى أنه
صار مالكًا لنفسه لا مملوكًا, أو أن يكون بمعنى العِصمة, أي: أن الله سبحانه وتعالى
آتاه الحُكم, بحيث لم يكن مُكتسِبًا بالرياضة والتربية ذلك الحكم, فيكون بمعنى
العِصمة, وهكذا يكون ضبط شؤون نفسه وأعماله كلها بأمر الله سبحانه, وهكذا كل
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.


ومن العجائب أن الله سبحانه وتعالى يحكي عن سيدنا يحيى فيقول:
{وَآتَيْنَاهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] فكان لا تقوده نفسه وهو في صِباه, إنما يقوده أمر
الله سبحانه وتعالى وهو طفل صغير.


ويقول سيدنا عبد الله بن عباس: مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ, أي
تفاعل مع القرآن الكريم وهو في صِباه, فَهُوَ مِمَّنْ أُوْتِيَ الحُكْمَ صَبِيًّا,
لذلك ينبغي علينا أن نعتني بأطفالنا, وألا نقف في تعليم القرآن على مجرَّد التحفيظ,
بل لا بد من غرس الحُبّ, فيجب ألا نورِّث الأطفال الكراهية, وأن لا نتعامل معهم
بالاستبداد ولا بالقمع, فقد شبعنا استبدادًا وقمعًا, بل يجب أن نُخرِّجَ جيلاً
يتعلم كيف يكون ذا شخصية.


هذا في معنى الحُكم, فما معنى النبوَّة: {أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ
الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ}؟


النبوّة: تعني العِلْم بالله الحاصل بسبب وحي المَلَك, فهذا العِلْم يُسمّى
النبوّة.


أما الرسالة فلها معنى آخر: فالرسالة فيها نظام, وهي هدية من السماء تنـزل إلى
الأرض ليُبلّغها هذا النبيّ إلى الناس, فيكون بهذا التبليغ نبيًّا ورسولاً.


فالرسالة: خبر يُبلَّغ للناس: كالأمر والنهي وأيِّ خطاب من الله سبحانه وتعالى,
ينقله الرسول إلى الناس.


والنبوّة: عِلْمٌ بالله سبحانه, ويأتي هذا العِلْم بسبب وحي المَلَك.


أما إذا كان هذا الوحي مُنحصِرًا بالإلهام, لا من طريق المَلَك, فلا يكون صاحبه
نبيًّا, ومثاله قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ
فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي}
[القصص: 7] فهنا لم يحصل الوحي لأم موسى بالمَلَك, وإنما حصل بمجرد الإلهام.


ونحن لا ننفي عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحيَ الإلهام, إنما الأصل في الوحي
أنه وحيُ مَلَك, ويُضاف إليه وحي الإلهام, أما إذا كان الوحي مُنحصِرًا بالإلهام,
فعندها لا يُطلق عليه اسم النبيّ, وإنما يكون صِدِّيقًا, أو وليًا, أو صالحًا ...
كما ورد في حقّ السيدة مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] فلم يكن لها
النبوّة, لأنه لم يوحَ إليها بواسطة مَلَك, وإن اجتمعت مع مَلَك, إذ ليس كل من
اجتمع مع مَلَكٍ نبيّ, إنما الذي أوحى الله إليه بواسطة المَلَك هو النبيّ.


نذكر بعض الآيات التي اشترك فيها وحي الرسالة ووحي النبوّة, أي في نفس الوقت فيها
أنبياء ورُسل:


في سورة النساء: {وَأَوْحَيْنَا} أي وحي إنباء وإرسال,
{إِلَى إِبْرَاهِيمَ} وهو
نبيّ ورسول, {وَإِسْمَاعِيلَ} وهو نبيّ ورسول,
{وَإِسْحَاقَ} وهو نبيّ ورسول,
{وَيَعْقُوبَ} وهو نبيّ ورسول, {وَالأَسْبَاطِ} وهم أنبياء وليسوا برُسل, فلفظ
(وَأَوْحَيْنَا) عمّ الرُسل والأنبياء في هذه الآية, {وَعِيسَى} وهو نبيّ ورسول,
{وَأَيُّوبَ} وهو نبيّ ورسول, {وَيُونُسَ} وهو نبيّ ورسول,
{وَهَارُونَ} وهو نبيّ
ورسول, {وَسُلَيْمَانَ} وهو نبيّ ورسول,
{وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} وهو نبيّ
ورسول, {وَرُسُلاً} بالإضافة إلى هؤلاء,
{قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ
وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا،
رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 163-165].


ثم لماذا اختار صاحب هذا النظم لفظ (النبيّ), ولم يقل: على رسول جاء بالتوحيد؟


نقول: لأنه يتحدث في مقام الصلاة والسلام على نبيّ: (ثم سلام الله مع صَلاته على
نبيٍّ), فوافق بهذا نص القرآن, حيث قال الله فيه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ
يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] ولم يقل: على الرسول, فوافق المُصنِّف
بذلك نص القرآن, لأن القرآن في مقام الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء
بـ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}.


إذًا: النبوّة أعمّ من الرسالة, فليس كل نبيّ رسولاً, لكن كل رسول هو نبيّ.


وعلى هذا, وفي منطق الرياضيات (أو المجموعات), فمجموعة الأنبياء أوسع من مجموعة
الرُسل, وهناك مجموعة أوسع من مجموعة الأنبياء, وهي مجموعة الأولياء, إذ كلُّ رسول
هو نبيّ ووليّ, وكل نبيٍّ هو وليّ, أما الولي فليس برسول ولا نبيّ.


وبالتالي, وفي منطق المجموعات, فدائرة الولاية أوسع الدوائر, وهنا التبس على البعض
حين قرأ بعضًا مما كتبه أهل التدقيق العالي, فقالوا: إن الشيخ محيي الدين يكفر حين
يقول: دائرة الولاية أوسع من دائرة النبوّة.


وهذا من جهلهم, لأن هؤلاء العلماء كانوا دارسين للرياضيات والفلك ... فتحدَّثوا
بلغة المنطق وبلغة الرياضيات, وجاء بعض من لا يفهم لغتهم فأوَّلها على غير مرادهم.


ولا شك أن الرسول النبيّ الوليّ, الجامع بين الثلاثة, هو أفضل الثلاثة, وأفضل كل
الخَلْق هو النبيّ الرسول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.


في الآيات القرآنية نجد لفظ (النبيّ) ولفظ (الرسول) يتكرران, وفي مواضع متعددة:


- نقرأ في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [45] فأتى في هذه الآية بالهوية (النبيّ), وبالوظيفة
(الرسالة).


- وفي سورة الأعراف: {فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ
الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ} [158].


- وقال في سورة آل عمران: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُ} أي على طريق التوحيد ونفيِ الشرك, {وَهَـذَا النَّبِيُّ} أي سيدنا
محمد عليه الصلاة والسلام, {وَالَّذِينَ آمَنُواْ} [68].

- وقال في سورة
الأحزاب: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [6] أي سيدنا
محمد عليه الصلاة والسلام.


- وقال في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا
أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} أي سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام,
{وَلا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ..} [2].

- وقال في سورة
التحريم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} أي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم,
{جَاهِدِ
الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [9].


- وقال في سورة الفرقان: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ
الْمُجْرِمِينَ} فلا يكون نبيّ إلا ويقابله عدوٌّ من المجرمين, حتى يظهر تقابل
الحقّ والباطل, تقابل الخير والشرّ, تقابل النور والظلمات, {وَكَفَى بِرَبِّكَ
هَادِيًا وَنَصِيرًا} [31] فكان المقابل لموسى عليه الصلاة والسلام فرعون, وكان
يقابل سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم أبو جهل, لذلك قيل فيه: فرعون هذه الأمة.


وهذا من باب المشاكلة, فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبيًّا ويقابله عدوٌّ له,
وموسى عليه الصلاة والسلام كان نبيًّا ويقابله عدوٌّ له.


وكأن هذه سُنّةٌ من سُنن الله, حتى في وراثة الأنبياء, فإذا كان هناك أحد أهل الله
الذين يرثون مقام الأنبياء: (عُلَمَاءُ أمَّتِي كأنْبِيَاءِ بَنِي إسْرائِيْلَ),
فإن الحق سبحانه وتعالى يُوجد أمام كل وليّ عدوًا من المجرمين, وذلك إذا كان في
مقام الوراثة الصادقة.


- وقال سبحانه في سورة آل عمران: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ
رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [146] رِبِّيّون أو رَبَّانيّون: أي الذين تخلَّقوا بأخلاق
الربِّ سبحانه, ومن أخلاقه: التعريف, فمن كان يَعْلَم ويُعلِّم, ويعرف ويُعرِّف,
فهو رَبَّاني, وهذا أعلى معنى للرَبَّاني, والله سبحانه وتعالى الذي اسمه العليم,
علَّم الإنسان ما لم يعلم, فإذا أردت أن تكون رَبَّانيًا, فينبغي عندما تتعلّم أن
تُعلِّم, فإذا تعلَّمت ولم تُعلِّم لا تكون رَبَّانيًا.


- وقال في سورة الأنفال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} أي سيدنا محمد صلى الله عليه
وسلم, {حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [64] أي ومن اتبعك
من المؤمنين حسبه الله.


- وقال في سورة الممتحنة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ
يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا
يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ
فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
[12] والمقصود من لفظة (النبيّ) هنا سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم.


- وقال في سورة الأحزاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ
أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي أعطيتهن مهورهن,
{وَمَا مَلَكَتْ
يَمِينُكَ} [50] أي من الجواري, وكان عنده صلى الله عليه وسلم مارية القبطية, تسرّى
بها, وهي هدية المقوقس.


إذًا: إذا ورد في القرآن لفظ (النبيّ) بإضافة الألف واللام فالمقصود سيدنا محمد
عليه الصلاة والسلام, وإذا ورد لفظ (نبيّ) دون الألف واللام فهو عام لكل الأنبياء.


ولفظة (النبيّ) موجودة ومتكررة في نسخ الإنجيل الأربعة الموجودة الآن, ولا يتنبه
إليها من يقرأ الإنجبل منهم, وهذه اللفظة تشير إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام,
لأن القرآن ما أتى بلفظة (النبيّ) إلا والمراد به سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.


- وأيضًا في سورة التحريم قال: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ} أي سيدنا
محمد عليه الصلاة والسلام, {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [8].


ولتأكيد المغايرة بين معنى النبيّ والرسول:


- نقرأ في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا
وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} [51] فالقرآن يأتي باللفظين لتأكيد التغاير في المعنى.


- وكذلك في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ
صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} [54].

- وقال في سورة
الأحزاب: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ
اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [40] فهو رسول الله وهو خاتم النبيين, فلا يكون
بعد بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيٌّ أبدًا, فهو خاتم النبيين صلى الله
عليه وسلم.


- وفي السُنَّة دقَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم في لفظة (النبيّ) و(الرسول),
وذلك لبيان المغايرة في الدلالة, ففي صحيح البخاري, يقول البراء بن عازب رضي الله
عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:


(إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاةِ, ثُمَّ اضْطَجِعْ
عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ, ثُمَّ قُلْ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ,
وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ, وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ, رَغْبَةً وَرَهْبَةً
إِلَيْكَ, لا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْكَ إِلاّ إِلَيْكَ, اللَّهُمَّ آمَنْتُ
بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ, وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ, فَإِنْ مُتَّ
مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ, وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ
بِهِ, قَالَ (أي البراء): فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ, فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحفِّظه إياها, وهو يعيد العبارة
أمامه, قال: فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي
أَنْزَلْتَ, قُلْتُ: وَرَسُولِكَ, فهو يريد أن يقول: ورسولك الذي أرسلت,
قَالَ: لا,
وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ, وكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: انتبه فالدلالة
مختلفة, وهذا تدقيق رسول الله صلى الله عليه وسلم, ليجعلك فاهمًا, وليجعلك مدركًا
للدلالات, فهذا مما يؤكِّد التغاير في المعنى.


- وجاء في سورة الفتح قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رسول اللَّهِ} [29].


- وفي سورة النساء: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ رسولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ}
[157].


- وفي سورة المائدة: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رسولٌ قَدْ خَلَتْ مِن
قَبْلِهِ الرسلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ} [75] أي مثل
كل البشر.


- وقال في سورة آل عمران: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} [81] وهنا هذا اللفظ يستغرق في المعنى كل الأنبياء, بما فيهم الرُسل عليهم الصلاة
والسلام:


{وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ} أي كل من هو نبيّ, ومُضمَّن فيهم
الرسل, {لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} وهو
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, حيث يأتي للأنبياء, {مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} فأخذ الله العهد على كل الأنبياء, سواء كانوا
أنبياء أو رُسل, إذا اجتمعتم بمحمد عليه الصلاة والسلام, فعليكم الإيمان به ونصرته.


ولماذا هذا الخطاب؟


حتى يكون حُجّة على كل العالم, وحتى لا يقول شخص: أنا أنتمي إلى موسى, أو إلى
عيسى ... فعيسى وموسى يبايعون سيدنا محمدًا عليه الصلاة والسلام, وما سِرُّ اجتماع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل الأنبياء والمرسلين في بيت المقدس (نسأل الله أن
يعيده للمسلمين) إلا ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وليتحقق هذا العهد
الذي أمر الله به كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام, وتقدّم رسول الله فصلَّى بهم
إمامًا, {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ
أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} فالله يشهد
على هذا العهد, أي هو الشاهد على هذا العهد الغليظ.


وهنا أتى بلفظ النبيين في حقّ الكُل, ثم قال: {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ} وما قال:
(نبيّ), لأنه يريد أن يُبيّن تمام السيادة, لأن أفضل الجميع من كان رسولاً نبيًّا,
فهنا المقام يستلزم أن يقول: {رَسُولٌ} وأن لا يقول: (نبيّ), لأنه يريد التفضيل,
وعندما يبايعُ الرُسلُ والأنبياء كلُّهم, فإنهم سيبايعون سيِّدَ الرُسل, سيبايعون
رسولاً.


- وعندما دعا سيدنا إبراهيم, قال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ}
[البقرة: 129].


- وقال في سورة البقرة في معرض الامتنان: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً
مِّنكُمْ} [البقرة: 151].


- وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].


- وقال: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ
وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101].


- وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [الأعراف: 158] فكل من كان من الناس,
مُخاطَبٌ بهذا الخطاب, فلم يعد من الممكن أن يقول قائل: أنا لا تخاطبني بالإسلام,
فأنا قد اتبعت موسى, أو عيسى ...


وهذه نغمة جديدة بدؤوا بتلحينها اليوم في العالم كله, فيقولون: اتبع ما بدا لك:
سيِّدَنا عيسى, أو موسى ... فكلهم رسل, وكل ما جاؤوا به وحي, لكن اختلفت الشرائع,
وقد يصدر هذا من مظاهر إسلامية, فتقول هذا الكلام, وهذا من أخطر ما يُقال في هذا
الوقت.


والله سبحانه يقول لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فالخطاب عالمي,
{إِنِّي} أي محمد عليه الصلاة والسلام,
{رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا} [الأعراف: 158] بدون استثناء, فلا يوجد شخص على الكرة الأرضية مُستثنَى:
يهوديّ, غير يهوديّ, وَثَنِيّ ... فكل شخص يقول: أنا من الناس, مُخاطَب بهذا
الخطاب: {إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}.


وهنا نلاحظ التأكيدات:


{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فهل ستخرج نفسك من الناس؟
{إِنِّي} وهذا لفظ يفيد
التأكيد, {رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ} وربما يقول قائل: إلا نحن, فقال له:
{جَمِيعًا} أي بدون استثناء, وحتى لا يقول أهل الكتاب: نحن لا علاقة لنا بالخطاب,
فهذا للناس, أي الوثنيين الذين لا دين لهم, قال لهم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ
جَاءكُمْ رسولنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا
جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 19].


وفي الآية السابقة: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رسول اللّهِ إِلَيْكُمْ
جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ
يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرسولهِ} نلاحظ التأكيد الأخير, فإذًا لا
يُكتفى أن يؤمن بالله, وهنا توجد إشكالية جديدة الآن في هذا الوقت, فهناك من يقول:
القاسم المشترك بيننا هو الإيمان بالله.


نقول: لا, فالذي يجمعنا هو الإسلام, ويا ليتنا نفهم ما يعنيه الإسلام, فالإسلام
يعني الرحمةَ للجميع ولو لم يكونوا مسلمين, يعني الأخوَّةَ الإنسانية للجميع ولو لم
يكونوا مسلمين, يعني الوقوفَ مع المُخالِف في العقيدة ولو لم يكن مسلمًا, والإحسانَ
إليه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}
[الممتحنة: 8].


إذًا فعندما نرفع كلمة الإسلام, فلا يقابلها اليوم أي شيء في العالم, لأن الإسلام
يعني أنه إنساني, فالإسلام يساوي الإنسانية, والإسلام لا يقوم بصراع مع مُخالِف في
العقيدة.


الآن مع الأسف الشديد, هناك, مِنْ غَيْرِ دين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام, مَنْ
يقف ليقول: (افصلوا الدين عن الحياة), والسِر في ذلك أنه لا يملك التشريع, لكن
الإسلام عنده تشريع واسع, فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ويُفصِّل فيها, فهو تشريع
مَرِن, قابل للاستنباط, قابل للاجتهاد, يُغطي كل جوانب الحياة, فيه العدالة, فيه
المساواة ...


إذًا عندما نقول: الإسلام قادر على أن يحكم العَالَم, لا أن يحكم بلدًا فقط, فهذا
يعني أنه لا يُلغي الآخر بل يتعاون معه, يعني أن الحساب على الاعتقاد يكون في
الآخرة, أما في الدنيا فالعيش المشترك, وهذا ما يمليه علينا ديننا, لكن العقيدة يجب
أن تكون واضحة, إذ لا يُقبَل عند الله إلا من آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام:
{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19].


وفي خلاصة الأمر: تعريف النبيّ: هو إنسان, ذكر, حُر, سليم عن مُنفِّر بطبعه, أُوحي
إليه بشرعٍ يعمل به:


1- إنسان: فلا يصح أن يكون من الملائكة, ولا من الجِنّ, ولا من الحيوان.


2- ذكر: فلا يكون امرأة.


3- حُرّ: فلا يكون عبدًا.


4- سليم عن مُنفِّر: إذ لا يوجد فيه ما يُنفِّر الخَلق في جسده, (مَا بَعَثَ اللهُ
نَبِيًّا إلاَّ حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الصَّوْتِ), فلا يصح ما يُذكر في بعض كُتب
التفسير عن سيدنا أيوب عليه السلام, من أنه سال القيح والدم والدمامل على جلده, بل
كله كذبٌ في كذبٍ, إذ لا يصح المُنفِّر, وكل هذا من أخبار بني إسرائيل والكُتبِ
السابقة, لا مما ثبت من طريق الوحي وبُلِّغناه عن طريق سيدنا محمد عليه الصلاة
والسلام.


فلا يمكن أن يكون هناك نبيّ وعنده مُنفِّر: رائحة مُنفِّرة, منظر كريه, كل نوع من
أنواع المُنفِّرات ... بل حتى صوته يكون حسنًا, وحتى وجهه يكون حسنًا.


لذلك يجب أن نفهم من هذا, أن من أراد أن يكون من أهل وراثة الأنبياء, نقول: لا بد
أن تبتعد عن التنفير, فإذا كُنت مُنفِّرًا فبينك وبين الأنبياء بَوْنٌ, وقال
سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].


5- أوحى الله إليه بشرع, فهو مُنضبط به, فإذا أُمر أن يُبلِّغَ الناس يصير نبيًّا
رسولاً.


* قد يقول قائل: النبيّ إنسان, فما معنى قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] ونحن نقول: لا يكون
النبيّ إلا إنسانًا, فلا يكون من الجِنّ أنبياء؟


نقول: معناه: ألم يأتكم رسل من بعضكم, فهذا على التغليب, ونجد هذا الأسلوب أيضًا في
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} [البقرة: 34] فإبليس لم يكن من الملائكة, يل كان من الجِنّ, لكن الخطاب كان متوجّهًا على وجه
التغليب, فـ: (مِنْ) هنا للتبعيض.


* وكذلك قد يلتبس على البعض قوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً} [الحج: 75] فما معنى هذا؟


نقول: أي سفراء بينه وبين أنبيائه, لا أنه يُرسل الملائكة إلى الناس, إنما إلى
الأنبياء.


* كذلك يأتي من يقرأ قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ
يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} [الأنعام: 38] فيقول: القرآن
يتحدّث عن الحيوانات والطيور على أنها أمة, ثم يقول: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خلا
فِيهَا نَذِيرٌ} مع أن النبيّ لا يكون من الحيوانات, فما معنى هذا؟


نقول: يجب أن نفهم القرآن بقرائنه.


بعضهم يظن أن التنقيط في اللغة العربية كان تطوّرًا, لكن نقول: إن التنقيط والتشكيل
في اللغة العربية قد حذف التَّعقُّل والتَّفكُّر, فلقد كان العربي يُعمِل عقلَه
فيقرأ النص بجملته وقرائنه غير منقوط وغير مَشْكُول, ثم يستطيع أن يميز بين (يحيى)
و(تحتي) من القرائن, وهذا يحتاج إلى فِطنة, فالتنقيط والتشكيل في ظاهره عمل جيد,
لكنه أنتج تخلُّفًا عقليًّا, وأنتج تراجعًا في الذكاء.


لذلك فقوله: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} يجب أن نقرأ الآيات
التي قبلها والتي بعدها حتى نفهم معناها من القرائن.


قال سبحانه: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} يعني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم,
{بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ,
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} [فاطر: 24-26] فكل
الآيات تتحدث عن الإنسان, وعن البشر, فإذًا {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ} أي في البشر, لأن
كل القرائن في هذه الآيات تتحدث عن البشر: الذين عُذِّبوا, الذين أُخِذوا, ثم أخذتُ
الذين كفروا ... ولا يُعرف تكليف إلا في بني البشر, أو في معشر الجن والإنس, لكن
الاختصاص كان بالرسالة للإنس.


* أما بالنسبة للأنثى, فيقول صاحب متن بدء الأمالي: (وما كانت نبيًّا قط أنثى).


ومريم عليها من الله الرضوان وعليها السلام, صرَّح القرآن بأنها صِدِّيقة, فقال:
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75].


وعندما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث السيدة مريم, قال:
(خَيْرُ
نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ, وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ
خُوَيْلِدٍ), وفي رواية: (خَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ, وَخَيْرُ
نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ) فهما روايتان, إحداهما فيها تقديم مريم في
لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأخرى فيها تقديم لفظ خديجة.


وهذا الاقتران يعطي أيضًا من الدلالات الكثيرة, التي تدّل مع تصريح القرآن, على أن
مريم صدِّيقة, وقد ورد أن قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} معناه: وحي
إلهام.


وقد يقول بعضهم: لِمَ لا يوجد نبيّة أو رسولة؟


نقول: هذا لحكمة, فالله سبحانه وتعالى عندما يُوزِّع الوظائف فإنه يُكلِّف كل إنسان
بحسب استعداداته, وها هو ربنا سبحانه وتعالى يذكر لنا امرأة فرعون:
{قَالَتْ رَبِّ
ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] وما أعظم هذا المقام
العظيم!


إذًا هذا الاختصاص في النبوة للرجال لا يُنقص من قَدْر المرأة, فينبغي أن تعلم
المرأة أن الله سبحانه وتعالى ساوى في التكاليف الشرعية وفي كل المعاني الروحانية
بينها وبين الرجل, أما قوله تعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران: 36] فإنه يتعلَّق ببنية الجسد, فالمرأة عندها ضعف يُعطِّلها ولا ينقص من مقامها, إنما
يرفع مقامها: فعندها أوقات في كل شهر تضعف فيها, وعندها مُدة الحمل التي هي تسعة
أشهر, وعندها مدة النِفاس, وعندها مدة الإرضاع, وعندها مدة العناية بالطفل
والحضانة ... وهذه كلها من أسرار الله سبحانه وتعالى, وبها ترتقي المرأة في الدرجات
عند الله سبحانه.


إذًا فلا يعني هذا الإنقاصَ من قدرها, وعدم التماثل بين الرجل والمرأة إنما هو في
البنية والجسد فقط, وأما في المعنى والروح والدرجة والمقام, فالله سبحانه وتعالى
كان يذكر: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] ولم يقل: فضلنا
النساء على الرجال, ولا فضلنا الرجال على النساء, فكم من امرأة هي أفضل من ألف رجل,
وكم من رجل هو أفضل من ألف امرأة.


إذًا: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] هو خطاب عامّ
تَوجَّه إلى الرجل وإلى المرأة, فالمرأة الصالحة هي خير من الرجل الفاسد, والرجل
الصالح هو خير من المرأة الفاسدة.


وعلى هذا يأتي التنافس في المعاني, في البناء, في الرُقي, في الكرامة الإنسانية ...
أما الاختصاص فهو من الله سبحانه وتعالى, حيث يختصَّ هذا, ويختص تِلك, وهو الذي
يُوزِّع خلقه كما يشاء.


أخيرًا: ما عدد الأنبياء والرُسل؟


بعض كتب التفسير تذكر: مائة وأربع عشرين ألف وكذا ...


نقول: الأسلم أن نُمسك ونتوقّف ونَكِل الأمر إلى الله, ونقرأ قوله تعالى:
{مِنْهُم
مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].


إذًا لا نذكر عددًا, ونتوقّف عن العدد, إنما أوجب الله علينا معرفة خمسة وعشرين اسم
رسول موجود في القرآن, وسيأتي بيان بحثهم في قسم النبويّات, أو العقائد النبوية, إن
شاء الله تعالى, نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لذلك, إنه نعم المجيب, والحمد
لله رب العالمين.
أعلى الصفحة